اللوياثان الجديد: الانحدار المتسارع نحو اللادولة Previous item البهيموت القديم: الوحش... Next item تكهنات روسية.. لافروف...

اللوياثان الجديد: الانحدار المتسارع نحو اللادولة

قراءة في “كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد” لفالح عبد الجبار (1-2)

 

*د. نادر كاظم

يحلو لكثيرين أن يقارنوا بين فالح عبد الجبار (1946-2018) وعالم الاجتماع العراقي المعروف علي الوردي (1913-1995). وآخرون يرون في فالح عبد الجبار استمراراً، بدرجة أكبر وأعمق، للمؤرخ الفلسطيني الكبير حنا بطاطو (1926-2000). ولربما كان القاسم المشترك، بين هؤلاء الثلاثة الكبار، يكمن في ذلك التبحر الواسع في قراءة التاريخ الاجتماعي لتشكّل العراق الحديث، دولة ومجتمعاً وطبقات وأحزاب وبنى اجتماعية قديمة وجديدة، منذ “العراق العثماني” إلى “العراق الملكي” إلى “العراق الجمهوري” إلى حالة اللادولة فيما بعد العام 2003 بالنسبة لفالح عبد الجبار.

بالطبع ليس لفالح عبد الجبار كتاب بضخامة “لمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث” (نُشر على أجزاء منذ العام 1969 حتى العام 1976) لعلي الوردي، وهو كتاب ضخم قدم فيه الوردي، على امتداد ستة أجزاء متطاولة، تاريخاً اجتماعياً شاملاً للعراق الحديث منذ العام 1831 (وما قبله) حتى العام 1924. وبالمثل كذلك، ليس لفالح عبد الجبار كتاب بضخامة كتاب “The Old Social Classes & The Revolutionary Movement In Iraq” (1978) لحنا بطاطو، والذي يربو على الـ1200 صفحة موزّعة، في الترجمة العربية، على ثلاثة أجزاء يزيد كل واحد منها عن الـ400 صفحة،  وهي: “العراق: الطبقات الاجتماعية والحركات الثورية منذ العهد العثماني حتى قيام الجمهورية” (1990)، و”العراق: الحزب الشيوعي” (1992)، و”العراق: الشيوعيون والبعثيون والضباط الأحرار” (1992).

إلا أن ما يميز مشروع فالح عبد الجبار هو ضخامة الجهد النظري والتحليلي الذي يدمج المعطيات الأولية، الغنية بالتفاصيل الكثيرة، في العملين الكبيرين لعلي الوردي وحنا بطاطو وغيرهما، في قراءة تحليلية ونقدية عميقة وثرية ومتماسكة. لا تخلو، بالطبع، كتب فالح عبد الجبار من الضخامة، فكتابه العمدة “العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني” (2010) يقع في (588) صفحة، وكتابيه الأخيرين: “دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي” يقع في 464 صفحة، و”كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد” (2017) يقع في (430) صفحة، إلا أن قيمة فالح عبد الجبار لا تقاس بضخامة هذا الكتاب أو ذاك، بل بالقيمة المعرفية النظرية والتحليلية والنقدية التي تسم جل كتبه، وكتبه الأساسية على نحو خاص.

قراءة لحالة اللادولة

ويمثل كتاب “كتاب الدولة أو اللفياثان الجديد[1]” محاولة رصينة لقراءة التاريخ الحديث للعراق، تاريخ الدولة تمهيداً لقراءة حالة اللادولة فيما بعد حرب 2003. ويشتمل الكتاب على سبعة أجزاء تدور كلها حول القضية المحورية والأساسية في مشروع فالح عبد الجبار: بناء الدولة وبناء الأمة ثم انهيارهما. فعلى مدى 430 صفحة يعيد فالح عبدالجبار تركيب مسار هذه العمليات الكبرى خلال قرن من تاريخ العراق الحديث منذ حركة الانتقال من الدولة السلالية (العثمانية) اللامركزية القائمة على الدين إلى الدولة الدستورية الملكية، إلى الجمهورية العسكرية الوسطية، إلى الجمهورية التسلطية العسكرية، إلى الدولة التوتاليتارية القرابية التي زرعت نظام الحزب الواحد، ودمجت الدولة بالحزب، والدولة والحزب معاً بالتنظيمات القرابية الأسرية، واستمرت في التضخم والتوحش، مما أدى إلى تفتت المجتمع، وانهيار الكيانات الفردية أمام جبروتها، وذلك قبل أن تبدأ في مسار الانحدار المتسارع نحو اللادولة في العام 2003.

