ما هو مختبر الفلسفة والفكر النقدي؟ الإسم يبدو اكثر من كاف لاثارة الفضول والتساؤلات. لفت نظري في القراءة المعمقة التي قدمها هشام عقيل في المدونة في يناير/كانون الثاني الماضي لأعمال الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك. اذا وضعنا الاعجاب بالقدرات العالية لهذا الشاب الجامعي الذي يبدو نموذجا نادراً في جيله، فان مختبر الفلسفة والفكر النقدي الذي ينشط فيه يستدعي التوقف حتما والتساؤل. طرحت تساؤلاتي على هشام عقيل، فآثر ان يجيب بمقال يشرح من خلاله كل ما يتعلق بمختبر الفلسفة والفكر النقدي.
وحسب عقيل، فان المختبر تم تدشينه رسمياً في 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، متزامنا ً مع ندوة عقدت بمناسبة يوم الفلسفة العالمي تحت عنوان ”الماركسية والفلسفة“. ومنذ ذلك الحين أخذ مختبر الفلسفة يعقد جلساته شهرياً بشكل غير معلن، وفي اغسطس/آب 2018 إرتأى اعضاء المختبر أن هذه الجلسات لا بد أن تكون معلنة كي تصل رسالته إلى جمهور اوسع. هكذا، فإن أول جلسة علنية عقدها (مختبر الفلسفة) كانت في يوم 25 سبتمبر/ايلول 2018. وفي الوقت الحاضر، يعقد (مختبر الفلسفة والفكر النقدي) جلساته على نحو شهري؛ ويتم الاعلان مسبقاً عن الجلسة (في حساباته في وسائل التواصل الاجتماعي) عن الجهة الرسمية الراعية لهذه الجلسات الفلسفية.
هشام عقيل*
إنه لأمر اعتيادي للسائل أن يبتغي معنىً أعظم للأشياء التي يسأل عنها عما يفصح عنها في الأساس. إذ ما معنى السؤال بادئ ذي بدء؟ ايّ ما معنى البحث عن معنى الشيء ذاته؟ سأجيب بشكل مختصر جداً، ولأقوم بذلك دعوني استحضر ما كتبه جان جاك روسو في مذكراته (بتصرف) حين وقف صدفة أمام بحيرة ما: ”أهناك أية ضرورة لمعرفة كم عدد، وما هي أنواع، الكائنات الموجودة في قاع هذه البحيرة؟“.
هنا يعترض روسو على السؤال نفسه عبر طرح سؤال ما. ولكنه لم يدرك بأنه كان يعني في الحقيقة: كي أنفي ضرورة معرفة الكائنات الموجودة في البحيرة، فإن على هذه الكائنات أن تكون موجودة بالأساس! إنها نقطة عمياء بعينها: إذا نفيتَ شيئاً ما فأنت بحاجة لتعرف ”ما هو“ هذا الشيء الذي تريد نفيه. في كل الأحوال: هناك معانٍ متعددة لأي سؤال — والسؤال نفسه لا يقتصد سوى شيئاً واحداً لا غير: ”ما هو هذا وذاك“. وكما تعلمون جيداً، هذا هو مصدر كل المصائب: حيث الـ ”ما هو“ قد يبدو بأنه يشير إلى الحاضر، لكنه في الحقيقة يسعى وراء ”أصل ما“ (ماضوي)؛ وهذا الأصل بدوره دائماً يشير إلى غاية ما (مستقبلي). فأنت حين تسأل احد المارة: ”ما أنت؟ من أنت؟“، فعلى الأغلب فإن المقصود هنا أمر آخر: “أكشف لي عن نفسك، أفصح لي ما تكون عليه” اي ”حقيقتك“ أو ”ماهيتك“. وهذا بدوره يعني: ”من أين أتيت، وإلى أين أنت قاصد؟“. لهذا، برأيي، يكره أغلب الناس بطاقتهم المدنية؛ حتى لو كان لسبب ساذج مثل ”صورتي القبيحة!“، المعنى هنا واضح، وهو ليس بساذج: نعم! هذه الصورة هي صورتي، لكنها لا تعبر عن ماهيتي؛ أنها لا تعبر عمن أكون في حقيقة أمري. أنها لا تظهر للبيروقراطيين كم أنا شخص ملتزم، وزوج صالح، وأب حنون، ووسيم في مناسبات أخرى.. إلخ.
