يرى الدكتور محمد الصياد في هذا الجزء من الدراسة ان الاقتصاد الاقتصاد الأمريكي سوف يشعر بالآثار السلبية لحرب أوكرانيا، سواءً من حيث التضخم، أو تراجع الدخل المتاح لمتوسط الأسر الأمريكية، أو السياسات النقدية غير المستقرة للفيدرالي الأمريكي. وقد تكون آثار الحرب أقل من الآثار التي شعرت بها أوروبا في بعض النواحي، لكن في نواحي أخرى ربما تكون أكثر وطأة إضافة الى مستقبل مقلق للدولار الأمريكي.
سيطرة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية ربما اقتربت من نهايتها
*محمد الصياد
مثل الاتحاد الأوروبي، كانت الولايات المتحدة تعاني بالفعل من تضخم كبير في أسعار المستهلكين قبل اندلاع الحرب، بلغت نسبته 7.5% في شهر يناير/كانون الثاني الماضي، بما يفوق التضخم المسجل في الاتحاد الأوروبي في نفس الشهر، حيث بلغ 5.1% (ارتفع الى 5.8% في شهر فبراير/آب الماضي). وفي حين تبدو الولايات المتحدة أكثر استقلالية في مجال الطاقة من الاتحاد الأوروبي، إلا أنها ستضطر مع ذلك للتعامل مع ارتفاع معدلات التضخم بسبب صدمة الطاقة العالمية في أسواق النفط. ولا ترفع شركات النفط الأسعار بسبب أسباب تتعلق بتكاليف الإنتاج وقوى السوق (العرض والطلب)، ولكن لأنها تتمتع بوضع احتكاري في اقتصاداتها الوطنية، فباستطاعتها فعل ذلك بكل بساطة. هذا كان يحدث بالفعل في الاقتصاد الأمريكي قبل حرب أوكرانيا. كان التضخم في أسعار المستهلكين في الولايات المتحدة مدفوعا بأسعار النفط، حتى أن ما يقرب من نصف معدل التضخم السنوي الأخير البالغ 7.5%، كان مرتبطًا بأسعار النفط.
لكن أسعار البنزين المتصاعدة في محطات التزود بالوقود في الولايات المتحدة تقلق الرئيس بايدن وحزبه الديمقراطي انتخابيا، لاسيما انتخابات الكونجرس النصفية في شهر نوفمبر/تشرين الثاني المقبل. لذا أرسل البيت الأبيض وفدا على وجه السرعة الى فنزويلا لمقايضتها بالنفط مقابل رفع العقوبات، وذلك من أجل إحلال النفط الفنزويلي الثقيل محل نفط الأورال الروسي الثقيل، المناسبين للمصافي الأمريكية الواقعة على خليج المكسيك.
أسواق المال الأمريكية أيضا تراجعت على المدى القصير بشكل حاد لكنها تعافت بنفس السرعة – كما هو الحال في أوروبا – وكانت العملة الأمريكية الدولار، أقل تقلبا من اليورو. ومع ذلك، قد تشهد الأسواق المالية الأمريكية قريبا تأثيراً سلبيا رئيسياً ثانٍ آتٍ هذه المرة من صوب الاحتياطي الفيدرالي، إثر رفع أسعار الفائدة في مارس/آذار الجاري (سيبدأ مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي دورة التشديد هذا الشهر برفع سعر الفائدة بمقدار 25 نقطة أساس، وربما أكثر). لذا فإن التضخم المرتفع، إلى جانب ارتفاع معدل الفائدة، بالإضافة إلى حرب أوكرانيا قد تشكل مجموعة من الوقائع الاقتصادية السلبية التي تسبب اضطرابا آخر في أسواق الأصول المالية الأمريكية. كما أن الزيادات التراكمية في أسعار الفائدة والتضخم وتداعيات الحرب – في حالة استمرارها وتصاعدها – ستؤدي أيضا إلى إبطاء تعافي الاقتصاد الأمريكي، كما هو الحال في أوروبا.
