علي الرواحي*
يكتسب مفهوم “الفضاء العام – Public Sphere” أهمية متزايدة ليس على المستوى النظري والنقاشات الفلسفية والبحوث الأكاديمية على المستوى العالمي فقط، بالرغم من أهمية ذلك، بل من الناحية العملية، التي تذهب لما هو أبعد، وبشكل ٍ خاص في العصر الرقمي المعولم. ففي العقود الأخيرة لم تعد المدن، ومناطق العيش والعمل، مقتصرة على الجانب المادي، كالمباني، الأنشطة التجارية، الشوارع والبنية التحتية، بل أيضا ً بكيفية إدارة المدينة من قبل الأفراد: موطنين ومغتربين على حد ٍ سواء، بما يتناسب مع التعددية العرقية، وتكون الهويات الجديدة والتوجهات الفرعية المختلفة: المتوافقة والمتناقضة مع بعضها، والتي تنشأ بشكل ٍ مستمر بين أفراد المجتمع.
تدور هذه الورقة حول مفهوم الفضاءات العامة أو العمومية في مسقط، ليس بالمعنى الجغرافي والمكاني الضيق، بالرغم من أهميته القصوى في معمار المدينة، والجانب النفسي والتفاعلي للفرد، وبشكل ٍ خاص بعد أحداث عام 2011، بل أيضا ً وانطلاقا ً من جغرافية العاصمة العُمانية، في انعكاسات التقسيم الجغرافي بما يتضمنه من تقسيم ريفي، وقبلي، ومناطقي على العقل الجمعي الذي تساهم في تكوينه وذلك من خلال معالجة أسئلة محددة، حول تأثير المسميات العائلية والقبلية للأماكن العمومية (القُرى والبلدات) في الوعي الجمعي للأفراد في مسقط أولاً، وثانيا ً التساؤل حول انعكاسات وجود الريف في المدينة بما يعنيه من عراقة وعمق تاريخي من جهة، ومقاومة للتحديث بما تنسجه من علاقات تقليدية من الجهة الأخرى. ثالثاً، التساؤل حول كيفية تشكل الفرد في هذه الفضاءات الهجينة أو المتداخلة بشكل ٍ كبير وعلاقة ذلك بالزمن بما يعنيه من تحولات مستمرة، وعلاقة ذلك بالآخر الداخلي والخارجي على حد ٍ سواء له الحق في تأسيس مدينة حضرية مناسبة للعيش.
تراصف التاريخ والجغرافيا وتشكيل الوعي الجمعي
بالرغم من أن موضوع الوعي consciousness يعتبر من المواضيع العلمية والفلسفية المعقدة وغير المحسومة منذ فترة طويلة، إلا أنه يُشكل نقطة انطلاق للكثير من الأسئلة الفلسفية الراهنة، ليس حول كيفية تشكل التصورات الفردية فقط، بل وأيضا ً حول كيفية تشكل الوعي الجمعي للأفراد في مكان وزمان معيُن.فهو يرتبط بشكل ٍ وثيق بالخبرات الفردية، والتجارب الذاتية، كما يرتبط بالدماغ البشري، وبتصورات وتأثير الزمان والمكان على الفرد، وبمفهوم الذات، وحُرية الإرادة وغيرها من المواضيع اللصيقة بهذا الجانب.
فكل هذه المفاهيم التي تبدو مجردة للوهلة الأولى لصيقة بالتجربة البشرية، فهي التي تُكّون “مضامين الوعي” “contents of consciousness”. حيث تجعلنا هذه التجارب نُمايز بين الذات Self, I وبين الآخرين Others من جهة، وبين الذات البشرية والطبيعة Nature من الجهة الأخرى. فالأشياء الطبيعية، لا تمتلك تلك الخصائص والاختراعات التي يمتلكها البشر، من ضمنها الحقوق، الواجبات، الوعي، والذاكرة وغيرها. وبالرغم من أن بعض هذه الخصائص والاختراعات يبدو طبيعيا ً أكثر منه بشري، إلا أنه يتأثر بشكل ٍ كبير بالتجربة البشرية، التي تسعى لفهم الظواهر المحيطة بها، والتي تقوم لاحقا ً بتأسيس تأويلات مختلفة لهذه الظواهر الطبيعية والبشرية على حد ٍ سواء. من هنا تُعتبر التجربةExperience أساس الوعي، ومركزه الرئيسي، فهي التي تُضفي على التجارب والخبرات معنى، وقيمة. وبحسب هيغل في فينومينولوجيا الروح (1807)، فإن الوعي “إنما هو من ناحية وعيٌ بالموضوع، وهو من ناحية أخرى وعيٌ بذاته، وعيٌ بما عنده الحق، ووعيٌ بمعرفته بعين الحق[1]“. من هنا تنشأ الجدلية المستمرة بين الذات selbst، والموضوع Gegenstand، والتي تولّد الوعي بالأشياء من حولنا، وفي نفس الوقت تساهم في تغيير وعينا الذاتي بأنفسنا. فالأشياء ومن ضمنها الأسماء، والمؤسسات البشرية المختلفة، ليست بدون تأثير على وعي الفرد، بل تمنحه الوعي التاريخي والاجتماعي والسياسي أيضا ً، فهي بمعنى من المعاني أيضا ً إنعكاس لعقل الفرد، ورؤيته تجاه الواقع، وتاريخه، ومستقبله أيضا ً لحد ٍ كبير.