يشتمل الجزء الأول على تفحص نظري لأهم المفاهيم الأساسية في الكتاب، وهي: التسلطية، والريعية، والأسرية، والتوتاليتارية، والديمقراطية، بناء الأمة-الدولة. ويرى فالح عبد الجبار أن تحديد هذه المفاهيم مسألة أساسية لاعتقاده أن دولة البعث (1968-2003) التي يحاول فهمها في هذا الكتاب، إنما تطورت من دولة ريعية-تسلطية (1968-1980) إلى دولة أسرية-توتاليتارية (1980-2003). وقد نشأ هذا التحول من ديناميكيات تاريخ العراق نفسه، مما يعاني منه من “عدم استقراره المزمن، ومجتمعه التعددي، وبيئته الإقليمية-الدولية المتفجرة[2]“. والحقيقة أن العراق كثيراً ما وصف بالعديد من الأوصاف، فهو “دولة ريعية” و”دولة تسلطية” و”دولة أسرية” و”دولة ديكتاتورية”  و”دولة توتاليتارية”. أما عبد الجبار فيرى أنها “مزيج سياسي من ذلك كله، مع وضع العنصر التوتاليتاري في المركز[3]“، الأمر الذي يتطلب ضبط هذه المفاهيم من أجل قراءة واضحة لطبيعة الدولة العراقية الحديثة التي بدأت بداية سليمة وناجحة إبان العهد الملكي الأول، كما يرى عبد الجبار، ثم تحولت إلى دولة تسلطية عسكرية راحت تتضخم بمعونة الاقتصاد النفطي الريعي ودمج التنظيم القرابي، لتتحول في نهاية المطاف إلى دولة توتاليتارية هي أشبه بلفياثان ضخم وشرس.

يبني عبد الجبار جزءاً كبيراً من تصوره للريعية ومفاعيلها على تصور مايكل روس الذي تفحص “ريعية النفط باعتبارها الاقتصاد السياسي للسلطوية أي الحكم الديكتاتوري[4]“، الأمر الذي يعني “أن النفط يحول دون الديمقراطية[5]“. والحاصل أن مفهوم الريعية أو الدولة الريعية أخذ في التداول في العلوم الاجتماعية منذ سبعينيات القرن العشرين ليشير إلى تلك الدول التي كانت تعتاش على ما تتلقاه من الريع (الدخل غير المنتج) بمعزل عن الطبقات والقوى المنتجة للثروة في المجتمع.  وتسمح ريعية النفط، على سبيل المثال، للدولة بالحصول على مداخيل هائلة (إبان ارتفاع أسعار النفط)، وذلك بالاستقلال عن منتجي الثروة الاجتماعية داخلها وهو ما يجعل المفعول الريعي ذا تأثير هائل. وفي البلدان غير الديمقراطية تحديداً. ويتمثل المفعول الريعي، بحسب نظرية روس الذي يبني عليها فالح عبد الجبار تصوره، في ثلاث آليات:

1-مفعول الضريبة: حيث تكون الضرائب، في الدولة الريعية، منعدمة أو منخفضة، الأمر الذي يسمح بإنفصال الدولة عن المجتمع المنتج للثروة، وانعدام قدرة هذا الأخير على التأثير في الدولة.

2-مفعول الإنفاق: الذي يسمح للدولة بتقديم خدمات مجانية للمواطنين بما يحوّلهم إلى رعايا ملحقين وتابعين للدولة الأبوية الراعية، كما أنه سيشكل نظام المحسوبيات القائم على تقديم فئات من الناس وتأخير آخرين  (عبر الرشاوى، والصفقات والعقود، والهبات والعطايا) في عملية أشبه ما تكون بالهندسة الاجتماعية التي تجعل الدولة قادرة على التحكم في الطبقات بتفكيكها وإعادة تركيبها بما يتوافق مع مصالحها.

