أي نوع من الامبراطوريات هي الولايات المتحدة الامريكية؟
د. محم الصياد
في شهر يناير الماضي، نشر الصحافي نيكولاس ديفيز، مؤلف كتاب “الدم على أيدينا: الغزو والتدمير الأمريكي للعراق“، مقالاً مهماً بالنسبة للمهتمين بفهم كنه وأبعاد النزعات الجديدة في العلاقات الدولية واتجاهاتها.
يقول ديفيز: “لقد رافقت في طفولتي والدي الذي كان يعمل طبيباً في البحرية الملكية البريطانية، وكنت شاهداً على أفول نجم الامبراطورية البريطانية، من خلال تحول القواعد البحرية البريطانية في مستعمرات الامبراطورية البريطانية التي لطالما زرتها، من ترينكومالي (على الساحل الشمالي الشرقي لسيريلانكا) الى جبل طارق، وهونغ كونغ، ومالطا، وعدن، وسنغافورة.. الى جزء ماضٍ من التاريخ”.
يقول ديفيز، إنه طوال الفترة التي عاشها في ولايتي كاليفورنيا وفلوريدا، منذ أواخر سبعينيات القرن الماضي، ظل شاهدا، كما بقية الأمريكيين، على تناقضات الإمبراطورية الأمريكية. فالولايات المتحدة لا تملك إمبراطورية إقليمية معترف بها دوليا مثل الإمبراطوريتين البريطانية والعثمانية. كما أن السياسيين الأمريكيين يداومون بشكل روتيني على انكار أن الولايات المتحدة تحتفظ أو تسعى لإقامة امبراطورية على الإطلاق، في ذات الوقت الذي يصرون فيه على أن مصالحها تمتد عبر العالم بأسره، ناهيك عن أن سياساتها تؤثر على حياة الناس في كل مكان وتهدد مستقبلهم. فكيف يمكننا أن نفهم هذه الظاهرة للإمبراطورية الأمريكية التي صارت تطبع جوهر كل حياتنا ومستقبلنا، رغم أن هيكلها ما زال خفيا وسريا؟ يتساءل ديفيز.
دارسو علم الاثنوغرافيا (علم دراسة أعراق وأجناس وأحوال الناس، وهو فرع من فروع علم الانسان، الانثروبولوجيا) للإمبراطورية الأمريكية، أعدوا دراسةً شارك فيها كارول ماكجرانان من جامعة كولورادو وجون كولينز من جامعة ولاية نيويورك، وأربعة وعشرون من علماء الأنثروبولوجيا، تناولت مجاميع من الأشخاص من الذين ينتسبون الى أعراق وثقافات مختلفة، شملت الشعوب الأصلية في الولايات المتحدة وهاواي وأولئك الذين تم نقلهم قسراً من الفليبين ودييغو غارسيا، والذين صاغت حياتهم الإمبراطورية الأمريكية التي اندغموا فيها وتفاعلوا معها. سلطت هذه الدراسة، والعديد من الدراسات الإثنوغرافية الأخرى، الضوء على التناقض الظاهر لإمبراطورية عالمية قائمة بالفعل في عالم ما بعد الاستعمار، والذي يُفترض أن تكون فيه جميع الدول تقريباً معترف بها دوليا كدول مستقلة ذات سيادة.
