ندرة المياه والسلام في الشرق الأوسط Previous item حكومة مصلحة أم سنوات ضائعة... Next item بين هيئتين: تحولات المجتمع...

ندرة المياه والسلام في الشرق الأوسط

مياه العرب بيد الآخرين والأعداء

اعاد الجدل حول انخفاض منسوب مياه نهر دجلة في العراق بعد ان بدأت تركيا تشغيل سد “اليسو” الذي انتهت من بناءه في يناير/كانون الثاني 2018، الى الأذهان المخاوف من حروب المياه التي تواجهها دول عربية عدة. لقد وضعت مشكلة هذا السد التركي العراق مجددا امام مشكلة حقيقية خصوصا بعد ان قامت ايران من جهتها بتحويل مجاري انهار عدة تصب في نهر دجلة آخرها كان تحويل مجرى نهر “الوند” المار عبر مدينة خانقين في محافظة ديالى شمال شرق بغداد ونهر الزاب الاصغر في مدينة السليمانية شمال العراق في اقليم كردستان. ورغم تهوين المسؤولين العراقيين مثل رئيس الوزراء حيدر العبادي ووزير الموارد المائية حسن الجنابي من المشكلة، إلا ان هذا لا يلغي الحقيقة القائمة من أن تركيا وايران بامكانهما خنق العراق مائياً في اي وقت اذا ما اشتدت الخلافات السياسية بين طهران وانقرة واي حكومة عراقية في بغداد. انها  الحقيقة الماثلة أيضا مع تحكم الكيان الصهيوني في الموارد المائية لفلسطين وهضبة الجولان المحتلتين واطماعها المعلنة في مياه لبنان. وهي الحقيقة نفسها الماثلة الآن في مصر والنزاع حول سد النهضة الاثيوبي.

يقدم الخبير المائي الدولي واستاذ الموارد المائية في جامعة الخليج بالبحرين البروفيسور وليد الزباري في هذه الورقة العلمية تحليلاً شاملاً للعلاقة بين ندرة المياه بالسلام في منطقة الشرق الأوسط وكيف ان معظم موارد العرب المائية تنبع في دول غير عربية وهنا مكمن الخطر.

 

 

وليد خليل الزباري

عادة ما يقال ان المياه المشتركة بين الدول لها بعد سياسي في المنطقة العربية، ولكن في الحقيقة تبين الدراسات التحليلية أن الخلافات والنزاعات والسياسة بين الدول لها بعد مائي، وأنها تستخدم كأداة سياسية أو سلاح في النزاعات وفي بعض الأحيان قد تساهم، مع عوامل أخرى، في إشعال النزاعات بين الدول أو المجتمعات. ومع تزايد الطلب على الموارد الطبيعية التي من أهمها المياه والطاقة والغذاء بسبب النمو السكاني من جهة وانخفاض الايرادات المائية بسبب تأثيرات تغير المناخ على المنطقة وتلوث المياه، فإنه من المتوقع أن يزداد دور المياه في النزاعات في المنطقة. ولتخفيض دور المياه في النزاعات وخفض قابلية التأثر يوصي بأن يتم العمل على المستوى الوطنى بإنشاء نظام إداري مرن وفاعل للمياه في كل دولة من الدول العربية، وعلى المستوى الإقليمي العربي والدولي برفع مستوى التعاون العربي في المياه المشتركة من التبادل العلمي للمعلومات والخبرات العلمية وكذلك التعاون في المجالات الأخرى خارج قطاع المياه مثل الطاقة والغذاء، والتضامن السياسي العربي للحصول على الحقوق التاريخية من المياه المشتركة مع دول الجوار، ودعم حصول الفلسطينيين واللبنانيين والسوريين على حقوقهم المائية.