3-المفعول القمعي: الذي يتمثل في قدرة هذه الدول الغنية بالموارد على بناء أجهزة عسكرية وأمنية واستخباراتية ضخمة بغرض التحكم الكامل في المجتمع. وعلى هذا، يمثل الريع (ريع النفط في حالة العراق) أداة مهمة وخطيرة لتسلطية الدولة، وعسكرتها، ومحسوبياتها، وأداة حربية أيضاً. ويندمج هذا النوع من ريعية الدولة، في حالة العراق البعثي، مع الأسرية عبر إدخال شبكات العشيرة والعائلة والأقارب في نسيج الدولة المعقد.

أما التسلطية، فهي، في نظر فالح عبد الجبار، نظام غير ديمقراطي لكنه محايد أيديولوجياً، وهو الأمر الذي يجعله يسمح بشيء من المعارضة. وهذا يختلف كلياً عن التوتاليتارية (الدولة الشمولية) بما هي نظام قائم على تعظيم الدولة وتضخيمها وحتى عبادتها، بما يحوّلها إلى نظام سيطرة شاملة[6] على كافة مجالات الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبما ينهي الفصل بين السلطات، والفصل بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني عبر تدمير استقلالية هذا الأخير وهو ما يخلق، في نهاية المطاف “لوياثان جديد” مطلق السلطات. وفي حالة الدولة العراقية التي شكّلها صدّام حسين، فنحن سنكون أمام كائن مرعب وضخم وأكبر من اللفياثان، ذلك الوحش البحري الذي استدعاه توماس هوبز (1588-1679) من “الكتاب المقدس” ليصف من خلاله نوعاً من الدول تكون مطلقة القوة والسلطة بحيث تكون قادرة على وضع نهاية لدورة التدمير والصراع في “حالة/دولة” الطبيعة، تلك الفوضى الشاملة و”حرب الجميع ضد الجميع”.

 

اللوياثان الكبير

وبالنسبة إلى هوبز فإن  الدولة بمثابة “إنسان اصطناعي” يمثل خلاصة قوة الأفراد وإرادتهم التي تم حصرها وتركيزها في قوة واحدة وإرادة واحدة، الأمر الذي جعل منها قوة كبرى وإرادة لا تضاهى قياساً بقوة الأفراد المتفرقين، وإراداتهم المبعثرة. تمثل الدولة، على هذا، نوعاً من “وحدة الجميع الفعلية في شخص واحد[7]“. وهو ما جعل هذا “الشخص الاصطناعي الواحد” بمثابة “اللفياثان الكبير” أو “الإله الفاني” الذي يثير الرعب في نفوس الأفراد، الأمر الذي يردعهم ويجعل إرادتهم تتأقلم شيئاً فشيئاً من أجل تحقيق السلم الأهلي.

إلا أن هذه السلطة المطلقة التي يكتسبها هذا اللفياثان الضخم إنما هي نوع من التفويض من قبل الأفراد، وهي مقيدة بغاية أساسية هي حماية “الإنسان الطبيعي” ووضع حدّ لـ”حرب الجميع ضد الجميع” وما تسببه من فوضى شاملة يتعذر معها العيش بسلام؛ فمن أجل هذه الغاية، كما يكتب هوبز، “صنع البشر رجلاً اصطناعياً، وهو ما نسميه بالدولة[8]“. وعلى هذا، فإن هذا الوحش الضخم ليس “سوى إنسان اصطناعي، وإن كان يتمتع بقامة وقوة أضخم من تلك التي يتمتع بها الإنسان الطبيعي الذي من أجل حمايته والدفاع عنه تمّ خلقه[9]“.

يمثل “اللفياثان”، لدى توماس هوبز، مجازاً أليغورياً (تمثيلياً) لحالة الدولة الضخمة التي تمتلك سلطات مطلقة على شعبها وأراضيها. إلا أن التوتاليتارية مفهوم سياسي واقعي بالرغم من خرافية مراميه وغاياته، وهو مفهوم يخلو من أية لمسة خيالية هوبزية، ومع هذا فإنه أكثر منه رعباً وخطورة. وهذه من الحالات القلائل التي يتفوق فيها الواقع على الخيال فعلاً. لقد شكّلت الدولة البعثية مزيجاً جهنمياً من الريعية والأسرية والتوتاليتارية، وهو ما جعلها باطشة وكلية السلطة وقادرة على تفتيت المجتمع ثم ابتلاعه تماماً كما تفعل الوحوش الضارية التي تمزّق ضحاياها ليسهل ابتلاعها. وهذه ليست طباع لفياثان هوبز القديم ولا أفعاله، بل هو لفياثان جديد تماماً. والسؤال الآن هو كيف تخلّق هذا “اللفياثان الجديد”؟