وقد وصلت آخر المقاربات في إثنوغرافيا الإمبراطورية الأمريكية إلى أكثر التحليلات شمولاً للأنماط الفئوية والمعقدة للسيادة، وخلاصتها أن الدول المستقلة رسمياً ومواطنوها يقعون جميعا تحت السيادة الشاملة للإمبراطورية الأمريكية. وبهذا الصدد يسوق نيكولاس ديفيز المثال الحي التالي: “في الفصل الموسوم [“من الاستثناء الى الامبراطورية: السيادة وتدوير السجون والحرب العالمية على الارهاب”] الذي كتبه داريل لي أستاذ الأنثروبولوجيا بجامعة شيكاغو، تتبع الكاتب مصير مجموعة من الرجال الذين جاءوا إلى البوسنة والهرسك من دول عربية للقتال الى جانب البوسنيين المسلمين في الحرب بالوكالة التي دعمتها الولايات المتحدة لتفكيك يوغوسلافيا في تسعينيات القرن الماضي. بعد انقضاء الحرب (في 1995)، كان معظم هؤلاء الرجال، وعددهم حوالي 660، قد أقاموا بحلول عام 2001، في منازل جديدة في البوسنة، وتزوج الكثير منهم من نساء بوسنيات وصارت لديهم أُسر بوسنية، ومُنحوا جميعا الجنسية البوسنية تقديرا لدورهم في استقلال البوسنة. لكن بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، قررت الحكومة الأمريكية أن هؤلاء المجاهدين السابقين، خطرون بطبيعتهم، وأصرت على وجوب ترحيلهم الى أوطانهم. وقد اتخذت عملية نقل هؤلاء إلى السجن الذي بناه الاتحاد الأوروبي في البوسنة تحت مسمى “مركز استقبال اللاجئين غير الشرعيين”، ويشرف عليه ضباط أمريكيون، قبل تجريدهم من جنسيتهم وترحيلهم، في البداية، طابعاً سرياً، بهدف تجاوز الأمور القضائية، لكن بعد عام 2005 تم اضفاء الطابع المؤسسي عليها من خلال لجنة حكومية مؤلفة من تسعة أعضاء وبمشاركة ضابط من الجيش الأمريكي ومسؤول من شؤون الهجرة البريطانية.
وقد زار داريل لي بعض هؤلاء الرجال وعائلاتهم البوسنية، وظل على اتصال معهم لعدة سنوات، درس خلالها أحوالهم. ولاحظ كيف مارست الولايات المتحدة السيادة العليا على هؤلاء الرجال ومصيرهم، وعلى حكومة البوسنة والهرسك، ولكن مع إخفاء دورها بعناية. ولاحظ كيف كانت مصائر كل هؤلاء الناس الذين ينتمون الى جنسيات مختلفة، خاضعة بالكامل لليد الطولى للإمبراطورية الأمريكية “المبسوطة حنواً” على مختلف حكومات بلدان العالم قاطبة[1].
لقد أراد ديفيز من خلال سرد رواية “مجاهدي البوسنة”، أن يوفر نموذجاً مصغراً لما يعتبره تمثيلاً وتجسيداً رمزياً لهذه الامبراطورية التي تحرص على إبعاد هذه الصفة عنها، لا تواضعاً، وانما منعاً لتسلل شبهة الربط بينها وبين الوحشية التي ميَّزت الامبراطوريات عبر التاريخ، والتي كانت أحد أسباب زوالها.
لكن يبدو أن الوقائع العالمية المستجدة، والتي إستشعرت النخبة الأمريكية الحاكمة مخاطرها، سوف تضطرها للمضي أكثر فأكثر (أكثر مما يفعله الرئيس الأمريكي اليوم تحت شعار “جعل أميركا عظيمة من جديد”)، في إماطة اللثام عن وجهها الامبراطوري، الوحشي الحقيقي، وذلك تحت ضغط الصعود غير المحسوب للمنافسين (الأباطرة إن شئتم) الجدد، لاسيما الصين وروسيا. اضف الى ذلك أن الوقت لم يعد يعمل لصالح الامبراطورية الشائخة، حتى أنها من فرط استعجالها في التحول من، ما أميل الى تسميته باستراتيجية “إذا لم تستطع التغلب عليهم، قم بعرقلتهم – If you can’t beat them restrict the” الذي استُخدم لأول مرة في مجلة أتلانتيك الشهرية [2] في عام 1932، قبل أن يصبح مصطلحا أثيراً للسيناتور جيمس إي واتسون – التحول الى استراتيجية “المبادرة الصاعقة” لشن الهجوم شبه الحربي المباشر، على كل دولة، سواءً كانت حليفة أو صديقة أو لم تكن، مكنتها قدراتها التنافسية من حيازة فائض في ميزانها التجاري مع الولايات المتحدة، أو انتزاع قصب السبق التكنولوجي من الولايات المتحدة، كما هو حادث بالنسبة لمفاجأة تقنية الجيل الخامس التي طرحتها شركة هواوي الصينية.
