تاريخ مستنسخ.. ماذا وراء الانسحاب الامريكي من افغانستان؟ Previous item وعود ورصاص للمتظاهرين.... Next item شباب العراق يبحث عن وطن...

تاريخ مستنسخ.. ماذا وراء الانسحاب الامريكي من افغانستان؟

د. محمد الصياد*

بعد ثمانية عشر عاما من قيام الولايات المتحدة  في عام 2001 بشن الحرب على أفغانستان واحتلالها، وخسارة أكثر من 2,372 جنديا أمريكيا وجرح 20,320، إضافة الى 1,720 من المرتزقة الذين تعاقد البنتاغون مع شركات مقاولاتهم[1]. والأهم والأفدح هي الخسائر البشرية في صفوف الأفغان أصحاب الأرض، والتي تقدر بحوالي 111,000 قتيلا من العسكريين والمدنيين، اضافة الى حوالي 30 ألفا من الجرحى، وحوالي تريليون دولار[2]. بعد قطع كل هذا الدرب الطويل من الآلام، قررت واشنطن سحب قواتها من هذا البلد الغرب آسيوي.

وهي لهذا الغرض، اضطُرّت للدخول في مفاوضات مع حركة طالبان الأفغانية لترتيب هذا الانسحاب، بعد أن قاتلتها لمدة 18 عاما، وذلك في سيناريو مكرر لسيناريو المفاوضات التي جرت بين الأمريكيين والفيتناميين في باريس  وتوجت باتفاق عام 1973[3] الذي مهَّد لجلاء القوات الأمريكية الغازية من فيتنام الجنوبية بعد انتصار الجيش الفيتنامي الشمالي النهائي في عام 1975. فبعد 20 سنة من التورط في الحرب الفيتنامية (من 1955 الى 1973)، وخسارة 57,939 من جنودها بين قتيل ومفقود (حتى اليوم)، بحسب تقرير صدر في واشنطن عام 1982.

وقتذاك، وصلت النخبة الأمريكية الحاكمة الى خلاصة مفادها، أن خسارة الحرب صارت محتَّمة، كما عكس ذلك وزير الدفاع الأمريكي روبرت ماكنمارا الذي لعب دورا رئيسيا في تصعيد تدخل الولايات المتحدة في حرب فيتنام، حين عبّر عن شكوكه في الانتصار مع اقتراب عام 1966. إضافة الى تصريح الجنرال  الأمريكي الراحل كريتون أبرامز (الذي تحمل دبابة القتال الأمريكية الرئيسية أبرامز، اسمه) والذي علق فيه على تزايد أعداد الجنود المتمردين والمتورطين في المخدرات وعصيان الأوامر، بقوله “أنا بحاجة إلى ارجاع هذا الجيش إلى وطنه لإنقاذه”.

وكما صار معلوماً، فقد كان من المفترض أن يتم التوقيع على الاتفاق بين أميركا وطالبان في يوم الأحد 8 سبتمبر/ايلول 2019 في اجتماع سري دعا لعقده الرئيس ترمب في كامب ديفيد مع عدد من قيادات حركة طالبان. لكن الرئيس ترمب أعلن بصورة دراماتيكية مفاجئة، الغاء التوقيع على الاتفاق قبل 11 ساعة فقط من لقائه السري المذكور، وأمر بإيقاف المفاوضات مع طالبان، وذلك إثر تبني الأخيرة لهجوم شنته الخميس 5 سبتمبر (أي قبل ثلاثة ايام من موعد الاجتماع السري المقرر)  قُتل فيه جندي أمريكي. لكن، وبما أن الولايات المتحدة ليس لديها خيار آخر لوقف نزيفها البشري والمالي في أفغانستان سوى تسريع جلاء قواتها من المستنقع الأفغاني، فلسوف تعود بسرعة الى التفاوض، وربما بتنازلات أكبر.

 

اشباح العام 1919

ولأن التاريخ يعيد انتاج حوادثه، في بعض الأحيان، حين يتصادف اجتماع نفس المعطيات في بوتقة زمانية ومكانية واحدة، فإنه في عام 1919، اضطُر الانجليز للجلوس على طاولة التفاوض مع وفد أفغاني من أربعة أشخاص في مدينة روالبندي الهندية (التي صارت اليوم في باكستان). الوفد أرسله آنذاك أمير أفغانستان أمان الله خان (1892-1960) الذي صار لاحقاً ملكاً في عام 1926 بعد أن حوَّل أفغانستان الى مَلَكية، قبل أن يُجبره الانجليز على التنازل عن العرش والإقامة في المنفى السويسري. ورأس الوفد علي أحمد ابن عم الأمير، حيث وافق وزير خارجية الهند آنذاك الانجليزي السير هاملتون غرانت، على رفع الوصاية البريطانية عن شؤون أفغانستان الخارجية. وتم توقيع معاهدة السلام بين الحكومة البريطانية وحكومة أفغانستان المستقلة. فقد ربح الأفغان حرب الاستقلال ضد الامبراطورية البريطانية.