في هذا السياق، تنظر هذه الورقة للجغرافيا والتاريخ العُماني، ولهذه المسميات وأيديولوجيتها على أنها تُغذي الوعي الفردي بعناصره المختلفة، فالوعي لا يأتي من الفراغ كما سبق التوضيح، بل يندمج في خبرات الفرد اليومية بشكل وثيق، حيث تكون الجغرافيا السياسية في الكثير من الأحيان عاملا ً مؤسسا ً من عوامل الوعي ومضامينه. الأمر الذي يجعلنا نتحدث عن هذه الجغرافيا بشيئ من التحديد في الفقرة اللاحقة.
ديموغرافيا مسقط
تتشكل سلطنة عُمان بشكل ٍ عام، ناهيك عن العاصمة العُمانية مسقط، من تقسيمات مناطقية ذات مرجعيات قبلية، وعائلية. وهذا ينعكس على مسميات الكثير من المناطق المختلفة، فهذه المسميات تعكس سياقات تاريخية، وتُشير لمناطق نفوذ محددة لهذه المناطق، كما تُشير بدرجة موازية لتجمعات عائلية كانت مسيطرة عليها في فترات تاريخية سابقة. فالتاريخ يحضر في تضاريس الجغرافيا بطريقة لا يمكن تجاهلها، بحيث أن الرسائل الضمنية والواضحة، مهما حاول العقل الجديد وبشكل ٍ خاص غير المحلي غض الطرف عنها، فإنها تقف بالمرصاد في كل اللافتات واللوائح الإرشادية التي تُشير لأسماء المناطق والقرى العُمانية المختلفة.
فمنذ البدء، وبعيدا ً عن الجانب التاريخي المتجسد في المباني والآثار التاريخية المختلفة لها، التي تشير لصراعات مختلفة، نجد أن الأودية والقرى والبلدات ليست محايدة أيضاً، بل تملأ الفضاء العام بالمضامين التاريخية، والتجاذبات السياسية، والإرث العائلي. وهذا لا ينطبق على محافظة دون الأخرى، فهو سمة أساسية من سمات الجغرافيا العُمانية، أو ما يمكننا أن نُطلق عليه تراصف التاريخ والجغرافيا.
في هذا السياق، من الأمثلة الواضحة للعيان، خارج العاصمة في المقام الأول، نجد في محافظة الباطنة بشمالها وجنوبها – على سبيل المثال، أسماء قرى وبلدات تُنسب لأفراد ولأسر وعوائل، أو سميت بأسمائهم، تخليدا ً لذكراهم، أو لسيطرتهم عليها، أو لإقصاء الآخرين من فضاءاتها. فهناك أسوار مختلفة في هذه المحافظة، كانت لفترات تاريخية طويلة مكاناً لسكن أسُر أو قبائل معينة، كسور الموالك، سور حي عاصم، وسور المشافرة، سور الشيادي، وغيرها من الأسوار المندثرة حاليا ً وبعضها المستمرة. كما نجد في ولاية بركا بيت النعمان والذي بناه الإمام سيف بن سلطان اليعربي الملقب بقيد الأرض. بالإضافة لذلك، نجد حصن بيت الفلج والذي يشير لحقبة تاريخية في فترة السيد سطان بن أحمد لإسكان حريمه كما تقول الرواية المتداولة. علاوة على ذلك، نجد أيضا ً في خط الباطنة الكثير من المناطق المشابهة التي تُعد ولا تحصى داخل محافظة الباطنة وخارجها.