لا نعد بشيء ولسنا مدينين بشيء ولا نريد انقاذ أحد
سأتفهم إذا كان القارئ يتصور بأنني ”اتفلسف“ (ولهذه الكلمة معنى سلبياً في بلداننا) لكن، في مثل الوقت، من الصعب جداً أن اخدع القارئ عبر إجابات مكررة (ونرى هذا كثيراً اليوم) تعده بأشياء دراماتيكية وملاحم اسطورية آتية؛ وطبعاً كل هذه الأمور سيتم إدراجها تحت تصنيف ”هويتنا“ في نهاية المطاف. مختبر الفلسفة والفكر النقدي لا يعد أي أحد بشيء، ولا يدين لأحد بشيء؛ نحن لا نريد إنقاذ أحد، ولا يوجد لدينا دائنين يطرقون بابنا ليلاً نهاراً ليستردوا ديونهم (التاريخية، الفكرية، السياسية، الحزبية، إلخ).
دعنا لا نخدع أي أحد هنا! ليست لدينا أية قصص خرافية لنحكيها لأي مستمع (وكم من هؤلاء الناس موجودين ومستعدين لأن يسمعوها). ونقولها علناً: ليس بمقدور الفيلسوف، أو الأديب، أو الموسيقي، أو المثقف أن ”يصنع” التغيير، وحدها الجماهير التي تقوم بذلك. ما هو أكثر من ذلك: لا يمكنه أن يلهمها حتى (رغم كل الكلام حول كون روسو ملهم الثورة الفرنسية، أفلاطون سبب استبداد حاكم سرقوسة.. إلخ). أفضل ما يمكن للفيلسوف أن يقوم به هو: تأليف الكتب والاعتناء بمزرعته الصغيرة، فهو دائماً يأتي مابعد الكارثة؛ أنه، على العكس من العالِم، دائماً يصل متأخراُ! للتعبير عن هذه الحقيقة قال هيغل بإن “الفلسفة تفرد جناحيها بعد الغسق”، لكنني شخصياً أفضل تشبيه والتر بينيامين حول ملاك التاريخ “الذي يحاول أن يلم فتات وشتات الماضي فقط لتدفعه الرياح بقوة إلى الأمام؛ كل ما قام بجمعه بين يديه يطير سدى في السماء نحو المستقبل”. هذا هو الفرق المفصلي ما بين التشبيهين: التاريخ لا يتوقف ابداً، بينما الفيلسوف يعتقد أن بإمكانه أن يجمد التاريخ؛ يعتقد، مثل هيغل، بإمكانه أن يحلق في وسط رياح قوية كتلك! ولهذا تراه يحكي قصصاً خرافية: أن هذه الرياح قد أتت من مكان ما، وهاهي ذاهبة إلى مكان ما.
إننا، بالتالي، ننطلق بمنطلق معكوس تقريباً مقارنة بالحركات الثقافية الأخرى (ولا سيما تلك التي سميت، على الأقل في البلدان العربية، بالحركات الحداثية) التي تبنت مشاريع ثقافية وفكرية معينة قامت على أساس وعود عظمى تتضمن: تغيرات سياسية واقتصادية، تبدل بنيوي اجتماعي شامل، ثورات تقنية هائلة، إلخ. كأنما الحركة الفكرية ليست وليدة هذه الظروف؛ كأنما الفكر هو الذي يحدد هذه الظروف؛ كأنما (إن شئت أن أكون ميكانيكاً) الفكر لا يذيل هذه الظروف كلها، أو نتاج تصدعها. أذكر هذه الحقيقة رغم أن ما يفصل بيننا وبين تلك الحركات عقود طويلة؛ وذلك لأن هذه الحقيقة تشير إلى الاختلاف الكلي في ظروف النشأة.