كانت تلك الحرب الأفغانية الثالثة، واليوم، وبعد ثمانية عشر عاما من الحرب الأفغانية الرابعة، تسجل حركة طالبان الأفغانية، انتصاراً غير معلن في الحرب ضد القوات الأميركية وقوات حلف الناتو، باضطرار الأخيرة للجلوس على طاولة التفاوض مع قيادات الحركة لترتيب انسحابها من أفغانستان. وفي المكان الذي كان يجلس عليه قبل مائة سنة بالتمام والكمال، السير هاملتون غرانت، جلس رئيس وفد التفاوض الأمريكي، الدبلوماسي الأميركي، زلماي خليل زاد (Zalmay Khalilzad)، ذو الأصول الأفغانية (من مواليد مدينة مزار شريف) الحائز على البكالوريوس والماجستير من جامعة بيروت الأمريكية، والدكتوراه من جامعة شيكاغو التي درس وصادق فيها ألبرت وولستيتر (Albert James Whhlstetter)، المفكر الاستراتيجي للردع النووي الذي قدم زلماي خليل زاد الى كبار مسؤولي الحكومة ومؤسسة “راند – RAND”  النافذة في الدوائر العليا لصناعة القرار الأميركي.

زلماي خليل زاد الذي ترأس الوفد الأمريكي المفاوض على ترتيبات الانسحاب من أفغانستان، لم يفاوض الرئيس الرسمي للبلاد الأفغانية،  أشرف غني أحمدزي، وإنما جلس مع وفاوض أعداءه وأعداء الأميركيين، وهم هنا حركة طالبان التي قادت حركة تحرير أفغانستان من الاحتلال الأطلسي. تماما كما يفاوض الأميركيون الأتراك لتقرير مصير أكراد سوريا في مناطق شرق الفرات (محافظات دير الزور، والرقة، والحسكة) الواقعة تحت سيطرة “قوات سوريا الديمقراطية” الكردية السورية المحمية من القوات الأميركية، والبالغة مساحتها نحو ثلث مساحة سوريا. علماً بأن هذه المناطق تحوي نحو 90% من الثروة النفطية السورية التي يقدَّر احتياطيها بحوالي 2 مليار برميل، و45% من انتاج الغاز.

السؤال الآن: ما هو السبب الذي دفع واشنطن لاتخاذ قرار سحب قواتها من أفغانستان؟

 

المركنتيلية بمواجهة منطق الدولة العميقة

الإجابة المباشرة والمعتادة على هذا السؤال سنجدها في الغالب على النحو المبيَّن تاليه لدى معشر مريدي “باراديغم” (Paradigm – نموذج) التحليل النمطي، المندفعين عادةً، وعلى الفور، لالتقاط “مبثوثات” وكالات الأنباء (لا النبش فيها وفي حواشيها)، ومن ثم إعادة قراءتها، أو بالأحرى إعادة انتاجها، بمفردات وعبارات تبدو وكأنها منسوخة كربونيا، إنما لا تخلو من وجاهة، رغم مباشَرَتها  ومؤداها الذي لا يضيف جديداً الى مبثوث الخبر؛ وذلك على طريقة معظم من يقدَّمون في وسائط الميديا العربية على أنهم محللون وخبراء واختصاصيون. بهذا المعنى، فإن النتيجة التي سيخلصون اليها في هذه الحالة، لن تخرج عن إطار القول بأن عقلية الرئيس ترمب “الميركنتيلية” (التجارية) الجديدة
(New Mercantilism)، التي “تكره النفقات المجانية” (خصوصا منها النفقات على الحروب العبثية التي لا ضمان لعوائد مالية من خوضها)؛ و”تهيم عشقا” في الايرادات (خصوصا منها سهلة المنال)؛ وكذلك نزعته (الرئيس ترمب) الواضحة لتجنب خوض الحروب التي عبر عنها مرارا وتكرارا، والتي تنسجم مع عقليته الميركنتيلية.