سلسلة انهيارات الدولة العراقية

المسلمة المركزية، لدى فالح عبد الجبار، أن هذا “اللوياثان الجديد” يمثل حلقة أخيرة من سلسلة متلاحقة من الانهيارات التي منيت بها الدولة العراقية التي “مرّت من النظام السلطاني إلى الديمقراطي، إلى التوتاليتاري في مسلسل انهيارات متلاحقة[10]“. وعلى هذا فإن نقطة الارتكاز الأساسية لفهم كيفية تخلّق هذا “اللوياثان الجديد” هي الدولة السلالية أي العراق العثماني تماماً كما كان الحال مع علي الوردي وحنا بطاطو. والسبب أن هذه الحقبة من تاريخ العراق تمثل “طور تكويني ما تزال أثاره ماثلة في البنى السياسية، والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، مكيفة وجودها في ظروف متقلبة. بل إن مشكلات “الدولة/الأمة” كما تجلت في الحقبة العسكرية وتفاقمت في دولة البعث التوتاليتارية الأسرية (1968-2003)، تضرب جذورها ها هنا[11]“. وقد بدأت العملية الفعلية لتكوين الدولة والأمة في العراق العثماني مع الإجراءات العثمانية المعروفة بالتنظيمات والتي بدأت في العام 1834 إلى العام 1869، ووصلت تأثيراتها إلى العراق في العام 1869، وتواصلت حتى العام 1914. لقد شرعت الدولة العثمانية في التنظيمات بغاية التخلص من “كثرة مراكز القوة” ودمج المجتمعات المحلية والولايات مترامية الأطراف للإمبراطورية في دولة مركزية حديثة. وقد كان العراق واحداً من هذه المجتمعات والولايات المستهدفة بالمركزة. بدأت هذه العملية واستمرت “حتى أواخر القرن التاسع عشر عسكرية-إدارية في طبيعتها، وتسببت في تقويض التراتبيات الهرمية المحلية[12]“. وترافق مع ذلك سلسلة طويلة من العمليات المترابطة: عملية “إصلاح الاقتصاد الأوامري” وإدخال نظام الملكية الخاصة (نظام مالكان لملكية الأرض)، وعملية الإصلاح الإداري الذي أوجد جيشاً نظامياً قائماً على التجنيد، وعملية استحداث وتحديث أجهزة حكومية بيروقراطية قائمة على الموظفين المتعلمين (نخبة الأفندية)، وعملية تطوير التربية والتعليم والمدارس الحديثة، وعملية تشبيك الإمبراطورية بشبكات مواصلات وسكك حديد وملاحة نهرية وخطوط تلغراف وخدمات بريد. والخلاصة أن كل هذه العمليات ستقود، في النهاية، إلى تكوين دولة مركزية حديثة ستكون قادرة، بواسطة وسائل العنف وشبكات المواصلات ومدارس التعليم، على بسط سلطتها على الولايات والمدن والقرى، وعلى تفكيك قوة ووحدة الجماعات والطوائف والعشائر والمدن والمحلات التي كانت تعيش في عزلة شبه كاملة وباستقلال كبير عن أية سلطة مركزية. بمعنى أن الدولة السلالية العثمانية هي التي وضعت العراق على السكة الأولى في مساره الطويل في سبيل بناء الدولة والأمة. ويلخّص فالح عبد الجبار ميراث العثمانيين في العراق باعتباره “مهمة دولتية غير مكتملة”، إلا أنها خطوة أساسية ومدماك مهم من “مداميك التغيير المتوالية نفسها في العراق: النزعة المركزية، نزعة التحديث، النزعة الدستورية وبناء الدولة الإدارية. وقد تراصفت كل مداميك التغيير التاريخي هذه بعضها فوق بعض في فترة زمنية قصيرة[13]“. وهو تغيير سيقفز قفزة كبيرة مع دولة الانتداب والدولة الملكية.