ينطبق الأمر على محافظة الداخلية أيضا ً، فهي بوصفها مركز الكثير من الأحداث الهيكيلية في التاريخ العُماني، كانت محل تجاذبات رمزية لا تقل عن بقية المحافظات والمناطق العُمانية الأخرى.فهناك مناطق وأودية بأسماء قبائل، مثل وادي بني رواحة، ووداي بني ريام، وغيرها تشتمل على الكثير من القُرى التي ظلت لفترات طويلة معاقل لها، ولتفريعاتها العائلية والقبلية.
وكما سبق القول، من الممكن أن نجد ذلك، في كل المحافظات والولايات العُمانية، ومن ضمنها العاصمة مسقط، غير أن السمة الأساسية التي تجعل مسقط مختلفة عن بقية المناطق الأخرى، هي أن الفضاء العام لا يُنتج عقل متمدن، أو عقل مؤسساتي يوازي الجهود المختلفة بالرغم من ضعفها والملاحظات الكثيرة عليها، ولا يساهم في تأسيس تفكير مقطوع الصلة بالتجاذبات القبلية والصراعات السابقة، بل وعن طريق هذه الأسماء وغيرها من العوامل الأخرى التي لا صلة لها بهذه الورقة، وهذا التوزيع المناطقي كما هو الحال في ولاية السيب – على سبيل المثال – في حيل العوامر، وسور آل حديد، وغيرها من القرى، يُغذي هذا الجانب بل ويضعه حاضرا ً أمام الأذهان بشكل ٍ مستمر.
لا يقتصر الأمر في مسقط على المسميات كما سبق التوضيح، بل يصل أيضا ً وبدرجة كبيرة لجغرافية الأماكن وطبيعتها العميقة، فالجانب الريفي يحتل في العاصمة مسقط الجزء الأكبر منها، وهذا يصل لما يزيد عن 70% من المساحة الكُلية للعاصمة.فولاية السيب، بوشر، قريات، القرم، الوطية، وغيرها من المناطق السكنية والعمرانية، تعتبر بمعنى من المعاني امتدادات للقدامة، والتراث، والجذور الريفية. بهذا المعنى، لا توجد مناطق ومدن حديثة في مسقط، إلا محاولات متبعثرة، غير منهجية، وغير منُظمة، لزرع المعمار الحديث في وسط هذا الريف الذي يسعى للتمدن بخجل. وحتى هذه المحاولات المبعثرة ترضخ تحت قدامة من نوع آخر، تتمثل – على سبيل المثال – في سكن قبائل وأسُر معينة في مناطق جغرافية محددة.
من جهة أخرى، يكتسب الفرد المندمج في الحياة الريفية تفكيرا ً “أوليا ً- Primitive” لكي لا نقول بدائي، وأفق معيشي محدود، وتأويلات غير سببية أو غير معقولة Not Reasonable Interpretations تجاه الظواهر الطبيعية المتكررة في الحياة اليومية. فالمحدودية الجغرافية والعلاقات الاجتماعية المتكررة التي يعيشها في حياته اليومية تُشكل الوعي الذي يُحركه بصفة ٍ مستمرة. فالمرض يصبح في هذه الفضاءات بفعل كائنات ميتافيزيقية، لا يمكن الوصول إليها، ولا التكهن برغباتها، ولا بأهدافها الخفية. كما أن القحط يندرج أيضا ً في نفس المسار التأويلي من حيث أنها إشارات ضمنية لغضب ٍما، يقع خارج المتناول، ولا يمكن التفاوض حوله. كما ن التعامل مع الأنواع الطبيعية الأخرى، غير البشرية، لا يتضمن حقوق، ولا يراعي واجبات متبادلة.
غير أن التسميات ليست بريئة كما يتبادر للذهن للوهلة الأولى. فهي من الناحية الفلسفية والدلالية – وهو مبحث ليس مجال الخوض في تفاصيله الدقيقة والعميقة هنا – في المقام الأول لها “دلالات خارجية[2]“، وهذه الدلالات من وجهة النظر هذه تُحيل لمواضيع وأسماء خارجية، وبشكل ٍ خاص في الأسماء، وفي هذا السياق، تُحيل على أشخاص، أماكن (أودية، أنهار…الخ). وهذا يعني بحسب كريبكه بأن هناك علاقة وثيقة بين التسمية والضرورة. غير أن الضرورة هنا ليست بالمعنى المادي أو الطبيعي فقط، بل أيضا ً بالضرورة المنطقية، أي أن هذا الإسم يعُبر أو يحيل إلى صدق واقعة ما، أو حقيقة خارجية ما.