سيكون التأثير الأكبر، نسبيا، على الاقتصاد الأمريكي، مقارنةً بالاقتصاد الأوروبي، في صورة زيادة إضافية في الإنفاق الدفاعي الأمريكي. فبالإضافة الى رفع مخصصات الانفاق الحربي هذا العام الى 778 مليار دولار (وأكثر من 1 تريليون دولار إذا أخذنا جميع مصادر الإنفاق الدفاعي الأمريكي)، فإن في الوسع توقع إضافة عشرات المليارات من الإنفاق العسكري نتيجة حرب أوكرانيا. ويُتوقع أن يرتفع هذا الإنفاق فيما تبقى من السنة المالية الحالية، وسيستمر بعد ذلك أيضا في ميزانيات الدفاع السنوية اللاحقة للسنوات التالية. وسيؤدي ذلك إلى تفاقم عجز الولايات المتحدة والدين القومي. ومع ارتفاع أسعار الفائدة، سيؤدي ذلك إلى ارتفاع تكلفة خدمة الدين التي تؤثر على عجز الميزانية لاحقًا أيضاً. وقد يؤدي ارتفاع العجز والديون – بما فيها العجوزات والديون القياسية المسجَّلة بالفعل على خلفية سياسات الانفاق المتعلقة بجائحة كورونا، في السنة المالية 2020-2021 الى ضغوط سياسية نتيجة لخفض برامج الإنفاق الاجتماعي من جديد في اطار سياسات المالية العامة التقشفية.
وستؤدي عوامل ارتفاع التضخم المزمن، وخفض الإنفاق على البرامج الاجتماعية، وارتفاع أسعار الفائدة لدى مجلس الاحتياطي الفدرالي – ستؤدي هذه العوامل مجتمعة إلى إبطاء التعافي الاقتصادي الذي يبدو كما لو كان مؤقتاً. وإذا ما اشتدت ضغوط هذه البارومترات، من حيث النطاق والحجم، فقد يؤدي ذلك إلى ركود مزدوج في وقت ما أواخر عام 2022 أو أوائل عام 2023.
باختصار، سوف يشعر الاقتصاد الأمريكي بالآثار السلبية لحرب أوكرانيا، سواءً من حيث التضخم، أو تراجع الدخل المتاح لمتوسط الأسر الأمريكية، أو السياسات النقدية غير المستقرة للفيدرالي الأمريكي. وقد تكون آثار الحرب أقل من الآثار التي شعرت بها أوروبا في بعض النواحي، لكن في نواحي أخرى ربما تكون أكثر وطأة.
العقوبات وتأثيرها على الدولار
تنهض جمعية الاتصالات العالمية بين البنوك “سويفت”، ومقرها بلجيكا، (تضم في عضويتها حتى نهاية مارس/آذار 2020، 11507 مصرفاً، موزعين على أكثر من 200 دولة حول العالم)، بدور الخادم المراسل الذي يقوم بربط العمليات المالية (Financial transactions)، بين البنوك في جميع أنحاء العالم. إنها، ليست بنكاً بحد ذاتها، بل إنها، بالمعنى الدقيق للكلمة، ليست حتى شبكة دفع. فوظيفتها تكمن في نقل تعليمات لعمليات النقل المالي، لكن عمليات النقل ذاتها تتم عبر شبكات أخرى. إنها مجرد جزء متحرك في النظام المالي والتجاري المعقد في العالم.
وكما هو الحال مع معظم العقوبات الغربية المفروضة على روسيا، فإن إبعاد البنوك الروسية من نظام “سويفت”، من المؤكد أن يضر بفارضي العقوبات إلى جانب المعاقَب. في هذه الحالة، سيكون الضحايا المحتملون الأكثر خسارة من هذه العقوبات، هم مصدرو وحاملي الدولار الأمريكي.