يعاني الشرق الأوسط من عدم الاستقرار والصراع، وتقليديا يعود النزاع لأسباب سياسية وعسكرية وعرقية ودينية، وهي شبكة معقدة للغاية حيث تتقاطع العديد من العوامل  مع الحدود السياسية للدول،  الذي يظهر التوزيع العرقي الجغرافي المتداخل في الشرق الاوسط. وإن أي محاولة لمعرفة هذه العلاقات وتفسيرها محكومة بالفشل.

 

معدلات النمو السكاني وتغيرات المناخ

غير أنه في الآونة الاخيرة اتسعت وتنوعت الاسباب المحتملة لانعدام الأمن، وبدأت القضايا الاقتصادية والاجتماعية والبيئية تسهم في التسبب  في الصراعات وإشعالها بالمنطقة. ومن أهمها عاملين، هما:

(أولا): معدلات النمو السكاني المرتفعة التي تؤدي إلى ارتفاع الطلب على العديد من الخدمات والموارد التي من أهمها المياه والطاقة والغذاء. ومن المتوقع ان يرتفع عدد السكان البالغ حاليا حوالي 400 مليون نسمة إلى حوالي 500 مليون نسمة بحلول العام 2030، أي إضافة 100 مليون نسمة في 15 سنة.

(ثانيا): تأثيرات تغير المناخ على المنطقة من ارتفاع في درجات الحرارة وزيادة الطلب على المياه، وارتفاع مستوى سطح البحر وغمره للسواحل زيادة تملح المياه الجوفية، وارتفاع معدلات الحالات المتطرفة كالجفاف والسيول. ومن أهم تأثيراته على المنطقة خفض معدلات الأمطار وارتفاع معدلات التبخير وبالتالي ارتفاع نسب الإجهاد المائي وتفاقم شح المياه، وهذا الأمر من الممكن أن يكون الشرارة للنزاعات. ولبيان تأثيرات هذه العوامل على النزاعات على الموارد المائية يجب أولا استعراض واقع المياه في المنطقة العربية وأهم القضايا والتحديات التي تواجهها.

 

حالة المياه في المنطقة العربية

بالرغم من ان مساحة العالم العربي تغطي 10.5% من مساحة العالم، إلا أن تحصل على 2.1% فقط من متوسط الهطول العالمي السنوي. وباستثناء سلاسل الجبال، فإن المساحة العظمى للمنطقة العربية تقع في نطاق المناطق الجافة أو شديدة الجفاف وتتميز بانخفاض معدل الامطار وتذبذها زمانياً ومكانياً وبالتالي من الصعب الإعتماد عليها، وبارتفاع مستوى البخر بسبب ارتفاع درجات الحرارة، مما يؤدي إلى استحالة وجود مياه سطحية دائمة ذاتية في المنطقة.

ويزيد من ندرة المياه في المنطقة انخفاض كفاءة استخدام المياه في العديد من البلدان (الإمداد، والاستخدام، وإعادة التدوير، وإعادة الاستخدام)، لا سيما في القطاع الزراعي الذي يستحوذ على 85% من الموارد المائية.  كما يؤدي الاستنزاف المستمر للمصادر المائية وتلوثها بسبب الأنشطة السطحية المختلفة إلى تدهور نوعيتها وخروجها من دائرة الاستثمار وبالتالي زيادة شحة المياه.

ومما يعقد المشكلة المائية ويزيد من مساهمتها في النزاعات هو أن معظم الموارد المائية، سواء مياه سطحية أو جوفية، في المنطقة هي مياه مشتركة بين بلدين أو أكثر، سواء بين الدول العربية أو بين دول عربية ودول غير عربية.  وتبلغ كمية المياه المتدفقة إلى المنطقة من الدول غير العربية أكثر من 60%. وحتى الآن لا توجد أي اتفاقيات تضمن حقوق الدول المتشاطئة التاريخي في ضمان تدفقها بحسب القانون الدولي للمشاركة في المياه المبنية على أسس الاستخدام العادل والمعقول وعدم الإضرار بالدول والتعاون فيما بينها، بالإضافة إلى وجود بعض الدول مثل فلسطين وبعض المناطق العربية مثل الجولان تحت الاحتلال العسكري مما يحرم الدول العربية من استخدام مياهها.

