في الايام القليلة الماضية، تابع العالم فرحة النساء السعوديات ببدء تطبيق قرار السماح لهن بسياقة السيارات. ومع الدهشة التي تثيرها التحولات الجارية في المملكة العربية السعودية، ماتزال التساؤلات تطرح حول هذه التحولات وآفاقها. المدونة طلبت من كاتب سعودي ان يشرح ما يجري في السعودية من تحولات في بعدها الإجتماعي وكيف يرى المجتمع السعودي هذه التحولات التي تختزل في نظر الكثيرين في الانتقال من تأثير هيئتين، هيئة الأمر بالمعروف وهيئة الترفيه. ان التحولات تبدو اكبر وأعمق من هذا الإختزال وهو ما يشرحه هذا المقال.
خالد بن سليمان العضاض
قبل السابع من مايو 2016[1]، وعند فحص واقع المجتمع السعودي، وعوائق التحرك والتقدم التي يعانيها، تبرز المنطلقات الاجتماعية الصارمة، والتي تكمن في تلك الحزمة الهائلة من الأعراف والتقاليد المجتمعية التي ألبست لبوس الدين، ثم أخذت قدسية النصوص الشرعية، فأصبح هذا القالب من التدين جزءًا من قيم المجتمع وثقافته التلقائية، وأضحت علامة بارزة وسمة للمجتمع السعودي، يعاد تدويرها وترسيخها في المكون الفكري، وفي عقلية المجتمع وتركيبته بأشكال وأساليب متنوعة، من خلال نظام ثقافي صلب متعدد الأضلاع، تعليمًا وإعلامًا ووعظًا.
وفي المرات التي تتشابك، أو تتقاطع فيها مقومات النهضة الحضارية والتنموية مع هذا النمط التديني، فإن الساحة كانت تخلو قسرًا له، وتتوقف عجلة التحضر لحين تهيؤ المجتمع وصقوره لمرحلة قادمة، يستطيع فيها السياسي تطويع الديني من جهة، ومن جهة أخرى يقوم سيل عارم من التفاصيل الحياتية الصغيرة، والاحتياجات الكمالية المنبثقة من تنامي احتكاك أفراد المجتمع بالمجتمعات المجاورة وغير المجاورة، والانفتاح الإعلامي على تمهيد الطريق لإعادة طرح الممنوع، وبصور متعددة ومختلفة في كل مرة، ليساهم ذلك في تفتيت الممانعة المجتمعية، ونقلها إلى ضفة التغاضي والتساهل؛ تمهيدًا لقبولها بشكل عادي وطبيعي في سلوكيات المجتمع وعاداته[2].
وبقراءة المكون التاريخي والثقافي (اجتماعيًا وسياسيًا) للدولة السعودية في عهودها الثلاثة، يمكننا أن نقول إن فترة حكم الملك عبد العزيز، هي الاستثناء من القاعدة، حيث إنها تعتبر أكبر ثورة ثقافية مرت بها الدولة السعودية بأدوارها الثلاثة. فقد استطاع الملك عبد العزيز -طيب الله ثراه- نقل مؤسسة الحكم إلى مرحلة متقدمة ومتطورة جدًا من النظام السياسي القائم على أسس وقواعد الدولة الحديثة، عن تلك المرحلة التي قامت عليها الدولة السعودية في طوريها الأول والثاني. لم يكن هذا ليحدث، لولا وجود إدارة انفتاح ذكية ولماحة على المتطلبات العصرية والحضارية في ذلك الوقت، ومدافعة حكيمة وواعية لممانعة الداخل المتحفظ والمتوجس من كل جديد[3].
هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تأسست قبل تأسيس المملكة
كلف المغفور له الملك عبد العزيز في العام 1927، الشيخ عبد الله بن بليهد بتشكيل لجنة للاحتساب على بعض المظاهر الاجتماعية التي لم تكن معتادة للعلماء النجديين والإخوان (إخوان من طاع الله)، وذلك بعد دخول المؤسس الى الحجاز. وجرى اختيار أعضائها من حجازيين ونجديين. ويشير الباحث منصور النقيدان إلى أن تأسيس هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كان في العام 1953، والذي إتخذت اسمها الحالي[4].
كانت الهيئة إبَّان تأسيسها مواكبة متطلبات المرحلة من وجهة نظر منظريها -إن صح التعبير- غير أن نهم السعوديين إلى التطور جعلهم يتمردون على كثير من إلزامات الفقه والفكر الذي قامت عليه أعمال الهيئة. إن السعوديين بالعموم كأفراد يحبون التغيير والتطور ومواكبة الجديد، وهذا لا يقتصر على وقتنا الحاضر، بل من منذ البدايات الأولى لتوحيد البلاد. وبقراءة سريعة لكتاب الوزير العراقي المفوض في السعودية أمين المميز (المملكة العربية السعودية كما عرفتها -1963) مثلاً، يتحدث عن عشر سنوات ماضية عن ذلك التاريخ له في البلد، تستطيع من خلال سرده التقاط المظاهر الحضارية والتطور الذي يواكب به بعض السعوديين عصرهم، وكأنهم في لندن أو باريس ذلك الزمن.