ومن الناحية التاريخية في المقام الثاني، ليست أيضا ً على وجه ٍ واحد، فالأسباب كثيرة ومتعددة، ومن ضمنها في هذا السياق “تغيير الإسم بسبب احتلال خارجي لبلد ٍ معُين[3]” وذلك ما حدث في القرى الفلسطينية، وسيرلانكا بعد أن كان إسمها سيلان. كما أن السبب الثاني يعود “لتغيير بسبب ثورة أو أيدولوجية جديدة تريد نسف أي علاقة بالتي قبلها[4]“، كما هو الحال مع بعض المدن الروسية، وغيرها.في حين تعود بعض العوامل المختلفة كتغيير “كتابة بعض الأماكن مع مرور الزمن واختلاف نطقها بين اللغات واللهجات” (كريبكه). كما نجد أن هذا التغيير في أسماء البلدن “يحدث بأسماء الملوك والحكام أو حتى بأسماء القبائل ذات النفوذ”(كريبكه). غير أن هذا العامل الأخير يثير الكثير من التساؤلات ليس حول نفوذ الحُكام في الدول التقليدية، بل أيضا ً يصل لنفوذ بعض أفراد القبائل المتنفذين في السيطرة على جغرافيا الأمكنة، وتثبيتها في فترة زمنية معينة. الأمر الذي يجعل هذه المناطق عُرضة لتنازع جهوي ومناطقي كبير بين أفراد المنطقة الواحدة الذين ينتمون لتاريخ متقارب بشكل ٍ كبير إن لم يكن متطابقا ً مع الأفراد الآخرين.مما يعني أن الوعي الشقي Unhappy Consciousness كما يقول هيغل يستمر بالحضور في أفق الفرد، بين العيش في وسط هذه التجاذبات التي تسحب الفرد للوراء، وبين الرغبة العميقة في مغادرتها، والانضمام لفضاءات عمومية تتسم بالتعددية الشكلية على الأقل، بحمولة تقليدية وإرث غير معاصر.
الفضاءات العمومية، الزمن وحدود التعددية
في مقابل ذلك، تمتلئ العاصمة مسقط، مثل الكثير من المحافظات الأخرى، بالأماكن العمومية الجديدة، والمتنوعة، المتوجهة لأجيال جديدة، مغايرة عن الأجيال السابقة، ولاحقة لها، فهي تسكن في التخوم، بين الجانبين، بين المسميات القديمة المتناثرة في الأماكن والقُرى والأرياف داخل مسقط وخارجها، وبين التقنية الحاضرة في كل مكان من جهة، والتواجد في الأماكن العمومية كالمقاهي والمطاعم، والإنشغال بالوظائف التقنية الجديدة من الجهة الأخرى.
فالمقاهي الحديثة الممتلئة بأجيال عمرية مختلفة، ليست أماكن لتناول القهوة، وعقد صداقات جديدة فقط، بل تُعقد فيها الاجتماعات العملية، وتجري فيها المناقشات التجارية، وتتحول في بعض الأحيان لحلقات دراسية، وأماكن للمذاكرة وتبادل المعرفة الأكاديمية. بهذا المعنى، تتجاوز الفضاءات العمومية الجانب الوظيفي، لتأخذ مسارات ٍ مختلفة، فهي في جانب من جوانبها تحل محل أدوار مؤسسات المجتمع المدني المفقودة، والتي لا تمارس دورها المرتجى منها من جهة، وتعتبر من الجهة الأخرى تعويضا ً عن القيود القانونية والتشريعية الكثيرة التي تجعل إقامة مثل هذه الفعاليات تحتاج للكثير من التصاريح والجهود الإدارية والفنية.
بالإضافة لذلك، لا يأتي الفرد لهذه الفضاءات خاليا ً من الترسبات الثقافية التي تسربت إليه عن طريق مسارات المجتمع المختلفة، بل يحملها معه، في عقله، أينما حلّ وارتحل. غير أن هذه الفضاءات ليست نسخة من الفضاءات التقليدية أو المجالس التقليدية التي تسيطر عليها البنية الهرمية للمجتمع، والعادات والتقاليد المتوارثة. كما انها بالمقابل ليست نسخة حداثية من المدن الحديثة التي تزدهر فيها التعددية العرقية، والفكرية، من خلال الحضور الرمزي والمادي لهذه الاختلافات في فضاء المدينة.