قطيعة التاريخ: جيلنا لا يمثل بحرين القرن العشرين
إن جيلنا الحالي (ودعني احصر الأمر بالبحرين كي لا أتهم بالتعميم) لا يمثل، سواء شاء المرء أم أبى، استمرارية تاريخية لبحرين القرن العشرين. فإن كان للتاريخ أي قانون فسيكون: اللا-تزامن (أو اللا-استمرارية)؛ لكن هناك قانون وهمي يتولد عنه وهو: أن كل الذين يعيشون التاريخ يتوهمون بأنه خط مستمر. فالأصح هو أن نقول بإن جيلنا الحالي قد ورث اشياءاً عديدة من الماضي لكنه (كحال كل الأجيال) لا يعرف ماذا يصنع بها. أما ثقافياً فإننا ورثنا فشل المشروع الحداثي، والآن يمكننا، من وجهة نظر ارتجاعية، تفسير أسباب هذا الفشل، لكن ذلك يتطلب أولاً إقراراً بالفشل. إن هذه الحركات الفكرية والثقافية إنتهى بها الأمر، في البحرين، أن تكون إما خاضعة للمؤسسة الرسمية (بوعي أو بالوكالة) وإما بكل بساطة أصبحت بائدة، وذلك يرجع إلى حقيقة إستحالة ”الحداثة“ (هذا التقدم الذي لا يأتي إلا عبر ثورة تنويرية) مشروعاً في عالمنا العربي؛ استحالة بنيوية بالتحديد ( وما الربيع العربي سوى صفعة اخرى في وجه خرافة إمكانية تحقق هذا المشروع).
إنها لبديهية واضحة بأن كل شيء يولد عن ظروف معينة: إن ظرف الحداثة قام أساساً على ”نقض“ ما هو موجود (الشعر الحداثي الحر الذي قام على نقض الشعر التقليدي، أو الأدب الشكلاني ضد الواقعي.. إلخ). بينما نجد أنفسنا في مختبر الفلسفة والفكر النقدي، وأتصور جيلنا بأكمله كذلك، على ”أنقاض“ التيارات الثقافية هذه.
ترجمة ما قلته كالتالي: الحداثة قامت على ثورة التحرر الوطني، بينما نحن نقوم على أفول ثورة التحرر الوطني. لقد كتب الشاعر الإيراني أحمد شاملو: ”ليس ثمة حبٌ هنا لنشتاق إليه“. أعتقد، مع تعديل بسيط، بإمكاننا أن نقول: ”ليس ثمة ثقافة هنا لنقوم بنقضها حتى“.
إن الثقافة المأزومة لا تعطي إلا مثقفاً مأزوماً (ألم يكن الموت، والدم، والقتل، هو الموضوع المفضل للأدب والشعر البحريني؟). أما اليوم، إن حضرت ثقافة مأزومة كتلك فإننا سنعتبرها ضرباً من ضروب الترف! ليس جيلنا من يعاني من شح ثقافي، بل إنه يعاني من فشل الماضي أساساً، لقد ورث جيلنا الفشل من أجداده ولا يعرف ما يصنع به.
ورشة حلم
إن مختبر الفلسفة والفكر النقدي، إذن، هو نتاج هذه الظروف — لكنه، على عكس الكثير من المجموعات الثقافية الشبابية، واعٍ بها؛ ولستُ أبالغ إن قلت بإن أغلب الناس الذين ترددوا على جلساتنا لم يأتوا بعدها إطلاقاً، وهذا لأسباب مفهومة: يبدو لي أهمها لا يقع في صعوبة الطرح وحسب، ولكن بفعل تشاؤمنا غير الاعتيادي. لن تجد في صفوفنا أي شخص ”مفعم بالأمل“، بل مجرد مجموعة من عصابيين، مشككين، متشائمين. علم النفس طبعاً يرى في ذلك مشكلة يجب حلها بالعلاج النفسي، بينما الفلسفة تجد في ذلك أحد أهم مقومات التفلسف. نحن بشكل عام لا نثق بالتاريخ لأنه مفتوح، ولهذا نكون آخر من يحتفل بالانتصارات. أنا لا أقول ذلك لكي تتصوروا بأننا مجموعة من المغمومين الذين لا يعرفون الضحك، على العكس، كل ما ستجده لدينا هو الضحك، ولهذا بإمكاننا ترويض أي شخص كان.