هذه قراءة لا غبار عليها بكل تأكيد، لكنها تحتاج الى تنويه سوف يضحى في معرض التحليل المتماسك، هو نفسه، جزءاً من معطيات القضية موضوع الدراسة والتحليل. ومفاد هذا التنويه أن رغبات الرئيس ليست مطلقة وإنما هي مقيدة “برغبات” الدولة العميقة، وذلك برسم أن الرئيس حاول أكثر من مرة، وبإلحاح صريح، سحب القوات الأميركية من سوريا والتخلص من نفقات انتشارها هناك، لكنه فشل. وكذلك الحال بالنسبة للقوات الأميركية في أفغانستان التي حاول تقليص أعدادها، لكن الدولة العميقة زادت أعدادها.

إنما لو توغلنا قليلاً في العمق، فلسوف نجد معطىً آخر، لم يحظ بالقدر الكافي من الأضواء، وترجيحه أن يكون وراء قرار الانسحاب الذي تتقاطع عنده رغبات الرئيس مع رغبات الدولة العميقة، هو هجرة آلاف الدواعش (بحسب المصادر الأمريكية) من سوريا بعد انهيار مشروع “دولتهم”، الى أفغانستان (برسم تقارير دولية، وأخرى لأجهزة مخابرات دولية عديدة؛ وبرسم العمليات الارهابية التي بدأت تتزايد في أفغانستان ضد المدنيين في أماكن العبادة وحفلات الأعراس، والتي تحمل بصماتهم). وهو الأمر الذي حوَّل اهتمام أجهزة المخابرات الأميركية الرئيسية، وخصوصا وكالة المخابرات المركزية (سي آي أيه)، بحسب تسريبات هذه الأجهزة، نحو توجيه الاستهداف الأمريكي الى هذه المجاميع الضخمة التي بدأت تتكدس وتجوب صحاري وجبال أفغانستان، لتحويلها من جديد الى بؤرة انطلاق لعملياتها الخارجية، كما فعلت “القاعدة” إبان زعامة أسامة بن لادن، وذلك من أجل منعهم من الوصول الى الولايات المتحدة وتنفيذ عمليات ارهابية ضخمة.

في هذا السياق، يَلحَظْ بعض من تابع عن كثب ما تيسر من تسريبات في الاعلام الأمريكي، بشقيه التيار الأساسي (Main stream media) والموازي، أن مفاوضات الدوحة بين الأمريكيين وطالبان، تضمنت استعداد وتعهد حركة طالبان، بسحق داعش، والجلوس مع الرئيس الأفغاني أشرف غني للتفاوض بشأن مستقبل الحكم في أفغانستان، بما يسمح للجنود الأمريكيين البالغ تعدادهم 14,000 جنديا، بالعودة الى ديارهم. كما ينص الاتفاق على التزام الولايات المتحدة بإطلاق سراح 13,000 من معتقلي طالبان، حتى ولو رفض رئيس البلاد أشرف غني.

وإذا كانت الحرب الأفغانية الثالثة التي اندلعت بين المحتلين الانجليز وحركات التحرير الأفغانية المسلحة قبل مائة عام، والتي استمرت زهاء 20 سنة، قد كلَّفت الانجليز 236 قتيلا، فإن حرب التحرير الرابعة بين المحتلين الأمريكيين وحركة طالبان، أسفرت، حتى الآن، عن مقتل 2000 من الأمريكيين.

ومع أنه لم يتسرب عن مفاوضات الدوحة ما يفيد بماهية مستقبل التواجد العسكري الأمريكي وطبيعته، الا أن المؤكد أن واشنطن سوف تبقي على فرق قتالية خاصة بدعوى محاربة مقاتلي تنظيم داعش، ما يعني استمرار تخصيص موازنة حرب ضمن ميزانية وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، ستُستحصَل من أموال الجباية الضريبية. ومن غير المستبعد أيضا، أن تعود وزارة الدفاع الأميركية لاستخدام أسلوب التعهيد (Outsourcing)، الذي ورثته الدولة الأميركية الحديثة من المستعمر البريطاني حين جلب ووظف 80,000 ألفا من المرتزقة الألمان لمساعدته على فرض سيطرته على المستعمرات الأميركية؛ وهو ما وجد صداه في وثيقة الاستقلال الأميركية الشهيرة، قبل أن يشيع استخدامه من قبل مؤسسة الجيش الأمريكي في الحرب التي خاضها في فيتنام، قبل أن يتسع نطاقها بعد انتهاء الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي، وتعلن عن نفسها بصورة سافرة إبان الاحتلال الأميركي للعراق، حين تعاقدت البنتاغون مع إريك دين برنس، الضابط السابق في البحرية الأميركية، وشقيق وزيرة التعليم  الحالية بتسي ديفوس، وصاحب شركة “Blackwater USA” التي غيّرت اسمها الى “Academi” بعد انكشاف فضيحة تورطها في عمليات قتل اجرامية في العراق، ومنها قتل 14 عراقيا في ميدان بغداد عام 2007، وفضيحة سجن أبو غريب. حيث تواصل البنتاغون القيام بأعمال التعهيد، بإيكال بعض المهام القتالية، السرية والعلنية، الى شركات خاصة، تقوم بدورها بالتعاقد مع مرتزقة من مناطق مختلفة من العالم.