تجاوز المجتمع السعودي هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بتطوره ومواكبته للجديد من المنتجات والمقتنيات. ومع التطور العمراني المصاحب للتطور الاقتصادي، شاخت الهيئة في أوائل السبعينيات الميلادية تقريبًا، وعجزت عن ملاحقة المجتمع السعودي في تطوره. غير أنه بعد أحداث الحرم المكي عام 1979، دخل إلى الهيئات عنصر جديد وهو “الكادر الصحوي الحزبي”، والذي ظهر أثره جليًا في العام 1988 تقريبًا حسب تقديري، إذ تحولت الهيئات بالتدريج إلى جهاز أمني متكامل، فيه المراقبة والمداهمة، والاعتقال والتجسس والتحري والاستدراج والتحقيق، وأحيانًا تنفيذ العقوبة.
مشكلات المتعاونين مع الهيئة
ومع نهاية حرب الخليج الثانية 1990، بدأت تتفاقم ظاهرة الأفراد المتعاونين مع الهيئة، والتي بدرت منهم تجاوزت كثيرة وكبيرة، وإن كانت هذه الظاهرة تغطي بعض إخفاقات وتجاوزت أعضاء الهيئة الرسميين أحيانًا إلا أن مكانة الهيئة ورجل الهيئة في ذهنية المجتمع كانت أكبر من أن تهتز خصوصًا في عقد التسعينيات بسبب التعزيز المعنوي الهائل الذي قام به دعاة الصحوة الجدد في سبيل ترسيخ مكانة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهيئاته ورجاله الرسميين والمتعاونين.
ومع أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ايلول 2001، والتي هزت العقل المجتمعي والثقافي السعودي بشكل جعل التغيير أمراً حتمياً، بدأت الناس تحسب أخطاء الهيئة ورجالها. وعلى الرغم من أنني أجزم أن تجاوزات الهيئات في عقد التسعينيات أكبر مما حدث لاحقًا، إلا إن هناك بعض الأحداث التي توقف عندها المجتمع والمسؤولون كثيرًا، من أبرزها:
– حادثة حريق مدرسة البنات في مكة المكرمة (2002): شكلت حادثة حريق المدرسة حدثًا مهمًا في تاريخ الهيئة حيث اتهمت الهيئة بالتسبب في زيادة عدد الوفيات في الحادثة عندما قام أفرادها في موقع الحادث بطرد أولياء الأمور أثناء اشتعال الحريق في المدرسة كما قاموا بمنع رجال الإطفاء والإسعاف من الدخول إلى المدرسة.
– حادثة مقتل سلمان الحريصي (مايو 2007): انتشرت تقارير صحفية عن حادثة مقتل سلمان الحريصي وهو شخص ادعت الهيئة على قيامه ببعض المخالفات، فقامت الهيئة بمداهمة منزله والاعتداء عليه بالضرب حتى الموت.
– حادثة فتاة “النخيل مول” (فبراير 2016): انتشر مقطع مصور أثار الرأي العام حيث أظهر المقطع مطاردة أحد رجال الهيئة لفتاة والقبض عليها وضربها وسحلها. وعلى إثر هذه الحادثة تم إعفاء مدير عام هيئة الأمر بالمعروف بمنطقة الرياض.
– حادثة مقتل ناصر وسعود القوس (اليوم الوطني 2013): خلال اليوم الوطني السعودي قام عضوان من الهيئة بمطاردة الأخوين ناصر وسعود القوس بالسيارات ونتج عن ذلك حادث مروري أودى بحياة الشقيقين.
– حادثة مطاردة بلجرشي (يوليو 2012): قامت اعضاء من هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بملاحقة سيارة بها عائلة مكونة من أب وأم وابن وابنة نتج عن تلك المطاردة حادث مروري مأساوي أودى بحياة الأب، وبترت فيه يد الأم من الكتف وهي حامل في الشهر السادس كما تعرض الابن إلى كسور مضاعفة ونزيف داخلي استدعى تنويمه في العناية المركزة وأصيبت البنت بكسور.
التنظيم الجديد لهيئة الأمر بالمعروف
في 11 أبريل/نيسان 2016 وافق مجلس الوزراء السعودي على تنظيم جديد للرئاسة العامة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحد من صلاحياتها التنفيذية. ومن أبرز ما ورد في هذا التنظيم هو منع رؤساء وأعضاء الهيئة من إجراءات الضبط الجنائي والإداري والتحفظ والمتابعة والمطاردة والايقاف والاستجواب والتثبت من الهوية والتحقيق والقبض، بحيث يصبح دور الهيئة هو الدعوة للمعروف والنهي عن المنكر بمبدأ اللين والرفق فقط، وتقديم مذكرات إبلاغ رسمية إلى الشرطة أو الإدارة العامة لمكافحة المخدرات في ما يظهر لها من مخالفات.