أنهى النظام الملكي المدعوم من دولة الانتداب البريطاني أربعة قرون من الحكم العثماني. وقد عمد البريطانيون على تحديد تكوين الدولة من حيث الإقليم ورسم حدود العراق الحديث بعد أن كان، زمن العثمانيين، عبارة عن مجموعة ولايات هلامية الحدود (ولاية الموصل، ولاية بغداد، ولاية البصرة). وهذا شرط أساسي لكيان الدولة الحديثة. ثم شرع البريطانيون في تحديد نظام الإدارة في الدولة الجديدة: العاصمة، والعلم الوطني، الدستور، قانون الانتخاب، الجمعية التأسيسية، القوانين، منظومة المحاكم، الجيش والشرطة، نظام الضرائب، التعليم المركزي، ضم الدولة إلى النظام الدولي (عصبة الأمم) كدولة ذات سيادة.

ميزان الضعف البريطاني

 لقد حدّد البريطانيون كل هذه العمليات، كما حددوا إيقاع تكوينها، حيث كانوا أميل إلى التحول البطيء. ويتضح هذا من خلال تعمدهم بل إصرارهم، على الحفاظ على سياسة التوازن بين قوة العشائر فيما بينهم من جهة، وبين قوة العشائر مجتمعين وقوة الملك، فلم يكن البريطانيون ليسمحوا بتقوية الجيش العراقي الوليد عدداً وعتاداً، بل أصروا على إبقائه دون القوة المطلوبة ومؤلفاً على أساس تطوعي بحت، وهو موضوع كان محل شكوى الملك فيصل حتى أيام حكمه الأخيرة. فقد اشتكى، في مذكرة تعود إلى مارس 1933، من أن “في هذه المملكة أكثر من 100000 بندقية في حين أن الحكومة لا تملك غير 15000[14]“. وبحسب حنا بطاطو فإن غرض البريطانيين من وراء ذلك هو لجم سلطة الملك فيصل، وإبقاؤه تحت السيطرة، فكلما بدرت منه بوادر انفصالية حركوا هم بدورهم العشائر ضده، وبهذه الطريقة كان “باستطاعة الإنكليز دوماً أن يستخدموا مجموعة أو أخرى من كبار رؤساء العشائر لكبح أي انحراف محتمل للملك عن الخط الذي ركزوا فيه إرادتهم[15]“.

وفي المقابل، كانت “الدولة الأهلية” تندفع باتجاه تقدم متسارع لتكوين كيان الدولة الحديثة والأمة الموحدة، مما جعل العراق محكوماً، طوال عشرينات القرن العشرين، بتباين جليٍّ بين سلطة الانتداب ومشروعها لتكوين دولة ناقصة الاستقلال ومعتمدة عليها باستمرار، وسلطة الملك ومشروعها لتكوين دولة مركزية حديثة مكتملة الأركان. وقد ظهر هذا التباين في مجال تكوين الدولة بشكل واضح، الأمر الذي جعل الدولة، طوال هذه الفترة، متذبذبة ومتخلخلة، أما مسألة تكوين الأمة فموضوع آخر بالرغم من الترابط الوثيق بين هذه وتلك. فقد لاحظ حنا بطاطو وهو يشرّح توازن القوى الذي صنعه الإنجليز، والدور الكبير الذي لعبوه في إحياء وتقوية سلطة المشايخ والأغوات في عراق العشرينات، لاحظ أن الإنجليز وهم يبنون سلطة العشائر وقوتهم لمعادلة قوة الملك، فإنهم في الوقت نفسه ساعدوا على تقويضها بشكل غير متعمد، “لأن مجرد وجودهم كان يعني ضمناً مزيداً من النظام وأمناً أكبر واتصالات أفضل، وكل هذه الأمور، إلى جانب عوامل أخرى، جعلت الشيخ غير ضروري في أعين الفلاحين[16]“. وقد أسهم ذلك في تسهيل عمليات بناء الأمة بشكل سلمي وهادئ طوال فترة حكم الملك فيصل الأول، لكن سرعان ما تحول الوضع بعد وفاته، حيث بدأت، بعيد وفاته في العام 1933، “حقبة عنيفة من الدمج الوطني”، فتم “قصف الآشوريين، والكرد، لقمع نزعات الاستقلال الفئوي، وقصف القبائل الشيعية المعارضة للتجنيد حتى أذعنت[17]“. وعلى هذا، فإن سياقات التنافس والصراع بين دولة الانتداب والدولة الملكية، إضافة إلى عوامل عديدة، أسهمت في الخلل المزمن في العملية الأولى: تكوين الدولة التي كانت هشةّ وغير متوازنة، والنجاح النسبي في تكوين الأمة حيث كان الشعور بالانتماء العراقي قد انتشر انتشاراً كبيراً بين “الطبقات التقليدية، جراء المصلحة في ملكية الأراضي، مثلما كان قد انتشر في صفوف الطبقات الحديثة الناشطة في مؤسسات الدولة أو الاقتصاد الحديث”[18]. وحتى الصراع بين هذه الطبقات (الوسطى والقديمة) كان “يعتمد على مرجعية العراق كإطار للتنافس[19]” والصراع.