في السابق كانت الامبراطورية تلجأ الى مجلس الأمن لاستصدار قرارات تعطيها الحق في فرض عقوبات دولية تلتزم بتطبيقها جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة. اليوم لم يعد مثل هذا “الترف” متيسراً، ناهيك عن اجراءاته البيروقراطية التي تستهلك الوقت اللازم لسريان مفعول العقوبات. اليوم، في ظل رئاسة ترامب، فإن الامبراطورية هي من يقرر ويبادر الى فرض العقوبات على الدولة المستهدفة، وهي من يفرض على بقية الدول الانصياع القسري للإلتزام بها وتنفيذها وكأنها عقوبات دولية، وإن افتقدت للشرعية الدولية. ولأول مرة منذ انشاء الأمم المتحدة، يصبح القانون الأمريكي قانوناً دولياً واجب النفاذ على جميع الدول دون استثناء. هي إذا الامبراطورية إذ تسفر عن وجهها كاملاً ومن دون خجل أو مواربة. فهي تمارس ضغوطاً هائلةً وسافرة على ألمانيا وبلدان أوروبية أخرى لإجبارها على عدم استيراد الغاز الروسي وتعويضه بالغاز الطبيعي المسال الأمريكي (Liquefied natural gas)، بالرغم من أن الغاز الروسي أرخص بنسبة 30% من الغاز الأمريكي نظرا لفارق التكلفة في عملية النقل (الغاز الروسي ينقل بواسطة الأنابيب والأمريكي بواسطة الناقلات بعد تسييله قبل إعادته ثانية في محطة الاستيراد الى حالته الغازية)؛ وها هي تضغط على أوروبا وغيرها من البلدان من أجل عدم استيراد تقنية الجيل الخامس من شركة هواوي الصينية واستبدالها بالتقنية الأمريكية غير المتوفرة لحد اليوم. وهي تضغط بقوة على تركيا من أجل منعها من اتمام صفقة شراء منظومة صواريخ “اس-400” الروسية واستبدالها بصواريخ باتريوت الأمريكية الأقل كفاءة.. وهكذا.
الاميراطورية تنهار
في 17 يوليو/تموز 2017، كتب صحافي التحقيقات والكاتب والأكاديمي البريطاني نافذ أحمد
مقالا تحت عنوان “دراسة للبنتاغون تعلن أن الإمبراطورية الأمريكية تنهار” – نشره موقع وهو موقع يُعنى بالعديد من القضايا الكونية الملحة مثل الطاقة وتغير المناخ، والعدالة ونحوها – اشار فيه الى أن دراسة أعدها وزارة الدفاع الاميركية (البنتاغون)، خلصت الى أن النظام الدولي الذي فصَّلته الولايات المتحدة على مقاس مصالحها بعد الحرب العالمية الثانية (أي الامبراطورية التي أشادتها)، مهترئ وربما ينهار، ما سيفقد الولايات المتحدة موقعها الاستثنائي في الشؤون العالمية. واقترحت الدراسة حلاً لهذا المأزق “الامبراطوري”، يتمثل في تكثيف الرقابة البوليسية على العالم، وتكثيف البروباغندا والتلاعب الاستراتيجي بالمفاهيم، والتوجه نحو المزيد من التوسع العسكري[3].