 

البعد السياسي للمياه والنزاعات (دراسات حالة من المنطقة العربية)

بسب تزايد ندرة المياه والتوقعات القاتمة لمستقبلها في المنطقة، أصبحت المياه أولوية من أولويات الأمن القومي للعديد من الدول، وأيضاً كوسيلة سياسية واقتصاديه لضغط الدول على بعضها البعض لتحقيق الاهداف السياسية. ويتم استخدام المياه المشتركة بتزايد كأداة سياسية أو سلاح في النزاعات.  وتبرز في هذا المجال العديد من الأمثلة ودراسات الحالة التي استخدمت المياه فيها كورقة سياسية، أو كورقة عسكرية، ودور عدم توازن القوى بين الدول، وكذلك كشرارة للنزاعات.  وفي ما يلي ملخص مختصر لأهمها.

(الأول): استخدام تركيا مياه دجلة والفرات لتمرير مصالحها السياسية على سوريا والعراق، حيث تتقاطع في حوض الفرات (شكل 9) قضايا عديدة كقضية الأكراد ومواقف سوريا والعراق السياسية من المواقف التركية. وقامت تركيا ببناء سدود ضخمة في ما يسمى مشروع الاناضول الكبير (Great Anatolia Project, GAP) ويلزم ملئ السد العديد من السنوات مؤدية إلى إنقاص حصة سوريا والعراق من المياه المتدفقة.

(الثاني): محاولات “تنظيم الدولة” التحكم في سد الطبقة في سوريا وهو مصدر رئيسي للكهرباء لدمشق، وكذلك سدي الموصل والحديثة في العراق والتهديد بتفجيرهما.

(الثالث): التجاذب الحالي حول سد النهضة في أثيوبيا بين مصر والسودان وأثيوبيا في حوض وادي النيل، وطلب مصر الأخير بوجود البنك الدولي في جلسات تقييم تأثيرات السد على الدول لأسفل المنبع ورفض أثيوبيا لذلك بسبب احتواء ورقة التعاون/التفاهم على عدم تدخل الاطراف الاجنبية عن النزاع. وكذلك فشل جلسة المباحثات بين مصر والسودان وأثيوبيا في الخرطوم.

(الثالث): نزاع دارفور في السودان الذي كان أحد أسبابه ندرة المياه بسبب الجفاف الذي ضرب المنطقة، وهو ما خلص إليه تقرير برنامج الامم المتحدة للبيئة في عام 2009 حيث بين أن التغيرات المناخية وندرة المياه وخسارة الأراضي الخصبة وتصحر الأراضي أدى إلى منافسة عنيفة على الاراضي الزراعية المتبقية جنبا إلى جنب مع التوتر العرقي والديني.

(الرابع): الجفاف الطويل الذي ضرب سوريا خلال الفترة 2006-2009 وأدى إلى هجرة مليون شخص لمنازلهم ومزارعهم من مناطق شمال شرق سوريا الريفية كالحسكة والقامشلي والرقة ودير الزور إلى المدن مما خلق أوضاع إسكانية بائسة أدت إلى مشاركتهم في الحرب الأهلية الدائرة حاليا في سوريا.

(الخامس): احتلال الكيان الصهيوني وتحكمه في المياه الفلسطينية بالإضافة إلى جدار الفصل العنصري الذي يلتهم مساره ما تبقى من مصادر المياه الفلسطينية. ومنذ عام 1967 أصبح للاحتلال الإسرائيلي سيطرة كاملة على المياه. الجدير بالذكر أن اتفاقية أوسلو الأولى (1993) واتفاقية أوسلو الثانية (1995) جعلت الأمر  أكثر سوءاً. وتمثل السيطرة العسكرية على الموارد المائية في الضفة الغربية وتلويث المياه الجوفية في غزة استخدام الكيان الصهيوني للمياه سلاحاً  في صراعه مع الدول العربية.

