سيرغي لافروف.. “السيد لا” القرن 21 Previous item تكهنات روسية.. لافروف... Next item النار والغضب في بيت ترامب...

سيرغي لافروف.. “السيد لا” القرن 21

د. مغازي البدراوي*

في عام 1992 كنت أعمل في إحدى سفارات دول الخليج في موسكو، وكان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف يعمل آنذاك رئيساً لدائرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الوزارة. طلب السفير الذي أعمل معه لقاءاً مع لافروف لبحث بعض المسائل الخاصة بمبنى السفارة في موسكو، وتحدد الموعد التاسعة صباحاً. رافقت السفير مترجماً له ووصلنا قبل الموعد بعشر دقائق، بينما تأخر لافروف أكثر من ربع ساعة، مما جعل السفير يتضجر وكاد يغادر المكان قبل اللقاء لولا وصول لافروف الذي دخل بخطوات مسرعة تسبقه اعتذاراته عن التأخير. كان شكله غير مرتب من الاستعجال، مما زاد من حنق السفير الذي كاد أن ينفجر فيه، وتم اللقاء الذي لم يكن يتضمن اي شيء هام، لكن لافروف على المستوى الشخصي ترك لدي انطباعاً غير جيد في هذا اللقاء.

وفي مارس من عام 2004، كنت أعمل في أبو ظبي، وكان لي صديق دبلوماسي روسي، وأعلن آنذاك عن قرار تعيين لافروف وزيراً للخارجية الروسية. عبرت لصديقي الدبلوماسي الروسي عن عدم رضائي عن هذا القرار، وقلت له “أعتقد أن بوتين أخطأ في هذا القرار”، فرد علي الدبلوماسي الروسي قائلاً: “هذا أقوى دبلوماسي في الخارجية الروسية، وسترى كيف سيدير السياسة الخارجية الروسية”، وأضاف قائلاً: “أعتقد أن لافروف سيظل وزيراً للخارجية مدى الحياة”.

أتذكر هذه الواقعة جيداً وأنا أتابع عميد الدبلوماسية الروسية سيرغي لافروف، والذي يطلق عليه البعض في روسيا لقب “مستر لا القرن 21″، نسبة إلى أشهر وزير خارجية في العهد السوفييتي أندريه غروميكو والذي قضي في منصبه نحو ثلاثة عقود أدار فيهما السياسة الخارجية السوفيتية طيلة أصعب سنوات الحرب الباردة، من 1957 حتى 1985. وكانوا يطلقون عليه في الغرب “مستر نو” أو “السيد لا” نظراً لاعتراضاته الكثيرة على سياسات الغرب وقرارات مجلس الأمن الدولي.

يدور الحديث الآن في أوساط داخل روسيا وخارجها عن اقتراب موعد مغادرة لافروف منصبه في الخارجية، وتجمع الآراء على أن هذه هي رغبته الشخصية لأنه مرهق ويريد أن يتفرغ لحياته الخاصة وهواياته العديدة التي ابتعد عنها كثيراً.

وقد صادف عيد ميلاد وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الـ68 في 21 مارس، إعلان فوز بوتين في انتخابات الرئاسة للعالم. وفي اليوم التالي خرجت شائعات تقول أن الوزير لافروف مريض وملازم الفراش، ثم كذبت الخارجية الروسية هذه الشائعات. ثم ظهرت في اليوم التالي شائعات تقول أن الوزير لافروف ينوي تقديم استقالته، وأنه يحتاج للراحة بعد سنوات طويلة من العمل المتواصل دون توقف، وعادت الخارجية الروسية تكذب هذه الشائعات أيضاً.

يبدو أن البعض يتوقع تغييرات في مؤسسة الحكم الروسية سيجريها بوتين قريباً، ولكن هل من المتوقع استبعاد لافروف؟ الحقيقة أن أحداً لا يصدق مثل هذا الأمر، فسيرغي لافروف من أقرب رجال الدولة الروسية للرئيس بوتين إن لم يكن أقربهم بالفعل، ولم يحدث بينهما أية خلافات على مدى 18 عاما من حكم بوتين. كما أن لافروف مشهود له بالكفاءة العالية في عمله، وأن أحداً لا يستطيع أن يدير الشؤون الخارجية لروسيا بجانب بوتين مثل لافروف.

سيرغي لافروف يعمل في السلك الدبلوماسي الروسي منذ نحو 45 عاما، وهو السياسي الأول بلا منازع في وزارة الخارجية الروسية منذ عام 2004. وهو الذي اختارته جهات عديدة إعلامية وسياسية كأقوى وزير خارجية، ووصفته بالمقاتل من أجل مصالح بلاده.