بطبيعة الحال لا يزدهر التحديث عن طريق المقاهي، والفضاءات العمومية التجارية، بل يجد دفعته الأولى في الأماكن العمومية الأكاديمية التي يزدهر فيها النقاش، والحوار بين وجهات النظر المختلفة، لمناقشة الكثير من القضايا. كما يترسخ عن طريق الحضور الإعلامي لهذا التنوع، ومنحه الصوت والمساحة الكافيتين لإظهار سردياته وتفاصيله المختلفة، لدمج هذا التنوع في مساراته الواقعية. كما يتعزز ذلك أيضا ً في المؤسسات السياسية التي تدير الشأن العام، حيث تسعى هذه المؤسسة من الناحية المفاهيمية لترسيخه، وتعزيزه بما يجعل الأفراد والاتجاهات خارج المركزية الاجتماعية يمتلكون مساحات كبيرة للحركة والقيام بالأنشطة المختلفة، وبالتالي مقدرتهم على تمثيل Representation إتجاهاتهم وأفكارهم المختلفة.
لا يقوم التمثيل بالمعنى السياسي والاجتماعي بمهمته على أكمل وجه، دون وجود حاضنات حضرية تستوعب هذا التنوع وتغذيه، بل وتعمل بطرق كثيرة على تنميته بما يجعل الفرد اللامنتمي للأوساط الثقافية المختلفة، لا يشعر بالاغتراب والوحدة والإنكفاء، بل على العكس من ذلك، فهي تساهم في دمجه ضمن السياق العمومي للمجتمع، وجعله منُتجِا ً ثقافيا ً، بالإضافة للإنتاج العملي. غير أن هذا التمثيل بما يعنيه وجود لغة، وطرق، وأدوات يستطيع من خلالها الفرد التعبير عن نفسه، وعن احتياجاته ورغباته المختلفة، لا يزدهر في ظل وجود أحادية لغوية وثقافية، فطرق التعبير ليست ذات طبقة واحدة، ولا تستخدم أداة مُفردة، بل هي عبارة عن تركيبة متداخلة من التسهيلات والتشريعات السياسية المحُفزة لوجودها.
كما أن التمثيل بالمعنى السياسي والاجتماعي يحتاج لأدوات وتشريعات أساسية، فهو يحتاج أيضا ً وبدرجة موازية لفضاءات مدينية، تجعل الفصل بين الجانبين العمومي والخاص واضحاً، وغير ملتبس. فاللجوء للفضاءات الخاصة والانغلاق حول الذات سمة من سمات المجتمعات التقليدية والرعوية، القائمة على تراتبية هرمية. كما أن انعكاسات الفضاء الريفي أو القروي على الطبيعة البشرية للفرد يساعد في ترسيخ العصبيات التقليدية من جهة، ويُعزز من العلاقات التقليدية من الجهة الأخرى. بهذا المعنى، تتكون العلاقات بين الأفراد في هذه الفضاءات من روابط لغوية، عرقية، دينية، وكذلك ثقافية متقاربة إن لم تكن متطابقة.
الأمر الذي يجعل استخدام الألفاظ التقليدية في الحديث عند الكثير من الفئات العُمرية مُلفتا ً للنظر، بل وفي الكثير من الأحيان، علامة على التواضع المصطنع، أو في أحيان ٍ أخرى علامة على التمسك بالجذور المحلية. أو في أحيان ٍ ثالثة دليل على انتشار هووي عميق بين الأفراد. وهو ما أدى في السياق المحلي العُماني لتصاعد خطاب الهوية والانغلاق حول الذات في وجه الآخر بصورة كبيرة في السنوات الأخيرة، من ضمن عوامل أخرى بطبيعة الحال، وضرورة العودة للجماعة، وعدم القبول بالخيارات الفردية، أو بمعنى أصح القبول بهذه الخيارات والتحرك ضمنها في نطاق محدود ٍجدا ً، وهو ما تجسد بشكل ٍ كبير في العودة للمظهر الاجتماعي الحديث وظهور هوية بصرية في الأزياء المحلية.