وكان هذا القرار بمثابة العودة المباشرة لما يجب أن تكون عليه عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. واستقبل المجتمع هذا الخبر بمستويات مختلفة من الرضى وحتى الرفض. لكن بعد قرار إنشاء هيئة الترفيه، وبعد مرور مدة على قرار تنظيم الهيئة، وإدراك الناس حقيقة أن الأمور كما هي مرت على طبيعتها وإدراك المجتمع أن المنكرات لم تزد بوجود هيئة الترفيه ولم تنقص بتقليص صلاحيات هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. غير أن فضيلة الأمر بالمعروف في تزايد مستمر من قبل كل الأطياف، وهذا نتاج محمود لعملية التغيير على عدة مستويات رسمية وشعبية.
هيئة للترفيه والطموحات التي ترافقها
لقد خطت السعودية خطوة واسعة في سبيل الانفتاح واللحاق بالمجتمعات التي تعيش وضعًا طبيعيًا حينما أقرت في السابع من مايو/آيار 2016، إنشاء الهيئة العامة للترفيه، والتي تعنى بكل ما يتعلق بنشاط الترفيه. أَعْتَبر هذا القرار من أهم القرارات التي جاءت داعمة ومستشرفة للمستقبل المنتظر المبني على رؤية 2030، لما للترفيه المحترف وصناعته من قدرة على إضفاء ميزة تنافسية كبرى للمدن السعودية، وخلقها بيئةً جاذبة لرؤوس الأموال والمشاريع والعقول عالية القدرة والكفاءة.
مضت الآن سنتان على تأسيس الهيئة، وهي في جهد ودأب وعمل متواصل للوصول إلى المستوى المأمول في أحدى أهم دول المنطقة والعالم. وإذا كان عمل الهيئة العامة للترفيه صعباً ويحتاج الكثير من الجهد، في أرضٍ شبه خالية من الترفيه إلا ما يخلقه المواطن لنفسه بأدوات بسيطة، تقوم في معظمها على التجمع البشري. وكان عليها أن تقوم بالدور المهم الذي صرح به الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، لقناة العربية عندما قال أن “قطاع الثقافة والترفيه سيكون رافدًا مهمًا جدًا في تغيير مستوى معيشة السعودي خلال فترة قصيرة”.
كذلك، فإن من شأن برامج الهيئة العامة للترفيه وقف نزيف جيب المواطن خارج وطنه، حيث إن السعوديين من أكثر شعوب المنطقة استهلاكًا للترفيه خارج وطنهم وهم على رأس قائمة المستهدفين من فعاليات المنطقة بالمهرجانات والفعاليات التي تقام في بعض الدول المجاورة وهي مهرجانات تدر دخلًا اقتصاديًا هائلًا لتلك الدول من جيب السعودي الذي يقطع مسافات طويلة، ويحجز الفنادق والشقق، ويتكبد مصروفات النقل والإعاشة بحثًا عن الترفيه.
إن صناعة الترفيه في المملكة، وتحويل الترفيه إلى صندوق استثماري جالب للمال عبر استقطاب شركاء عالميين، يجلبون معهم الدخل والخبرات والثقافة الوّلادة، هي إحدى ركائز رؤية 2030، التي تهدف الى نقل البلد من مجتمع شبه مغلق منكفأ على نفسه إلى بلد منفتح وفقًا لسماحة الإسلام ويسره وسهولته، وتحويل المجتمع السعودي من مجتمع متوجس كاره للجديد والتجديد إلى مجتمع متسامح يتعاطى مع كل شيء ويقبله أو يرفضه وفقًا لثقافته ومبادئه.
تقوم الهيئة الآن بعمل جميل ورائع في تهيئة المجتمع لقبول صناعة الترفيه وثقافة الترفيه، والموازنة بين عادات المجتمع وتقاليده، وتنوعات مسارات الترفيه وإبداعاتها وتجددها المتسارع المستمر الذي لا يعرف التوقف، يعاونها في ذلك كل أجهزة الدولة أو هكذا يحب أن يكون الأمر.
خالد بن سليمان العضاض كاتب سعودي مهتم بنقد ورصد ظاهرة الإسلام السياسي. يكتب في صحيفة الوطن السعودية وصدر له كتاب بعنوان: “التدين السعودي تجاذبات التشكل والتحول” 2012 عن دار فراديس. لقراءة مقالات العضاض، يمكنكم الاطلاع على مقالاته عبر النقرهنا: صحيفة الوطن .
[1] تاريخ قرار إنشاء الهيئة العامة للترفيه، والهيئة العامة للثقافة.
[2] أنظر العضاض، خالد سليمان: “التدين السعودي، تحاذبات التشكل والتحول“، دار فراديس 2012.
[3] المصدر السابق.
[4]انظر: النقيدان، منصور “الملوك المحتسبون، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السعودية“، دار مدارك 2012.