عالم ما بعد محرقة غزة: هل بلغت الحضارة الغربية منتهاها؟ Previous item عالم ما بعد محرقة غزة... Next item عالم ما بعد محرقة غزة...

عالم ما بعد محرقة غزة: هل بلغت الحضارة الغربية منتهاها؟

قد تتحول غزة الى أسطورة. فهذا الحيز الجغرافي الضيق الذي لا تتجاوز مساحته 365 كيلومترا مربعا، بكثافة سكانية هي الأعظم في العالم (8,121 نسمة لكل كيلومتر مربع واحد، بحسب تقرير الديموغرافيا لعام 2023  قلَب العالم رأسا على عقب، على الرغم من كل محاولات وسائط الاعلام الغربية السائدة لحجب حقيقة ما اجترحته غزة من معجزات، وما أحدثته من زلزال متصل لا بأعداد المجازر الصهيونية التي راح ضحيتها عشرات آلاف الأطفال والنساء فحسب؛ ولا بحجم ونوع الدمار الذي حاق بعمران غزة وشجرها وحرثها وبحرها وجوها، إنما أيضا بالصمود الاعجازي الذي أبداه أهل هذا الجيب الجغرافي الضيق الواقع في قلب منطقة عربية لم تعرف الهدوء والاستقرار يوماً منذ أن وطأتها أقدام الرجل الأبيض المستعمر.هي أسطورة ملحمية سوف تتفوق، بمآسيها الموثقة بالصوت والصورة، وببطولات أبنائها وصبيانها وصباياها وشبابها وشاباتها ونسائها وشيوخها، الذين وقفوا شامخين، مغروسة أقدامهم في طين تلك البقعة النانو (المتناهية الصغر) من الكرة الأرضية، غير عابئين بكل أنواع الجنون التي أنزلها الصهيوني على رؤوسهم لأكثر من أربعة اشهر بلا توقف – سوف تتفوق  (وقد تفوقت بالفعل) على كل ما سبقها في التاريخ المعاصر من معاجز صمود اشتهرت بها مدن عالمية مثل ليننغراد وستالينغراد في الاتحاد السوفييتي والعاصمة الفيتنامية الشمالية هانوي.

الأجيال الشابة الحالية، من بلدان العالم قاطبة، بما فيها الشباب الغربي المختطَف وعيه من قبل أجهزة الدولة العميقة وآلياتها وشخوصها، لم تعايش ويلات الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولا لامست عن قرب أو عن بعد كوارثها ومصائبها التي حاقت بملايين البشر. اليوم كتُب لهذه الأجيال الشابة المتعلقة بآخر صيحات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، أن ترى بأم أعينها في غزة ماذا تعني مشاهد فظائع ومآسي الحربين العالميتين الأولى والثانية التي كانت حتى وقت قريب تتسلى بمشاهدتها على الشاشة الفضية أو شاشات السينما، فكان أن تفجرت ينابيع وعيها ومداركها على كارثة تحيق بها. فقد أماطت غزة اللثام عن حقيقة اللئام الذين يحكمونها والذين ظلوا يخدعونها بمعسول الحرية وصناديق الاقتراع وباستثنائيتهم قبالة الشعوب الأخرى “القابعة” في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية؛ فإذا هي تكتشف فيهم مخلوقات خطيرة على مجتمعاتها كما على المجتمع البشري بأسرة. مخلوقات تعتاش على تصنيع الحروب لتدوير مصانع مجمعاتها الصناعية الحربية، وعلى القتل وسفك الدماء، لتأمين ديمومة إبقاء دورة التدفقات النقدية في جيوب عصبة نخبتها “المميّزة”.

على التاريخ أن يُنصف غزة بأن ينسب لها فضل فضح الزعامات الغربية المتصدية للدفاع عن قيم الحضارة الغربية، وايصالها الى هذا المستوى المريع من الابتذال والانحطاط. فغزة، هي التي أجبرته على كشف مستوره، وتجريده من أحد أمضى أسلحته الخبيثة، وهو سلاح “القفازات الناعمة” الملغومة بسموم الحداثة المزعومة، وهي التي صارت مقرونة بالحروب والغزو وإشاعة التوترات في العلاقات الدولية، والاقتصاد النهبي “الحداثي”، وتسليع الإنسانية ومحاولة تحويلها الى مسخ حسي بمسحات سحرية تفقدها جوهوها ومعنى وجودها. لكأنما الحضارة الغربية أصابها المس فجأة، فغدت تتصرف على غير هدى، ما تنفك تدخل في نوبات جنون لم يكن أحد يتخيل يوماً أن هذه الحضارة التي قدمت للبشرية المعاصرة، عقولا وعِلماً وتمدناً، يمكن أن تقع في منزلق التيه  بالغ الخطورة مثل هذا الذي تتخبط فيه.