في هذا السياق، بالرغم من الايقاع المتداخل والمزدحم لهذه الفضاءات، إلا انها تفتقد لجانب مهم، ظل سمة من سمات الفضاءات المدينية المعاصرة، بما توفره التقنية من تغير في إيقاع الحياة، ونمطها التقليدي السابق، لظهور أنماط جديدة في العلاقات المصاحبة لها، وهي علاقة الفرد بالزمن في الحياة المعُاصرة. فبالرغم من هذا التسارع Acceleration في نمط الحياة اليومية، وعدم وجود الوقت الكافي للقيام بالمهام اليومية الطبيعية، وبالرغم من توفر الأدوات التقنية التي قلصّت المسافات بين الأفراد، وجعلت الأشياء متاحة بين الأيادي، بوسائل النقل المختلفة، إلا أن الوقت مازال يتسرب كالرمال بين يدي الفرد، وهو ما يعني وجود عامل جديد يضاف لمسار الوعي.فالشعور اليومي بضغط الزمن على الفرد، ومحدوديته على الإنجاز، وعدم قدرته على اللحاق بالمجتمعات الأخرى، ليس من الناحية الترفيهية، بل من الجانب الانتاجي، يضع علامات استفهام كبيرة حول الفضاء الذي يعيش فيه الفرد، كما يضع من الجهة الأخرى علامات استفهام موازية حول الهياكل المجتمعية التي من الممكن اعتبارها مؤقتة Temporally Reconstructed كما يقول الفيلسوف الألماني هارتموت روزا Hartmut Rosa، من حيث أن هذا “التسارع في ايقاعات الحياة المعاصرة، يُشعر الفرد بأن هذه البناءات المجتمعية في طريقها للتغير، وبالتالي للتحول[5]“.
فهذه البناءات المجتمعية، والهياكل التنظيمية للمجتمع، ليست أزلية، بل خضعت لعملية ولادة، وتبلور، وتشكل، ولحقت بها الكثير من التغيرات المختلفة. تعتمد هذه التغيرات على عامل التسارع الذي يحيط بها، الأمر الذي يجعلنا نؤكد على ما سبق توضيحه، من الفرق الجوهري بين بنية المجتمعات الريفية، والريفية المتمدنة، والمتمدنة. وبالرغم من النقص الشديد الذي تعاني منه النظرية الاجتماعية في البحث حول مفهوم الزمن أو عدم تأسيس علم إجتماع الزمن Sociology of Time لرصد أهمية البُعد الزمني في الحياة الاجتماعية، وبالرغم من الكثير من المحاولات ولكن غير المنظمة بشكل ٍ كاف ٍ في هذا الاطار[6]، إلا أن للبُعد الزمني تأثير لا يخفى على أحد على نمط الحياة في كل السياقات.يتجسد ذلك في مقولات أصبحت متداولة في السياق العُماني، والتي تتلخص في أن الزمن متوقف في عُمان، وبأن التغيرات بطيئة أكثر من اللازم، وبأن العالم الخارجي يتغير بايقاع أسرع من الايقاع المحلي، وغيرها من المقولات المشابهة.كل هذه المقولات التي تبدو عابرة، وتُعبر عن لحظات متفاوتة من الضجر، والمقارنة التي يراها البعض غير موضوعية ومجحفة، تشير لأهمية وتأثير الهياكل الخارجية المتمثلة في الفضاءات المدينية، والحضرية، والعُمرانية، أو بمعنى أصح البنية التحتية على الأحاسيس والمشاعر الداخلية والتكوين الفكري من جهة، وعلى أهميتها في الدفع بحدود التعددية المجتمعية للأمام من الجهة الأخرى.
فالتعددية تزدهر في المدُن بشكل ٍ كبير مقارنة مع الأرياف، وذلك عن طريق بيئات عمل تعددية تحتضن التنوع، بل وتسعى إليه، ليس لجذب رؤوس الأموال فقط، بل أيضا ً لجلب التنوع بكل أطيافه التجارية والبشرية ليصبح عاملا ً من عوامل التغيير – مهما كان بطيئا ً – وتهيئة الظروف المناسبة للآخرين للعمل والعيش والاستيطان أيضا ً. غير أن هذا الأمل التعددي لم يعد كذلك في السياق المحلي العُماني مؤخرا ً، فبحسب الاحصائيات الرسمية نشهد في بداية عام 2022، تراجعا ً كبيرا ً في أعداد المغتربين العاملين والمقيمين بالسلطنة، وذلك بسبب الأوضاع الاقتصادية والمعيشية التي تتراجع يوما ً بعد يوم من جهة، وبسبب سياسات التعمين والاحلال من الجهة الأخرى، والتي تقودها الحكومة بشكل ٍ رسمي، وكبير، في محاولة منها لتخفيف الأعداد المتزايدة من البطالة والمسرحين عن العمل، ولتخفيف العبء المتزايد عليها بسبب سياسة التقشف المالي، أو ما الخطة الاقتصادية الجديدة.