دانييل إيميروار (Daniel Immerwahr) الأستاذ المشارك للتاريخ في جامعة نورث وسترن الأمريكية، ومؤلف كتاب “كيف تخفي إمبراطورية: تاريخ قصير للولايات المتحدة الكبرى”
(How to Hide an Empire: A Short History of the Greater United States)، يشرح كيف أخفت الولايات المتحدة إمبراطورتها، من خلال سرد روايات والقاء الضوء على جوانب مخفية من حياة الامبراطورية خارج الأراضي الأمريكية، في جزر غوانو (Guano Islands)، والفليبين، وفي بورتوريكو حيث يكشف إيميروار كيف أجرى الأطباء الأمريكيون تجارب مروعة لم يجروها مطلقا في البر الرئيسي. يقول إيميروار أن الولايات المتحدة تحب أن يُنظر اليها كجمهورية، مع أنها تحتفظ بمناطق في جميع أنحاء العالم، وخريطتها الجغرافية لا تروي القصة بأكملها. فالولايات المتحدة تواصل اليوم السيطرة على أراضٍ خارجية. فإلى جانب غوام وساموا وجزر ماريانا الشمالية وبورتوريكو وجزر فيرجن وحفنة من الجزر الصغيرة النائية، فإنها تحتفظ بحوالي 800 قاعدة عسكرية حول العالم.
وحسب إيميروار، فإن إحدى السمات المميزة لإمبراطورية الولايات المتحدة تتمثل في المدى الذي نجحت فيه في ابقاء هذه الحقيقة بعيدة عن الأضواء والوعي الجمعي للناس عبر العالم. وهي لهذا، تستحق، من وجهة نظر الكاتب، نعتها بأنها امبراطورية فريدة من نوعها. فلم يكن البريطانيون مرتبكين بشأن حقيقة وجود امبراطورتهم، وقد كانت لديهم عطلة رسمية عنوانها يوم الإمبراطورية، حيث يجري الاحتفال به على نطاق واسع. كما أن فرنسا لم تنس حتى اليوم أن الجزائر كانت يوما فرنسية. فقط الولايات المتحدة هي التي عانت من الارتباك المزمن حول حدودها.
لقد أهدرت هذه الإمبراطورية غير المسؤولة الكثير من موارد كوكبنا، وأنشأت مخاطر وجودية تهدد العالم بأسره، من الحرب النووية إلى الأزمة البيئية والمناخية. في ذات الوقت الذي يواصل فيه نظام “ديمقراطيتها الموجهة – Managed democracy” أو “التوتاليتارية المغلفة – Inverted totalitarianism”، تركيز الثروة والقوة المتغولة باستمرار، في أيدي الطبقة الحاكمة الفاسدة، واخضاع الجمهور الأمريكي بوتيرة متصاعدة لنفس نمط الاستغلال الذي يخضع له “الرعايا الأجانب” للإمبراطورية الأمريكية عبر العالم.
بقي أن نختم بالقول إن منظمة “نشرة العلماء الذريين[4]” ، قامت بتقديم عقارب ساعة يوم القيامة من 17 دقيقة حتى منتصف الليل في عام 1994 الى دقيقتين حتى منتصف الليل في عام 2018.
*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني، عمل سابقاً مستشاراً لفرق التفاوض البحرينية في مفاوضات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. يكتب حاليا لصحيفة “الخليج” بدولة الامارات العربية المتحدة.
[1] أنظر الرابط: https://www.academia.edu/37280634/From_Exception_to_Empire_Sovereignty_Carceral_Circulation_and_the_Global_War_on_Terror_
[2] القول مستوحى من المثل الأمريكي القائل “إذا لم تتمكن من التغلب عليهم ، انضم إليهم” ( (If you can’t beat them, join them
[3] لقراءة مقال نافذ احمد، انقر الرابط: https://medium.com/insurge-intelligence/pentagon-study-declares-american-empire-is-collapsing-746754cdaebf
[4]منظمة “نشرة العلماء الذريين”، هي منظمة غير ربحية تصدر نشرة منذ عام 1945 في شيكاغو في أعقاب القصف الذري الأمريكي لمدينتي هيروشيما وناجازاكي، تُعنى بالعلوم وقضايا الأمن العالمي الناتجة عن تسريع التقدم التكنولوجي وآثاره السلبية على البشرية. ويقوم علماء المنظمة، من خلال هذه النشرة، بوضع الجمهور في شهر يناير من كل عام، في صورة التهديدات التي تواجه بقاء البشرية من جانب الأسلحة النووية وتغير المناخ وغيرها. أنظر: https://thebulletin.org/doomsday-clock/.