إلا أن هذا لا ينفي تنامي الشعور العام بالاستياء وعدم الرضا بين شرائح الطبقات الوسطى الصاعدة حديثاً وفقراء المدن والطبقات العاملة، جرّاء انسداد منافذ الترقي والتمثيل والمشاركة في السلطة والثروة (الحكومة والبرلمان وملكية الأراضي) أمامهم. وقد قاد عجز الدولة عن الإصلاح و”تصلب النخبة السياسية القديمة” التي وقفت في وجه مشاركة هذه الفئات الصاعدة والمتشوفة إلى الموارد السياسية والمادية، إلى الإطاحة بالنظام الملكي برمته. لم تأت هذه المبادرة من شرائح الطبقات الوسطى المدنية بحكم ضعفها ووزنها السكاني غير الكافي، بل من الذراع العسكري للشرائح الوسطى الجديدة، من نخبة الضباط الذين قفزوا إلى السلطة، وقبضوا عليها بكل قوتهم، وبكل توحشهم فيما بعد وعلى مدى عقود منذ العام 1958 حتى العام 2003.

تحتم، بعد تموز 1958، أن يعاد بناء الدولة والأمة على أسس جديدة بما يقوض إرث النظام الملكي من قواعده. وفي هذا السياق، شرعت الدولة الجمهورية العسكرية في مهمتها العاجلة: إنهاء الفصل بين السلطات الذي ميّز النظام الملكي، وذلك من خلال الإطاحة بسلطة “التاج” التي كانت قوة توزان كبيرة مع السلطة التنفيذية، وإلغاء البرلمان ذي المجلسين (النواب والأعيان)، وهو إجراء كان الغرض منه، بحسب فالح عبد الجبار، “تقويض قاعدة قوة الأرستقراطيين ملاكي الأراضي”، وإلغاء المحكمة الدستورية بتاتاً، وإلحاق السلطة القضائية بمحاكم عرفية عسكرية. وفي المقابل جرى تركيز كامل السلطة والقوة في “أيدي مجلس الوزراء، وفي شخص رئيس الوزراء، الجندي-السياسي، الزعيم عبد الكريم قاسم[20]” الذي شرع في سياسات هي مزيج من الاشتراكية (قانون الإصلاح الزراعي)، والعلمانية (قانون الأحوال الشخصية الجديد)، والوطنية العراقية والقومية العربية (قانون النفط الوطني، وغلق القواعد الأجنبية، والخروج من حلف بغداد). وهو الأمر الذي أفضى، في نهاية المطاف، إلى مزيد من “الانقسامات الداخلية، والتدخلات الإقليمية، والضغوط الدولية”، حيث كان على النظام المتولد حديثاً أن يواجه وحيداً مراكز قوى متنافرة: الشيوعيون، والعروبيون، والقوميون الأكراد، ورجال الدين الشيعة، وبقايا النخبة الملكية وهو ما أدى إلى سقوطه قبل أوانه.

يقرأ فالح عبد الجبار هذا السقوط المتعجل لنظام عبد الكريم قاسم ككارثة تاريخية مثّلت نهاية مسار وسطي، وبداية لـ”سقوط الوطنية العراقية، والتمزيق الكامل للبنية المؤسساتية للدولة الحديثة[21]“، وهو ما فتح أبواب جهنم أمام العراق الذي سدّت طرق المستقبل في وجهه.