(السادس): حوض نهر الأردن  الذي يشير العديد من المحللين إلى أن البعد الاستراتيجي المائي كان حاضرا في الحروب العربية مع الكيان الصهيوني (1967 و 1973) وكذلك غزو لبنان عامي 1978 و 1982. كما تذكرنا حادثة نبع الوزاني في عام 2002 عندما أراد لبنان استخدام جزء ضئيل من مياه النبع لتزويد القرى اللبنانية في الجنوب واستنفار الكيان الصهيوني وتهديده بتدمير المنشآت اللبنانية التي تستفيد من مياه نبع الوزاني وكذلك نهر الحصباني اللبناني بأهمية البعد المائي في النزاع العربي الاسرائيلي. وتشير الرسائل القديمة بين زعماء الصهيونية والبريطانيين إلى أنهم كانوا يطالبون بحدود نهر الليطاني كحد شمالي لكيانهم ولولا رفض الفرنسيين لكان ذلك، كما يبين احتلال هضبة الجولان وضمها أهمية جبل الشيخ المائية في تغذية بحيرة طبرية.

 

التعاون أو النزاعات؟ الدروس المستفادة

 تخلص الدروس من حالات الدراسة السابقة عموماً (باستثناء حالة الكيان الصهيوني المحتل للأراضي العربية الذي يشير الخطين الازرقين في علمه إلى نهري النيل والفرات ورغبته الاستيطانية والتوسعية في المنطقة)، إلى أن المياه قد لا تكون السبب الرئيسي للنزاعات وعدم الاستقرار ولكنها قد تكون عامل مفاقم  لها. وتحت الظروف والاتجاهات الحالية من نمو سكاني واحتلال وعدم استقرار وغياب الديموقراطية والسلام من جهة، وتأثيرات تغير المناخ على المنطقة وتلوث المياه وتزايد الطلب على المياه من جهة أخرى، فإنه من المتوقع أن يزداد دور المياه في النزاعات. إلا أن تاريخ العالم يبين أن المياه يمكن أيضاً أن تكون مساراً مثمراً لبناء الثقة والتعاون ومنع النزاعات، حيث أن عدد الحالات التي تم فيها التعاون بين الدول في المياه المشتركة أكبر من عدد الحالات التي كانت المياه مصدرا للنزاع. ولقد أثبت التعاون في إدارة المياه والتعامل مع ندرتها بكفاءة بين الدول أنه يحقق فوائد أكثر من الصراع عليها.

وفي المنطقة العربية تشير الحالات التي تم التعاون في إدارة المياه المشتركة بين الدول بنجاح إلى أن العلماء والباحثون كانوا فاعلين جداً وبمبادراتهم بدء التعاون بين هذه الدول، كما هو الحال في خزان النوبي الرملي بين مصر وليبيا والسودان وتشاد، وكذلك التعاون الحاصل في إدارة واستغلال المياه الجوفية المشتركة في الخزان الشمالي الغربي للصحراء المشترك بين تونس وليبيا والجزائر.  ومن الدروس الأخرى المستفادة أن البرامج والمشاريع مشتركة المنفعة تلعب دوراً هاماً في التعاون، كما هو حاصل في التعاون الثنائي بين مصر مع دول حوض النيل في مجالات الموارد المائية المختلفة.

 

لقراءة البحث كاملا شاملا الخرائط والرسوم التحليلية التوضيحية انقر الرابط: https://www.dropbox.com/s/8tm5szkzuoczy13/ 

 

 

 

الدكتور وليد خليل الزباري، أستاذ إدارة الموارد المائية في جامعة الخليج العربي، ويعمل منسقاً لبرنامج إدارة الموارد المائية ولمركز الأمم المتحدة التعليمي لإدارة الموارد المائية للمنطقة العربية بالجامعة، ورئيس اللجنة الفنية الاستشارية لمجلس الموارد المائية بمملكة البحرين.