كما ترتبط التعددية بمستوى دخل الفرد والوضع الاقتصادي العام للبلد.ففي البلدان والعواصم منخفضة الدخل، نجد أن التعددية تواجه بالكثير من الرفض، وعدم القبول بالمختلف، بل وتسعى هذه المجتمعات لوضع الكثير من العناوين واللوائح المختلفة للحد منها، مثل تهديد الهوية، والتحويلات المالية الكبيرة وعدم ضخها في الاقتصاد المحلي، وغيرها من العناوين. وهو ما يجعلنا نتحدث عن العلاقة الجدلية بين الفرد والمدينة في تشكيل بعضهما البعض.
الحق في المدينة أو كيف يتشكل الفرد؟
لا شك أن الفضاءات المدينية تُساهم في تشكيل قاطنيها أكانوا مواطنين أو مغتربين على حد ٍ سواء. فهذه الفضاءات ليست شكليه، بل تساهم في تشكيل بنية الوعي الفردي – كما سبق التوضيح – من خلال التجارب اليومية المختلفة. فالبنية التحتية – بالرغم من الجدل الكبير الدائر حول تأثيرها – تؤثر بشكل ٍ غير تلقائي، وغير مباشر في البنية الفوقية أو العقلية للفرد، عن طريق العيش في مكان ملائم للحياة، يتمتع فيه بالسكن الملائم، وعن طريق وسائل نقل سلسة ومتوفرة، بالإضافة للخدمات الصحية والتعليمية الجيدة والممكن الحصول عليه من قبل أفراد المجتمع بالتساوي، وتوفر أماكن حضرية وجمالية وعمرانية تلائم مختلف الطبقات في المجتمع، تساهم في بناء الفرد والفردانية والقيم المختلفة.لا يحدث ذلك دون توضيح الحق في المدينة، الذي يعني الحق في تشكيل الأفراد للمدينة التي يعيشون فيها، وليست بما يتناسب مع رغبة السياسيين وأصحاب الثروات الطائلة. فالمدينة “هي المكان الذي يختلط فيه الناس من مختلف الأجناس والطبقات مهما كان ذلك على مضض أو ذا طابع صراعي لخلق حياة تشاركية حتى وإن كانت دائمة التغير ومؤقتة[7]“. وهذا يعني هنا، أن المُدن من الضروري أن تتسم بسمات إنسانية عامة من الممكن ممارستها أو القيام بها على شكل أنشطة مختلفة.تنطلق هذه الرؤية من قدرة الإنسان على تغيير الطبيعة بما يتناسب مع رغباته واحتياجاته وتطلعاته أيضا ً. فهي تُتيح “للإنسان تشكيل العالم الذي يعيش فيه بما يتفق بدرجة أكبر مع رغباته[8]“. فهي بهذا المعنى، لا تعكس رغبات السكن فقط، والتمايز عن بقية الكائنات الأخرى، بل أيضا ً تعكس القيم التي تشغل الفرد، وتُهمين عليه، والتي يسعى جاهدا ً لتحقيقها على أرض الواقع بما يجعلها جنته الأرضية التي تساعده في التخفيف من معاناته، والآمه، وتحقيق أحلامه، وآماله.كما يعني الحق في المدينة أيضا ً، توفير الخدمات الأساسية المتزايدة يوما ً بعد يوم، مثل المحافظة على البيئة، وتزويدها بالطاقة الكهربائية عن طريق الطاقة المتجددة، وتشجيع استخدام هذه المصادر المتجددة، بما يحافظ على المكونات الطبيعية والاستدامة من جهة، وبما يحافظ على حياة ٍ بشرية نظيفة، وصحية، من الجهة الأخرى، وتوفير أدوات تشاركية متساوية لجميع أفراداها لإتخاذ قرارات جماعية تتناسب مع مصالح ومنافع القاطنين فيها.