قلتُ إننا لا نؤمن بعفوية التاريخ، كما إننا متشائمون مقهقهون؛ ومع ذلك قلنا يوماً من بعد فلاديمير لينين: ”ينبغي علينا أن نحلم!“. وايضاً قلنا: ”مختبر الفلسفة هو ورشة حلم“. لعلكم تعلمون بالتشبيه الذي استحضره كارل ماركس في (رأس المال) حين قال بأن الفرق بين النحلة والإنسان هو: النحلة تشيد خلية جميلة قد تجعل أي مهندس فاشل يشعر بالخجل من نفسه، ولكن ما يميز المهندس الفاشل عن هذه النحلة هو: أنه قبل تشييد هذا المبنى الفاشل في الواقع قام بتخيله، وتصوره، وحلم به في عقله أولاً. إن ذلك يعني أن الحلم هو فعل إنتاجي، أو قل: شرط الإنتاج — وإن كنا نحلم بتاريخ بديل، تاريخ نشارك فيه، فإن لا بد علينا أن ننتجه لا ننتظره؛ لا بد أن نعين لأنفسنا دوراً متفارقاً: دائماً مذيلين للجماهير ومتأخرين بالنسبة لها، وفي مثل الوقت دائماً متقدمين عليها بخطوة واحدة فقط. كل تربة هي مناسبة للزراعة، ولا تصدقوا من يقول: ”عليكم أن تنتظروا إلى أن تكون الظروف المناسبة“، فكل ظرف هو مناسب للعمل؛ للعمل الخلاق. إن مختبر الفلسفة والفكر النقدي هو أحد عوارض ذلك، وقد يمر في التاريخ الثقافي للبحرين بلا أية أهمية تذكر — ولكن أيهمنا ذلك؟ فنحن لا أكثر من: ”ريح شمالية تسقط ثمار التين الناضجة“، وقد نكون الوحيدين في رؤيانا وربما يشاركها معنا يوماً ما نفراً من الناس، لا أعلم. ولكن إلى ذلك الحين سنردد مثل إسولده باكية على ترستان:
”أنظروا يا أصدقائي!
ألا تشعرون؟ ألا تبصرون؟
أوحدي أنا من يستمع إلى هذه النغمة….“
الأسلوب الرائج اليوم في أوساط أغلب المجموعات الثقافية والفكرية الشبابية هو تداول وتدوير الأفكار بشكل عام. وكأنها شيئٌ محايدٌ ينتظر الاكتشاف والكشف؛ هناك طبعاً مجموعات تقوم بعمل جيد في ذلك ـــــــــ أنها تكرس وقتاً ومجهوداً للإفصاح عن الآراء، والأفكار، والمذاهب الفلسفية والفكرية الملقاة في الساحة الثقافية.
يرجع ذلك إلى أسباب عديدة، ولكن أهمها قد تكون كائنة في سببين رئيسيين، الأول: على العكس من الأجيال السابقة، التي لم تكن تعترف بالحياد إطلاقاً (وهذا جانبها الحسن)، فإن الجيل الحالي يميل نحو أن يبرز نفسه كجيل موضوعي؛ كجيل يفسر الأشياء ”كما هي“ بعيداً عن ”التحزب الفكري“. وهذا عادة ما يكون التوجه الذي تأخذه أية مجموعة تبرز في الساحة الثقافية — لا أحد في نهاية المطاف يريد أن يزعج الآخرين. إن جيلنا الحالي مستعد لأن يرتكب كل خطأ ممكن فقط لكي يبعد نفسه عن الماضي. أما السبب الثاني فهو: لم تكّون هذه المجموعات الناشئة لنفسها أية تجربة فعلية في الصراع الأيديولوجي، حيث إنها تحاول الابتعاد عنه بقدر الإمكان، أو اسوأ من ذلك: تنكره كلياً (والآن فقط تكتشف بأن إنكاره أمر مستحيل، رغم أنها لا تحدده كصراع أيديولوجي — بل كمجرد اختلاف فكري!). إن الحياد يتكامل مع الرغبة في عدم التصادم مع أية جهة كانت.
