المُعاق الشاب علي.. ملاك رحمة كندية انتشلته من الضياع وجعلت حلمه بلا حدود Previous item النجار: الحداثة تحدٍ لا... Next item كاظم: نوازعنا العدوانية...

المُعاق الشاب علي.. ملاك رحمة كندية انتشلته من الضياع وجعلت حلمه بلا حدود

باسمة القصاب

كما هي عادتي عندما ألمح شخصاً لديه إعاقة ما في مكان عام، لا أمدُّ نظرتي ولا أكرّرها، أتجنّب ما قد توحيه النظرة بالنسبة إليه. لكن الشاب (علي) الذي كان يجلس خلف طاولة في مجمع جواد (النويدرات) مع مدبّرته الخاصة، كان هو من نادى علي بصوت قوي وجريء: “لو سمحتِ”..

التفتُّ نحوه، فأشار لي بعينيه إلى ما يضعه أمامه فوق الطاولة وقال بذات الجرأة: “هذا الكتاب من تأليفي، أوري فيه حكايتي مع الإعاقة. ريع هذا الكتاب أريد أن أشتري به سيارة للكرسي المتحرك الخاص بي، إن رغبت في شرائه”.

علي محمد موسى (مواليد 93)، المشلول جسده بالكامل، والمثبّت إلى كرسي متحرّك خاص، يجلس أمام الطاولة بهمّة عالية، يدعو بنفسه لشراء كتابه الصغير: “ليس لدي انجاز كبير، لكني أردت مشاركة الناس معاناتي ومشاعري..”

في كتابه “حلم بلا حدود”، يروي علي معاناته التي وُلدت معه. لقد وُلد علي قبل أوانه بوزن 1.2 كجم، تعرّض جزء من دماغه للتلف بسبب نقص الاوكسجين وكانت النتيجة شلل كامل للجسم ” كل شيء في جسدي معاق ما عدا رأسي وما حواه، يداي الاثنتان مطويتان وملتصقتان دون القدرة على مدّهما أو تحريكهما، وكان نموهما بطيئاً للغاية”.

في المدرسة الابتدائية الخاصة التي اُلحق بها وهو على كرسي متحرّك، لم يجد علي سوى المزيد من الغربة “كان الأطفال يرمقونني كل يوم بنظرات غريبة، وكانوا في أحيان كثيرة يسخرون مني ويتساءلون باستمرار ماذا حصل لهذا الشخص الغريب الذي لا يشبه بقية الأطفال”. أيضاً لم يجد سوى المزيد من الإحباط “أحياناً كثيرة كنت أصاب بالإحباط حين لا أجد من يهتم بي في المدرسة من الأطفال أو حين يرفضون صداقتي عندما أتودد إلى بعضهم وأحاول مشاركتهم في نشاطاتهم. حتى المدرسين لم يكونوا مبالين كثيراً بي”. لم يحصل علي على أي دعم من المدرسة، ولم يستفد من طرق التدريس التي لم تكن ملائمة لوضعه، ظلّ يشعر بالضياع يزداد في داخله “لم يبادر أحد منهم أن ينتشلني من الضياع الذي كنت فيه”.

كان آخر علاقته بالمدرسة بعد أن نُقل صفّه للطابق العلوي، وصار عليه أن يصعد له كل يوم، الأمر المحال. لم تُبدِ المدرسة استعداداً لعمل شيء من أجله. ترك الدراسة دون أن يتعلّم شيئاً يذكر. أخذته والدته لاحقاً إلى مدرسة خاصة لذوي الإعاقة، وكانت تكاليفها باهظة جداً.

يتمنّى علي الآن، أن يزور مدارس البحرين يوماً، ويتحدّث إلى المعلمين والطلاب معاً عن أحاسيس المعاق وكيف ينبغي أن يُعامل، “المعاق لا يحتاج إلى النظرات المستغربة التي توجه إليه كل يوم في المدرسة وفي الشارع وفي المجمعات التجارية، المعاق شخص طبيعي يحب التعامل معه بصورة طبيعية. هو لا يرفض المساعدة لكنه يرفض الرأفة الزائدة التي تعمّق شعوره بالعجز”.