كانت الجمهورية الثانية (الأخوان عارف 1963-1968)، والثالثة (أحمد حسن البكر 1968-1979) بمثابة “الحاضنة لإنماء الغول التوتاليتاري[22]” الضخم الذي اكتمل نموه مع الجمهورية الرابعة (صدام حسين 1979-2003). وسوف يكرس فالح عبد الجبار أكثر من ثلاثة أرباع “كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد” لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة: كيف أمكن للتوتاليتارية القرابية (الأسرية) أن تتطور في العراق؟ وما هي أصولها؟ وكيف نشأت وتطورت وتغوّلت قبل أن تنهار؟ وما هي آلتها المعقدة ودينامياتها الداخلية التي مكنتها من الإمساك، وبقبضة حديدية، برقبة الدولة وختق أنفاس الجميع، وتفتيت المجتمع وابتلاعه؟

دولة البعث الفريدة

يرى عبد الجبار أن حزب البعث، عند ارتقائه سدة السلطة بعد انقلاب العام 1968، أنشأ نظاماً فريداً في طبيعته، نظاماً توتاليتارياً وقرابياً أسرياً في آن واحد. وهو فريد من نوعه؛ لأنه كنظام حكم يشبه، في السمة الأولى، النموذجين النازي والستاليني (أبرز نموذجين كاملين للتوتاليتارية بحسب حنا أرندت)، من حيث تبنيه حكم الحزب الواحد، والأيديولوجيا القومية الاشتراكية، واختزال وحدة الأمة في شخص القائد الزعيم الأوحد، والسعي الحثيث للتحكم الكامل في المجتمع. لكن هذا النظام يختلف عن هذين النموذجين في سمة القرابية الأسرية، وهي السمة التي تجعله أقرب إلى أنظمة الحكم القرابية الباتريمونيالية patrimonial (نظام الإمارة الوراثية) كما تصورها ماكس فيبر.

قد تبدو، دولة البعث، لأول وهلة، وكأنها خليط غريب ومشوّه، وأحياناً ملفق ومصطنع، من نماذج السيادة الثلاثة التي درسها ماكس فيبر (1864-1920). لقد حدّد ماكس فيبر ثلاثة نماذج خالصة لما سماه بـ”السيادة الشرعية” أي حالات الامتثال وفرص الطاعة لأمر ما، وهي في حالة الدولة فرص الامتثال والطاعة للحاكم من قبل المحكومين من دون الحاجة إلى استخدام وسائل العنف والقسر والإكراه. وهذه النماذج هي: السيادة القانونية العقلاتية التي تتحقق الطاعة والامتثال فيه لا بحكم العادة أو غيره، بل بحكم “النظام المقنّن الذي يتحدد فيه بصورة واضحة لمن يكون الامتثال وإلى أي حدّ[23]” أي إنه شكل من الطاعة والامتثال للقوانين والأنظمة واللوائح المعقلنة أي لبيروقراطية الدولة وإداراتها. والنموذج الثاني هو السيادة التقليدية، وهي سيادة تتأتى بحكم “الإيمان في قداسة الأنظمة الموجودة منذ القدم وسلطات الساسة[24]” التي تستمد نفوذها الشرعي بحكم العادة فقط. والنموذج الثالث هو السيادة الكاريزماتية التي تتأتى “بموجب الولاء الوجداني لشخص الحاكم وكراماته[25]“.

وعلينا أن نعترف، هنا، أن للدولة البعثية بيروقراطية ورثتها من الأنظمة السابقة، وأخذت تتضخم بسرعة مستفيدة من الطفرة النفطية في السبيعنات، كما أن هذه الدولة أخذت تختلق لها عراقة مصطنعة، فصورت نفسها، حيناً، على أنها قلب العروبة وحامية بوابتها الشرقية، وهي، حيناً آخر، قلب الإسلام الضارب بجذوره في زمن أبطاله “العراقيين” الكبار: الحسين والعباس وصلاح الدين الأيوبي، وأحياناً تغالي هذه الدولة لتضرب بجذورها في زمن سحيق: زمن حمورابي ونبوخذ نصر. أما فيما يتعلق بسطوة كاريزما صدام فحدث ولا حرج، فمنذ أن تربع صدام على عرش العراق و”صناعة عبادة الفرد” الملهم أصبحت “فناً” قائماً بذاته، ويشهد عليه عدد التماثيل والصور الضخمة التي كانت تملأ ميادين العراق وجدرانه وشاشة تلفزيونه الرسمي.