وربما يكون عيد ميلاد وزير خارجية روسيا أو غيرها من الدول أمراً لا يهم أحداً، وليس من العادة في روسيا تهنئة الوزراء بأعياد ميلادهم، لكن الرئيس بوتين حرص على تهنئة لافروف في هذا اليوم عام 2015 بمنحه «وسام الاستحقاق» من الدرجة الأولى.

وجاء في المرسوم الرئاسي الصادر بهذا الشأن أن لافروف نال الوسام تقديراً لإنجازاته البارزة في تطبيق النهج السياسي الخارجي لروسيا الاتحادية. كما منح بطريرك الكنيسة الروسية كيريل الوزير سيرغي لافروف وسام «القديس سيرجيوس» من الدرجة الأولى للمناسبة ذاتها.

عندما سأل أحد الصحافيين الألمان الرئيس الروسي بوتين في مؤتمر صحفي في برلين قائلاً: “وزير خارجيتكم لافروف يسبب إزعاجاً ومشاكل مع الآخرين، خاصة مع نظيرته الأمريكية كوندليزا رايس، الأمر الذي يؤثر على علاقاتكم بواشنطن، فهل تفكرون في تغييره قريباً؟”، رد بوتين مبتسماً وقائلاً: “للأسف .. لا يوجد في روسيا من يستطيع تغيير لافروف”.

 

شاعر وموسيقي.. صعب لكن موثوق

لقد طبع لافروف السياسة الخارجية الروسية بطابعه الخاص، ليقترن وجه روسيا الخارجي باسمه، وهناك الملايين من الروس وغيرهم من المعجبين بشخصيته وأدائه الدبلوماسي، من المعروف عن قائد الدبلوماسية الروسية لافروف أنه ليس روسي الأصل، حيث ولد في موسكو لأب من أصول أرمنية من تبليسي وأم روسية من جورجيا ايام الاتحاد السوفييتي السابق. رغم هذا، يقال بأن تعصبه لروسيا شديد للغاية ولا يقارن مع أحد سوى بوتين. ويقال أنه أحياناً يفقد دبلوماسيته إذا حاول المتحدث معه المساس بروسيا كدولة عظمى.

لافروف الذي أمضى 10 سنوات ممثلاً لبلاده في الأمم المتحدة و18 سنة وزيراً للخارجية يدور حوله جدل، هل هو الذي يدير السياسة الخارجية لروسيا أم أن بوتين هو الذي يوجهه؟ أفضل إجابة لهذا التساؤل، أن بوتين يوجه السياسة الخارجية لكن لافروف أفضل من ينفذها.

من المعروف عن لافروف أنه شاعر وعازف جيتار رائع ويجيد عدة لغات، ومثقف بشكل غير عادي يجعله حاضر البديهة في أي حديث، ويجيد التعامل مع كافة الملفات والقضايا، ويقال أنه لولا وجوده في الخارجية لزادت مهمة بوتين في الرئاسة صعوبة ومشقة.

ويعتبر لافروف دبلوماسي بارع ومدافع قوي عن وطنه روسيا ومصالحها أكثر من كونه رجلاً سياسياً. ويصف الخبير البريطاني في الشؤون الروسية الدكتور بوبولو من “تشام هاوس” في لندن لافروف بأنه “شخص صعب لكن موثوق به، مفاوض من الدرجة الأولى، ويبدو وكأنه ليس جزءاً من فريق بوتين بل يعمل باستقلالية حتى عن الكرملين”.

أما عن موعد خروج لافروف من الخارجية الروسية، فلدي اعتقاد أن نبوءة صديقي الدبلوماسي الروسي في أبو ظبي ستتحقق، وأن لافروف لن يترك الخارجية الروسية أبدا.

 

الدكتور مغازي البدراوي خبير في القانون الدولي ومتخصص في شؤون روسيا وآسيا الوسطى. من اهم مؤلفاته “السلاح النووي الاسرائيلي ونظرية الردع بالظن” و”التوازن النووي والدرع الصاروخي”، “روسيا وايران ، تعاون ام تحالف”. كما قام بترجمة عدد من الكتب من الروسية الى العربية اهمها “رهائن الكريملين” و”الأب الروحي للكريملين” و”ملفات المخابرات الروسية” و”الدبلوماسية السوفيتية والروسية”.