تلقف الكثيرون الدعاية الاسرائيلية ونشروها بدافع الجهل او التعصب
عصمت منصور*
شكلت قصة تحرر اسرى نفق الحرية السته من سجن “جلبوع” الاحتلالي في 6 سبتمبر الماضي، واحدة من اهم الاختراقات السياسية والأمنية والمعنوية، لا لمنظومة امن الاحتلال فقط، بل ولروايته، والصورة التي يقدمها للعالم عن نفسه.
الصورة من زاوية: القدرة الأمنية اللامحدودة وغير القابلة للاختراق والتفوق والتطور التكنولوجي في مواجهة مخربين بدائيين ومتوحشين، واخلاقياً حيث كشفت للعالم عن حجم المعاناة الهائل التي يعانيها الاسير الفلسطيني، ومعنوياً عندما أيقظت هذه العملية برمزيتها الهواجس الدفينة لدى الجمهور الاسرائيلي من خروج الضحايا من ثقب في الأرض ليستعيدوا هيأتهم وصورتهم التي يحاول طمسها واخفائها، لا بل ويتفوقون على منظومته. دلالة اخيرة هي النجاح والتفوق في حرب الارادات التي تزعزع مفهوم الردع، وتحث على المحاكاة وتعظم حافز تحدي أدوات الاحتلال.
مجمل هذه الدلالات وغيرها، كان الاحتلال يعيها جيداً، وهو اذ فشل في التنبؤ بالعملية، كما فشل استخباراتياً في الوصول الى منفذيها ومنعها قبل حدوثها، وتفوقت بعبقرتيها على منظوماته الالكترونية والبشرية والاستخباراتية. وعندما وجد نفسه لا في مواجهة فارين/محررين يسبقونه بخطوات، بل في مواجهة موجة عارمة من التضامن والاعجاب والتماهي من قبل جماهير فلسطينية وعربية وعالمية، حيث استطاع هؤلاء الابطال السته ان يستحوذوا على مخيلة ووجدان ملايين المعجبين الذين تابعوا تفاصيل المطاردة بشغف ويقظة غير مسبوقة ربما عالمياً.
هذا الوضع الذي تميل فيه الكفة المعنوية والاخلاقية لصالح الأسرى، والذي وحد الشعب الفلسطيني، يمثل قصة تفوق ونجاح مقلقة لكونها تحفز على المحاكاة، وتنسف الصورة النمطية الرادعة التي تريد اسرائيل تكريسها لنفسها، ولم يكن بالإمكان مجابتها الا من خلال الصورة والدعاية والاشاعة.
المتابعة الدقيقة لعملية المطاردة التي استمرت قرابة اسبوعين، تكشف ان مسار الدعاية الاسرائيلية عمل ساعات اضافية ودون كلل للتعويض عن الخلل الفادح لصالح الأسرى، ومن أجل تدارك الاختراق الذي وقع بكل دلالاته الكارثية على صورة الردع والتفوق الاسرائيلية.
بمواجهة تعاطف عالمي: ثلاث ثيمات للإشاعات
أولى المحاولات كانت من خلال توجيه الاتهام الى مديرية السجون، وتحديداً العامل البشري الذي اتهم بالتقصير ولكن ليس من منطلق عدم القدرة، بل لأنه انساني ومتساهل مع الأسرى ويعطيهم حقوقاً وإنجازات حياتية لم يستفيدوا منها للعيش داخل السجن بل استغلوها للهرب.
هذا الادعاء ينطوي على تزوير للحقائق التي تفيد ان ظروف الاسرى صعبة ولا تتماشى مع القانون الدولي، كما انه يراد له ان يظهر تفوقاً اخلاقياً لدى مديرية السجون مقابل نفس اجرامي لدى الأسرى، ويفتح الباب ويمهد أيضاً لهجمة ستكون شاملة على مكتسبات الأسرى التي حققوها بفعل اضرابات طويلة عن الطعام على مدى عقود من نضال الحركة الأسيرة.
بعد تبرئة مديرية السجون ووضعها في مكانة أخلاقية عليا، بدأ الهجوم الدعائي ينصب على الأسرى المحررين السته انفسهم من خلال التهويل امنياً من خطر بقائهم في الخارج وان نيتهم هي تنفيذ عمليات (ارهابية)، وذلك بهدف تبرير تصفيتهم، والأهم نزع الشعور الانساني عنهم والتنكر لشغفهم بالحرية وتوقعهم للخلاص من عذاب السجن وجحيمه وتعلقهم بالحياة، وهي رواية سقطت عندما أعيد اعتقالهم وروى العالم اجمع مغامرتهم الأخاذة في احتفائها بالحياة من خلال الحديث عن الاطفال واكل التين والصبار.
الثيمة الدعائية الثالثة وجهت بشكل مركز وخبيث ضد الفلسطينيين والحالة الجماعية والوجدانية والوطنية التي وحدتهم، من خلال محاولة زرع بذور الفتنة بين الضفة والداخل عبر التركيز على عنصر الوشاية من عائلة عربية في الناصرة.
وقفة أهالي الناصرة التضامنية أمام محكمة تمديد الأسرى المعاد اعتقالهم والشعارات التي رفعت وتصريحات الأسرى ورسائلهم أجهضت هذا المسعى. لكن هذا لم يمنع من استمرار الاحتلال في مساعيه عندما ركز على مدينة جنين عندما نشر دعايته عن “سلاسة” عملية الاعتقال، بهدف كسر رمزية المدينة التي تكرست في الوجدان الجمعي الفلسطيني والعربي والعالمي كونها مدينة مقاومة عصية على الكسر.
مما سبق، يتضح ان الحرب الدعائية ونشر الاشاعات كانت الاداة الاكثر حضوراً في مواجهة دلالات عملية نفق الحرية وترميم صورة الردع الاسرائيلية، وهي أداة تساوق معها البعض أما عن جهل أو بدافع التعصب، دون ان يعلم انه بذلك يساهم في خدمة أجندة الاحتلال.
هناك فصل انساني، مشوق، وفريد، يتوق العالم لسماعه، من هؤلاء الابطال حول مشاعرهم والأشهر الطويلة من الاعداد والاحلام التي رافقتهم اثناء الساعات القليلة التي عاشوها في الحرية، وهو فصل ستحاول اسرائيل ان تحجبه لأطول فترة ممكنة من خلال عزلهم عن العالم وإسكات هذا الصوت الإنساني العذب والصادق الذي يفضح اسطورة الارهابي التي يريدون الصاقها بهم، وهو صوت وإن كنا نستشعره ونحسبه، الا اننا قد ننتظر زمناً ما الى ان نردده بأصواتهم وهم محررين من الأسر ليتحول الى نشيد جديد للحرية والحياة وقهر المستحيل.
*عصمت منصور أسير فلسطيني سابق في سجون الاحتلال الاسرائيلي. يعمل منصور صحافياً ومترجماً للغة العبرية متخصص في الشؤون الاسرائيلية. اعتقل في العام 1993 وتم تحريره عام 2013. نشر ثلاث روايات كتبها اثناء اعتقاله وهو عضو بالأمانة العامة لاتحاد الكتاب الفلسطينيين. يدير منصور حالياً مركزاً للخدمات الاستراتيجية والترجمة.