على الرغم من وجاهة هذا التحليل، إلا أنه ينبغي أن نعترف أن نماذج فيبر الثلاثة وحدها لا تكفي لفهم تلك الدولة المتوحشة والمرعبة التي شكّلها نظام البعث في العراق؛ إذ لا بد من استحضار نموذج توماس هوبز عن “الدولة-اللوياثان”، ونموذج حنا أرندت (1906-1975) وآخرين عن “الدولة التوتاليتارية” التي تسعى للتحكم الكامل في كل مفاصل الدولة والمجتمع، وهو ما يجعلها نظاماً فريداً، و”تمتاز، بجوهرها، عن بقية أشكال القمع السياسي التي نعرفها، شأن الطغيان، والاستبداد، والديكتاتورية[26]“. والأهم من كل هذه النماذج هو نموذج فرانز نويمان (1900-1954) عن “الدولة-البهيموت” Behemoth وهو النموذج الذي كان موضع إعجاب واهتمام واضحين من قبل فالح عبد الجبار منذ كتابه “ما بعد ماركس”، حيث كان يرى أن “تنظير نويمان هو تركيب أوسع نطاقاً[27]” إذا ما قورن بتحليل حنا أرندت على سبيل المثال.

 

 

 

 

 

*الدكتور  نادر كاظم كاتب وناقد ثقافي بحريني وأستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين. صدرت له عدة كتب في النقد الثقافي والفكر الحديث وقراءة التاريخ آخرها “لماذا نكره” و”المقامات والتلقي”، “تمثيلات الآخر”، “الهوية والسرد”، “طبائع الاستملاك“، “استعمالات الذاكرة”، “إنقاذ الأمل”، “كراهيات منفلتة” و”خارج الجماعة”. رابط لمؤلفات الدكتور نادر كاظم: https://www.goodreads.com/author/show/3158160._

[1] فالح عبد الجبار، كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد، ترجمة: فريق ترجمة، (بيروت/بغداد: منشورات دار الجمل، ط:1، 2017). وتجدر الإشارة إلى أن فريق ترجمة كتاب فالح عبد الجبار قد عرّب اسم الوحش التوراتي Leviathan بـ”اللوياثان”، وقد ارتأينا اعتماد التعريب الأصح والشائع عربياً له وهو “اللوياثان”.

[2] المرجع نفسه، ص16

[3] المرجع نفسه، ص22

[4] المرجع نفسه ص33

[5] المرجع نفسه، ص37

[6] – يرى فالح عبد الجبار أن النظام التوتاليتاري يسعى لأن يكون نظام سيطرة فعلية شاملة، ولكنه يعجز عن ذلك، لأن هذا النوع من السيطرة الكاملة لا تعدو كونها أسطورة وسراباً؛ لأن التوتاليتارية تخلق، أثناء تطورها، دورتها التدميرية الخاصة من التعارضات والتناقضات والشقوق التي ستقود إلى انهيارها في نهاية المطاف. انظر: كتاب الدولة أواللوياثان الجديد، ص54-55

[7] – توماس هوبز، اللفياثان: الأصول الطبيعية والسياسية لسلطة الدولة، ترجمة: ديانا حبيب وبشرى صعب، (أبوظبي/بيروت: مشروع كلمة للترجمة ودار الفارابي، ط:1، 2011)، ص180

[8] – المرجع نفسه، ص218

[9] – المرجع نفسه، ص17

[10] – كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد، ص86

[11] – المرجع نفسه، ص91

[12] – المرجع نفسه، ص94

[13] – المرجع نفسه، ص99

[14] – حنا بطاطو، العراق: الطبقات الاجتماعية القديمة، ترجمة: عفيف الرزاز، (بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية، ط:1، 1990)، الكتاب الأول، ص117

[15] – ا المرجع نفسه، ص117

[16] – المرجع نفسه، ص126

[17] – كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد، ص112

[18] – المرجع نفسه، ص114-115

[19] – المرجع نفسه، ص133

[20] – المرجع نفسه، ص127

[21] – المرجع نفسه، ص130

[22] – المرجع نفسه، ص131

[23] – ماكس فيبر، الاقتصاد والمجتمع، ترجمة: محمد التركي، (بيروت: المنظمة العربية للترجمة، ط:1، 2015)، ص743

[24] – المرجع نفسه، ص746

[25] – المرجع نفسه، ص750

[26] – حنا أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، (بيروت: دار الساقي، ط:1، 1993)، ص243

[27] – فالح عبد الجبار، مابعد ماركس، (بيروت: دار الفارابي، ط:1، 2010)، ص172