الدولار الأمريكي، ليس هو العملة الوحيدة التي يتم تحريكها باستخدام آلية “سويفت”، لكن الدولار هو “العملة الاحتياطية العالمية” بحكم الأمر الواقع، وبالتالي ستكون العملة الأكثر تأثرا بمثل هذه التحركات. فطوال 50 عاماً، كانت التجارة العالمية في النفط مدعومة بما يسمى “البترودولار” (Petrodollar)، وهي دولارات أمريكية تُدفع إلى دولة مصدرة للنفط مقابل بيعها لسلعة النفط. وهو ببساطة شديدة، نظام مبادلة النفط بالدولار الأمريكي بين الدول التي تشتري النفط وتلك المنتجة له. لذلك فإن الجميع تقريبا في كافة أنحاء العالم يقبل الدولار، والجميع تقريبا يريد أن تكون هذه العملة في متناول يده دائما.
فماذا يحدث عندما يكون أحد أكبر منتجي النفط في العالم معزولاً عن نظام “سويفت”، ولا يريد اقتناء الدولار الأمريكي بالقدر الذي كان عليه قبل العقوبات التي لن يتمكن من إنفاقها على أية حال بسبب هذه العقوبات؛ من دون أن ننسى بطبيعة الحال أن هناك شركاء تجاريون آخرون يراقبون هذه العقوبات ويخشون أن يكونوا هم الضحايا التاليين؟
هذا ما سيحدث على الأرجح:
قد تتبلور وتتمظهر أكثر فأكثر، ترتيبات التجارة البينية، بين روسيا والهند، على أساس تبادلية لسعري صرف الروبية الهندية والروبل الروسي، بحصولها على دفعة قوية الآن بعد أن خرجت روسيا من نظام سويفت، وهو ما ذهبت اليه أيضا صحيفة “تايمز أوف إنديا”. وهذه الفرضية تنطبق أيضا على التجارة البينية القائمة بين روسيا والصين، حيث يُتوقع ان يضاعف البلدان تجارتهما باستخدام اليوان الصيني والروبل الروسي. وبحسب نفس الصحيفة، فإن هذا الأمر ليس بجديد أو مفاجئ، فقد دخلت الهند في ترتيب تجاري روبية / روبل مع روسيا في وقت سابق لحماية البلدين من العقوبات أحادية الجانب من الولايات المتحدة.
ولما كان الطلب الكلي العالمي على الدولار، هو الذي يجعله ذا قيمة، وهو ما ينطبق بنفس القدر بطبيعة الحال على أي شيء ذي قيمة، وإذا علمنا أيضا أن طلب الصينيين والهنود الذين يشكلون أكثر من ربع سكان العالم، على الدولار، أصبح أقل مما كان عليه في السابق، فهذا أدعى لأن يكون كل دولار يحتفظ به الناس، في المستقبل غير البعيد، أقل مما هو عليه اليوم.
على المدى القصير، سوف يؤدي اخراج روسيا من نظام “سويفت”، الى جانب العقوبات الأخرى التي فرضها الغرب عليها، الى الإضرار باقتصادها، لكن بالمقابل، هنالك احتمال مرجّح أيضا بأن سيطرة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية بلا منازع، بين العملات العالمية، ربما اقتربت من نهايتها، كما يتنبأ بذلك بعض الاقتصاديين الأمريكيين الذين يعكفون على دراسة وتحليل آفاق الاقتصاد الأمريكي والعالمي في ضوء الحرب الاقتصادية الشاملة التي أعلنها الغرب ضد روسيا. وهم يُرجعون ذلك جزئياً إلى دأب الحكومة الأمريكية على دفع العالم بعيدا عن عملتها واقتصادها، مع تهديدها المستمر بالعقوبات. بل إنهم ينصحون الأمريكيين بالمسارعة للتصرف بذكاء، من خلال الاحتفاظ بأقل قدر ممكن من الدولارات، واستبدالها بالذهب والفضة والعملات المشفرة بينما لا تزال تحتفظ بقيمتها الاسمية.
*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني عمل سابقا مستشارا في وزارة النفط مسؤولاً عن ملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. صدرت له حديثا ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.