غير أن كل هذه الحقوق، والمواصفات لمدينة المستقبل، لا يمكنها أن تتحقق بشكل ٍ فعلي، دون إعادة تشكيل الفرد الحديث بما يتناسب مع الحياة الحديثة، وقيمها التعددية، وضيافته للآخر. حيث أن مدينة المستقبل مهيأة لاستيعاب الأفراد الجُدد، والتصورات الجديدة، والتيارات الوليدة، وليس لمهاجمتها أو إقصائها بحجة المحافظة على الوضع القائم، تحت عناوين مختلفة، وربما تتناقض مع بعضها في الكثير من الأحيان.
في هذا السياق، من الضروري النظر للفضاءات التي تستوعب الآخر في المدينة، هذا الآخر Other الذي لا ينتمي للأغلبية من النواحي الدينية، والاجتماعية والثقافية والاقتصادية وغيرها. حيث أن الآخر، لم يعد محصورا ً في الأجنبي، غير العُماني، المغترب، كما هي الأدبيات التقليدية، ذلك أن هناك آخر يظهر، وينبثق من رحم المجتمع، ومن هياكله التقليدية، وهذا مؤشر على حدوث تغيرات هيكيلية في بنية المجتمع تترافق مع ظهور الفضاءات العامة من جهة، وتوسع جغرافيا المدينة من الجهة الأخرى، بما يؤثر على تشكيل الوعي الفردي، والتشريعات المؤسسية أيضا ً.
فالجغرافيا الداخلية للفرد تتشكل من مزيج معُقد وغير أحادي الجانب، فكل العوامل السابقة، الملموسة وغير الملموسة على حد ٍ سواء، تساهم في تشكيل فرد حديث ينتمي للحياة المعُاصرة المعقدة، والمتعددة، وبين فرد ما قبل حديث، لا ينتمي لهذه البيئات المعقدة، بل مازال يعيش في فضاء أولي، سكوني. بالرغم من أن الفرد المعُاصر وليس الحديث، يقوم ويمارس الكثير من الأفعال والتصرفات التي تُشير لهذه الحداثة، غير أن هذه الحداثة لا تتعدى المقولات وظواهر الأفعال وليس للعمق الذي نستطيع الوصول إليه عن طريق الاختبارات المتعددة التي يقع فيها الفرد حينما يتعلق الأمر بالطبقات العميقة للتفكير.
لا يتشكل الفرد بطريقة عشوائية كما يبدو للوهلة الأولى، فمواضيع مثل التربية والتعليم تساهم في تشذيب الفرد بشكل ٍ منهجي ودمجه ضمن القيم والمعايير الموضوعة من قبل المؤسسة التي تتولى هذه المهام.غير أن التربية ليست هي العامل الوحيد في تشكيل الفرد، فالمعمار، والفضاءات العمومية، وما يرافق ذلك من مؤسسات ومنشآت مختلفة، تساهم بنسبة ٍ كبيرة في إعادة تشكيل الفرد ليس من ناحية واحدة، بل بما يتناسب مع الحياة الجديدة التي تتطلب عُدة مختلفة عن التجهيزات السابقة للفرد. وهذا لا يتشكل كما سبق التوضيح بدون قيم معنوية، وفضاءات مادية، تُحيط بالمدينة، التي تفتقد لها المدينة العُمانية إن وجدت.
*علي سليمان الرواحي باحث عماني مستقل، صدر له “تحديات الاقتصاد الأخضر: سلطنة عمان نموذجاً“، “الأصولية والعقلانية: درسات في الخطاب الديني العماني“ماركس في مسقط – بحوث حول البنية المادية وتوزيع الثروات وتاريخية القوانين“. المقال هو ورقة عمل شارك بها الرواحي في منتدى جميعة المنبر التقدمي في22 مايو/ أيار في المنامة الذي تناول موضوع “المدينة الخليجية – تحولات وآفاق”.
الهوامش:
[1] هيغل، فينومينولوجيا الروح، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة:د.ناجي العونلي، ص187.
[2] صول كريبكه، التسمية والضرورة، تر:محمود يونس، دار الكتاب الجديد، ط1، ص100.
[3] فاطمة بنت ناصر، إعادة التسمية الجغرافية geographical renaming، مجلة الفلق الإلكترونية.
[5] Hartmut Rosa, Social Acceleration: A New Theory of Modernity, , Translated by Jonathan Trejo-Mathys
Columbia University Press, 2015. Page: 2.
[6] Barbara Ada,Time and Social Theory, Polity, 1994.
[7] مدن متمردة: من الحق في المدينة إلى ثورة الحضر، تأليف: ديفيد هارفي، تر: لبنى صبري، الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط1، 2017م، ص111.