ظلّ علي وحيداً في ضياعه. والدته التي انفصلت عن والده وهو في سنّ التاسعة، تعمل من أجل تأمين مصاريفه وإخوته، وضعت له مدبّرة خاصة تلازمه طوال الوقت، وسيّدة كندية الأصل تأتي إليه كل يوم من أجل تمارين العلاج الطبيعي، “كنت أحس أني أصبحت عبئاً على عائلتي والآخرين وأنني صرت جزءاً من همهم اليومي”.

كان يمكن لعلي أن يبقى في هذا (الموت) لو لا أن الله أرسل له ملاك رحمة. هذا الملاك ليس من بلده ولا من جنسه ولا من عمره ولا من ثقافته، إنّها (آنا) الكندية وزوجها (إدوارد)، جاءا إلى البحرين للأعمال والتجارة، ولم يتوقعا أن يمارسا عملاً إنسانياً، لكن آنا (في العقد السادس من عمرها)، سمعت بمعاناة علي من صديقتها مدرّبة العلاج الطبيعي، ووجدت نفسها مشدودة للتعرّف عليه، فكان اللقاء الذي غيّر مجرى حياته بالكامل..

“في أول لقاء اندهشتُ أن أرى فتى وسيماً ممداً على بساط ومتكئ على الجدار، ومنذ تلك اللحظة قررت أن أفعل ما بوسعي لمساعدة هذا الإنسان الصغير حتى يتجاوز إعاقته ويستغل مهاراته ويتعلم ويتعافى”، هذا ما قالته آنا. كان علي حينها مجرد كومة منهزمة، كل ما يستطيع فعله هو التقلب على الفراش “كان يمكن أن أبقى هكذا ملقياً في الفراش دون أن أتمكن من تحريك بعض أجزاء جسمي والجلوس في الكرسي المتحرك، كان يمكن أن أظل جاهلاً لا أعرف القراءة ولا الكتابة، كان يمكن أن أظل منهزماً غير واثق من نفسي مستسلماً لإعاقتي..”.

بدأت آنا بممارسة العلاج النفسي والايجابي لعقل علي وطريقة تفكيره وهو ما كانت تراه أهم وأعمق من مجرد المساج اليومي لجسده. ثم بدأت تأخذه لعائلتها بشكل مستمر، خصّته بوقتها وجهدها وحبها ورعايتها كما لم يفعل أحد. نظّمت له رحلات للمواقع التراثية وأماكن لم يعرفها من قبل. وعندما وجدت أنه لم يستفد دراسياً من المدرسة الخاصة لذوي الإعاقة قررت أن تقوم بتلك المهمة بنفسها. أحضرت العديد من الكتب والأفلام والوسائل التعليمية وبدأت معه برنامجاً مكثفاً حتى أتقن اللغة الانجليزية، كان حينها في الحادية عشر من عمره. لكنه لم يستجب لتعلم اللغة العربية رغم توفيرها مدرساً خاصاً له.

بدأ علي يصير أكثر تفاؤلاً في مواجهة الحياة بعد أن تعلّم كيف يعبّر عن مشاعره وأحاسيسه شفهياً وكتابياً، أخذته آنا إلى عالم المعاقين في البحرين، في 2012 عملت على تحفيزه للانضمام لمركز البحرين للحراك
الدولي، المكان الذي ساعده لاحقاً على تجاوز الإحباط واكتساب الثقة والتعامل بإيجابية مع الحياة.

عادت آنا وزوجها إلى كندا وعلي في التاسعة عشر من عمره. ومن هناك، عملا على إصدار تأشيرة له لدخول أمريكا والعلاج في مستشفى متخصص، وبالفعل أجريت له هناك عدة عمليات “استطعت بعد العمليات التي أجريتها في أمريكا أن أكتب بنفسي على كمبيوتري الشخصي. قبل العمليات كان ذلك مستحيلاً”.

لقد صار علي الآن شخص آخر، مبتلى بالجسد، لكن معافى بالذكاء، متّقد ثقة وإيجابية، يؤمن أن ما كان مستحيلاً قد يصير ممكناً يوماً، وأن الحُلم لا حدّ له.

 

 

 

 

*باسمة القصاب كاتبة بحرينية عملت في عدد من الصحف البحرينية، مؤلفة كتاب “كالتي هربت بعينيها“. يمكنكم متابعتها على مدونتها “اثر الفراشة” على الرابط: http://www.basema-alqassab.net/?author=1