أما مختبر الفلسفة والفكر النقدي، فإنه لا يمثل امتداداً لهذا الأسلوب على الإطلاق؛ إذ نحن لسنا جمعية خيرية في نهاية المطاف. فليس شاغلنا هو ”نشر“ الثقافة أو ما شابه ذلك من نوايا حسنة؛ ولا نريد إصلاح المجتمع إطلاقاً — لسنا بالبراءة التي نبدو عليها.
كما إننا لا نؤمن بأن ”كل“ فلسفة هي مفيدة، وأن علينا – بالتالي – نشر الثقافة الفلسفية بالمطلق. نحن، على العكس، نقوض وهم الفلسفة من جذوره؛ الوهم القائل بإن الفلسفة هي مساحة تجريدية منفصلة عن كل ممارسة. وزد على ذلك، بفعل طغيان جنون العظمة، تجدنا منقادون برغبة في تقويض الفلسفة نفسها! ليست ثمة حقيقة نسعى وراءها، أو نسعى وراء كشفها، فالحقيقة نفسها هي أكذوبة. هذا يعني أننا لسنا مهتمين إطلاقاً بتدوير الأفكار ومناقشتها كما لو كانت تخلو من أي انحياز — لم نقع ابداً في فخ: ”التنوير هي الكلمة العليا لكل تقدم“. والسبب في ذلك يقع جزئياً – بجانب كوننا مثقفين ماديين نؤمن بالفلسفة المادية بكل صراحة – هو أن لجميع اعضائنا في المختبر شيء من التجربة في الصراع الأيديولوجي: سواء أكان عبر الصحف اليومية أو بشكل مباشر (في الجلسات النقاشية، والندوات، واللقاءات، إلخ). نحن واعون بأن الأفكار هي ساحة صراع؛ يعكس الصراع الطبقي/الاجتماعي نفسه. وفيما يتفادى الآخرون الإزعاج، فإننا نتعمده ونفتعله.
تصفحوا أغلب الصفحات الثقافية المحلية والخليجية، لن تجدوا سوى محاولات لانهائية لإعادة إنتاج الوهم التنويري القديم بأن الفكر بحد ذاته، وبالتالي التفكير نفسه، هو شيء يوجد بشكل صرف؛ أن ما ينقصنا، من وجهة نظر هذه الصفحات، هو التفكير المناسب — بعدها، طبعاً، ولأننا نفكر جيداً، ستجدنا نحل مشاكلنا بشكل أفضل ونكون في مقدمة بلدان العالم! إنه من السهل أن تلاحظوا معي بأن الفكر يُعامل هنا وكأنه دواء ما أو علاج ما — أنها فكرة سقراطية قديمة: “الجدل هو الذي سينقذ أثينا!”. ألا تلاحظون بأن هذا بالضبط ما يطرحه مثقفونا الأفاضل اليوم؟ مهما قالوا فإنهم يتفقون بأن الفكر هو الذي سينقذ العالم العربي! لكنهم لا ينتبهون لحقيقة تاريخية جد مهمة: بالنسبة إلى سقراط تحول هذا العلاج إلى سم الشوكران في نهاية الأمر؛ فسقراط كان عالماً بشكل جيد بأن دوائه هو ليس أكثر من سم (”قل لي كيف أتجرع هذا السم يا سيدي“).
أما الفلسفة التنويرية في القرن السابع عشر، فقد حملت السقراطية إلى حدودها القصوى؛ أعلن طليعتها بأن التنوير الفكري هو الطريق الذي سيحرر أوروبا من الظلام الكهنوتي — يمكنك أن تلاحظ فيتشية هؤلاء المفكرون المتمحورة حول الفكر، بدءاً برينيه ديكارت والكوغيتو فقط ليتطور ذلك إلى الشعار الذي تبناه كانط لاحقاً: ”أجرؤ على التفكير!“ (وطبعاً لا ننسى الإصلاح اللوثري في وسط كل ذلك— لوثر الذي كان يكره شيئين: اللغة اللاتينية والربا).