جرائم الغرب في غزة، لا نظير لها في التاريخ. فهو الذي سرق أرض فلسطين وأهداها لليهود الصهاينة، وأمن لها القوة البشرية والعسكرية والاقتصادية والسياسية. ولولاه لما تعرضت غزة لهذا الهولوكوست الذي نافس به الصهاينة كل أنواع جرائم النازية وجرائم المحتلين الغربيين لبلدان أمريكا الشمالية وأفريقيا. وهو الذي يداوم منذ ما قبل انشائه للكيان الغاصب، على تغطية جرائمه التي لا تتوقف ولو ليوم واحد ضد أصحاب الأرض والحق الفلسطينيين.

هي الآن تبدو كما لو أنها دخلت طوراً يذكّر بالطور الذي دخلته الحضارات التي سادت ثم بادت، من روما القديمة الى الإمبراطورية العثمانية، الى الإمبراطورية البريطانية، فضلا عن حضارات ما قبل التاريخ التي سبقتها، والتي كان انحدارها الأخلاقي، نقطة البداية لتدهور أوضاعها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إيذاناً بانهيارها.

أمريكا لن يستثنيها هذا المصير المحتم الذي استحال قاعدةً تقريبا، ربما تصح نسبتها الى الحتمية التاريخية “Historical determinism” في فلسفة كارل ماركس و فريدريك انجلز (بيانهما الشيوعي لعالم 1848) بشأن التاريخ البشري الذي وصفاه بأنه تاريخ مرير من الصراعات الطبقية التي تجعل من التغيير، في انعطافاته الحادة، حتمياً؛ والى ما حاول (البيان) النسخ على منواله في وقت لاحق (في 1987) المؤرخ والأستاذ الجامعي البريطاني بول كينيديPaul Kennedy” في مؤلفه “صعود وسقوط القوى العظمى: التغير الاقتصادي والنزاع العسكري من 1500 إلى 2000“، إنما بتسبيب يبدو مغايراً في الشكل، لكنه مطابق لنبوءة ماركس وانجلز في الجوهر.

استئناساً بالصيرورة التاريخية إياها، فإن هذا يُفترَض أن يحدث، رغم أن أمريكا تعدُّ نفسها وريثة لكل الحضارات التي سبقتها، وإنها استلهمت دروس سقوط الحضارات البائدة التي سبقتها، وإنها تحوطت وسيّجت نفسها بأسيجة مختلفة الطبقات والتشعبات لضمان ديمومتها. ولهذا يجب أن تضمن خلودها، المضمون هو الآخر بعولمة حضارتها وأمركتها، التي وجدت صداها في تنظيرات جوقة نخبتها الأكاديمية الفاسدة، الزاعمة بأن التاريخ وصل الى منتهاه مع الحضارة الأمريكية، كما ذهب فرانسيس فوكوياما الذي تحول فيما بعد الى مسخرة بؤس التنظير الفلسفي الأمريكي، لدى الغربيين كما الشرقيين.

بلا شك، تفتقد أمريكا اليوم ادوارد سعيد الذي صارحها، ومن خلالها “المركزية الحضارية” الغربية، بحقيقتها المُرة التي ظلت تأنف منها ومن سماع ما يضجرها بالحديث عنها، وما برحت تقمع كل الأصوات القليلة التي كانت تدعو الى التأمل والمراجعة وإعادة تقييم الحصاد. كان الراحل إدوارد سعيد ونظراؤه من مفكري وأكاديميي أمريكا الأحرار، يسخرون من منظري السلطة الحاكمة أمثال فرانسيس فوكوياما (Francis Fukuyama)، على مشاركتهم في “مهرجانات” “تأبيد” وعولمة حضارة الرجل الأبيض الاستثنائي.

هل هذا يعني أن الغرب الجماعي النازع بكل جبروته وطغيانه، وعلى نحو فاقع وصادم، نحو زمن الوحشية الأولى، بحاجة الى ما يشبه “ضجة في صف فلسفته النفعية الخالصة؟”.  ليس بالمعنى الذي قصده المفكر العربي اللبناني جورج حنا في كتابه الشهير “ضجة في صف الفلسفة” – رغم جواز الاسقاط على نحو بديع في المسألتين – وإنما بمعنى نزول الغرب من شجرة الاستثنائية الميتافيزيقية، التي كان طرحها جورج حنا في مؤلفه سنة 1952، أي قبل 72 سنة، وهو يعرض للصراع القائم بين الفلسفة الميتافيزيقية وبين الفلسفة العلمية الأرضية، في سياق تحليله للقيم الإنسانية والمجتمعية؟ قد يكون الأمر كذلك، في ضوء استعصاءات حلول أزماته التي لا تنتهي، وآخرها أزمته الأخلاقية التي انفجرت في وجه العالم بفضل غزة الأسطورة.

 

  • الصورة: Shutterstock


*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني خبير في العلاقات الاقتصادية الدولية. عمل سابقاً ممثلا للبحرين في فريق مجلس التعاون المعني بملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الحرة، وملف مفاوضات تغير المناخ. صدر له ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون  “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.