 

ماذا عن بشتونستان؟

ولكن ماذا عن خط الحدود الذي رسمته بريطانيا التي كانت تستعمر الهند وأفغانستان آنذاك (كان البريطانيون يعتبرون أفغانستان دولة مستقلة، مع أنهم كانوا يديرون فعليا شؤونها الخارجية وعلاقاتها الدبلوماسية)،  والمعروف باسم “خط ديورند”(Durand line)، نسبةً الى السير هنري مارتيمور ديورند (Sir Henry Mortimer Durand) سكرتير الشؤون الخارجية في حكومة الهند البريطانية عام 1893، لتفصل الحدود بين أفغانستان والهند (باكستان حاليا)، والذي يمتد بطول 2,200 كيلومترا، وتسبب في شطر القبائل البشتونية الى نصفين موزعين بين الهند (باكستان حاليا) وأفغانستان؟

هل نوقش هذا الموضوع الحدودي الحسَّاس في الدوحة، وإذا كان الأمر كذلك، ما الذي ستكون عليه ردة فعل باكستان؟  ذلك لأن الأمر ربما تعلق بطموحات طالبان غير المعلنة لإنشاء دولة بشتونستان التي ستضم أراضي أفغانية وباكستانية. وهناك معطى آخر يضاف الى هذه المسألة، وهو احتضان باكستان ورعايتها شبه العلنية لحركة طالبان، فضلا عن مجاميع داعش الذين لهم بدورهم وجود وحواضن في باكستان، حتى قيل بأن المجموعة الارهابية الداعشية التي نفذت المجزرة الارهابية المزدوجة (بسترة ناسفة وسيارة مفخخة) ضد المدنيين الأفغان الذين كانوا يحتفلون داخل إحدى قاعات الزواج في العاصمة كابل مساء السبت 17 أغسطس 2019، والذي أسفر عن مقتل 63 شخصا وإصابة 182 – قد قدِمت من باكستان!

خلاصة القول، أن أميركا تريد سحب “القرص الصلب” من قواتها من أفغانستان لدواعي تتصل بالكلفة المالية والتكلفة البشرية (في صوف قواتها)، وأخرى جيوسياسية تتعلق بإعادة التموضع الجغرافي مع تغير بعض محاور الاستراتيجية الأمريكية الكونية، مَيْلاً نحو الشرق لمحاولة وقف الصعود الصيني الروسي، الأوراسي. لكنها قطعاً سوف تحتفظ بوجود عسكري محدود، على غرار قوة القيادة العسكرية الأمريكية في افريقيا “أفريكوم” (USAFRICOM) المسؤولة عن العمليات العسكرية الأمريكية في 53 دولة افريقية عدا مصر التي تتبع القيادة المركزية الأمريكية، والتي يبلغ تعدادها 2000 جندي يعسكرون في قاعدة ليمونيير  في جيبوتي، وهي القاعدة الأمريكية الوحيدة في أفريقيا. ذلك أن محللي خزانات الأفكار التابعة لمؤسسة الحكم الأمريكية  تتوقع أن تتحول أفغانستان من جديد الى بؤرة لتجمع الارهابيين من جميع أنحاء العالم. ومن هناك سوف يبدأون من جديد “رحلة” الانتقام، كما فعل تنظيم القاعدة حين خانته واشنطن وتخلت عنه بعد أن انتهت مدة صلاحية استخدامه في الحرب الأمريكية السرية ضد السوفييت في أفغانستان.

 

 

*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني عمل سابقا مديرا في وزارة النفط مسؤولاً عن ملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. يكتب حالياً في المدونة وفي الملحق الاقتصادي لصحيفة “الخليج” بدولة الامارات العربية المتحدة.

 

[1] البيانات تغطي الفترة حتى 27 يوليو/تموز 2018. المصدر:

U.S. Department of Labor – Office of Workers’ Compensation Programs (OWCP) – Division of Longshore and Harbor Workers’ Compensation (DLHWC) – ww.dol.gov

[2] أنظر:

Kimberly Amadeo, Afghanistan War Cost, Timeline, and Economic Impact, the balance, http://bit.ly/2M60l3j

 [3] لقراءة النص الكامل للاتفاقية يمكنكم النقر على هذا الرابط:  http://bit.ly/2VBcgJG