يستطيع أي أحد أن يتأثر بكانط في هذا المقام – ولن استثني نفسي- ولكن الأمور واضحة هنا ودعني أضعها على شكل صيغة: بما إن العقل هو مبدأ الوجود كله (ديكارت) فإن الانحراف عنه لن يؤدي إلا لحالة فوضوية ظلامية من حيث كونها لاعقلانية؛ وذلك يعنى أن على المرء أن يجرؤ على التفكير، أن يجرؤ على استعمال عقله وأن يفكر لنفسه — بشرط أن يكون مشاركاً فاعلاً في المحافظة على النظام (العقلاني) العام عبر أخلاقه (كانط). (قارن ذلك بالطريقة التي تقدم بها فلاسفة مثل: فيشته وشيلنغ – النقد الصادم لهم لم يأتِ من طرف الفلسفة المادية، بل من هيغل نفسه!). هنا أيضاً، أتصور أنه من الواضح طريقة ارتباط مقولات التنوير ببعضها البعض؛ وتستمر هذه المقولات في الوجود باستمرار وجود الأيديولوجيا البورجوازية (رغم أن اشكالها الحالية أكثر تعقيداً)، لهذا تجد فلسفة مفارقة مثل الفويرباخية (نسبة الى لودفيغ فيورباخ) لم تتمكن أن تتحرر من أيديولوجيا كهذه عبر طرحها سؤالاً (تنويرياً بامتياز) ثورياً ورجعياً في آن: “لماذا على العقل أن يظهر بمظهر لا-عقل؟”.
لن نقدس شمس افلاطون
دعوني أوضح هذه الفكرة بطريقة مختلفة: بالنسبة إلى هذه الأيديولوجيا يكون الفكر بمثابة نور يكشف كل ما هو كائن. إن مسألة النور، كما تعلمون، هي شاغل الفلسفة منذ سقراط وأفلاطون اللذان آمنا بأن نور الشمس ليس البصر بعينه ولكنه ”مفعل“ البصر؛ طبعاً لا تقف الأمور هنا، إذ الشمس لا تساعد على الاستبصار وحسب، بل من دونها لن تكون هناك أية حياة. عدا انكم تعلمون بأن الشمس متعالية ومنفصلة عن البشر، هكذا اذن! كل شيء له معنى الآن: الشمس هي العقل الإنساني الذي يضيء كل ظلام دنيوي. إن ما قام به فلاسفة التنوير هو ملاحظة تلك الغيمة الحاجبة لهذه الشمس: لكنها – الشمس – في نهاية المطاف أقوى من الغيمة مهما كانت مظلمة! فالحقيقة هناك، ولا علينا سوى كشفها عبر نور العقل الإنساني.
لا! لن تجد من يقدس الشمس في مختبر الفلسفة إطلاقاً— شمس أفلاطون على الأقل. نحن مدركون بأن الشمس هي مخادعة ومخاتلة: أولم يعطِ الإسكندر الأكبر درساً في ذلك حين قام بترويض حصانه بوسيفالوس عبر توجيه عينه لتكون قدام الشمس لتحجب رؤيته؟ إن كلمة ”مختبر“ توحي بذلك سلفاً؛ عليك أن تفكر بمختبر حقيقي، بمعناه الحرفي. إن الفكرة لا تخرج بمثل الهيئة التي دخلت بها المعمل هذا؛ حيث تعرضت إلى مختلف اشكال التحويل، مثلما يقوم العامل (مثلاً) عبر أدوات إنتاجه بتحويل مواد خام معينة إلى منتوج جديد كلياً — لا تبقى المواد الخام هي هي بعد عملية الإنتاج في الصناعات التحويلية. لسنا، إذن، نختصر الأمر بالنقد والفحص بل بالتحويل ايضاً! قال سبينوزا قديماً: ”الحقيقي هو مؤشر لنفسه وللباطل في مثل الوقت“. لاحظ هنا، على العكس من التقليد التنويري، لا يجري الحديث عن الحقيقة بمثابة شيء يتوجب كشفه، بل الحقيقي – بالنسبة إلى سبينوزا – هو نتاج عملية إنتاجية معينة!
كما يعلم الجميع، كان مرضى فرويد يستلقون على الشازلونج ليخوضوا التحليل. الأمر سيان – تقريباً- مع مختبر الفلسفة، الفرق الوحيد هو: أننا ندعوكم للإستلقاء على شاربي نيتشه! إنهما شاربان يتحملان أي شخص كان! لذا، أفلاطون، وديكارت، وكانط، وهيغل مرحب بهم للإستلقاء على الشازلونج الخاص بنا— لا، سنقدم لهم شاياً على حسابنا ايضاً! لكنهم سيخرجون بعد ساعة اشخاصاً مختلفين تماماً: ستجد لهيغل لحية كثيفة، وسنلبس كانط لبدة ماركس، أما ديكارت فسنحلق شعره بالكامل! إن كل فكرة مرحب بها بشرط أنها تتقوض أولاً وتتفكك، وبالتالي تكتسب معنىً جديداً كلياً في نهاية العملية.
إننا طبعاً لا نعيب على المجموعات الثقافية الأخرى عدم استعمال هذا الأسلوب؛ لكل طريقه، ولكل أسلوبه، والكل حسب مقدرته. لكن لا بد أن يعلم الكل بأن بول إيلوار لم يكن مخطئاً حين قال: ”هناك عالم آخر… وهو كامن في هذا العالم“. الجزر السعيدة موجودة في تخوم العالم، ونحن اخيراً اكتشفنا طريقاً نحوها: تستطيع أن ترى كم هم خلاقون شبابنا، يبتكرون طرقاً مختلفة ومجددة لتنظيم نفسهم (مهما كانت الأخطاء التي ذكرتها آنفاً)؛ أنهم يجتمعون في كل مكان — في المقاهي، والمراكز، والدوائر. مستعدون دائماً لتفجير العالم الكامن هذا عبر حركته الخلاقة، استعداداً لطلوعه. إن لم يكونوا مدركين بذلك الآن، حسن إذن! فإنهم (أنا اكرر ماركس بتصرف) سيدركون ذلك حين يصل الصراع إلى الحد الذي لا رجعه منه، حيث يصرخ العالم:
”هنا الوردة، هنا أرقص!“
*هشام عقيل كاتب بحريني من مواليد العام 1995، طالب بجامعة البحرين كلية الآداب قسم العلوم الاجتماعية. عضو مؤسس في “مختبر الفلسفة والفكر النقدي”. نشر العديد من المقالات الفكرية في مواقع إلكترونية داخل وخارج البحرين منها: “الحوار المتمدن”، “حكمة”، “منقوطة”، “جهة الشعر” و”أوان”. نشر العديد من المقالات الفكرية في مجلات ثقافية وصحف محلية منها: مجلة البحرين الثقافية، صحيفة الأيام، صحيفة الوسط، اخبار الخليج. من هذه الأبحاث والدراسات: “الثقافة في ضوء الممارسة الاجتماعية: قراءة في مفهوم الثقافة والأزمات الثقافية”، موت الإنسان، الماركسية والفلسفة، وبورتريه للفيلسوف المادي (لوي آلتوسير)، قناع يجعلك تبدو كما أنت (سلافوي جيجك)، صفعة على وجوه الكهل، هنا الوردة، هنا أرقص، عناكب سبينوزا، أشباح هيغل، اكتشاف رأس مال ماركس. عيون مغلقة بإتساع: نقاش حول مفهوم الطبقة الوسطى. غواية كيركي الفلسفية: حول نقد الظواهر الاجتماعية. أسئلة أقل فلسفة اقل. بودلير – أدورنو: أيمكن أن يأتي النسيم من كوكب آخر.