ما الذي تغيّر؟.. فرط الأنانية

 
محمد فاضل العبيدلي

عندما أكون وسط الحديث عن التغيير الذي جرى للحياة والعالم من حولنا، ينشد ذهني لمحاولة تمييز ما هو طبيعي أو حتمي في التغيير وبين ما هو خارج عن الطبيعي.

إننا نتحدث بشيء من الاستياء عندما ندخل في تلك المقارنة المتكررة حول ما تغير من حولنا، لكن أحياناً فإن ما يبدو غريباً ويثير شيئاً من الإستياء في نفوس البعض، قد لا يكون أمراً سيئاً.

تغير الأبنية والأماكن وانتشار الأجهزة الالكترونية أمر طبيعي بل حتمي،وقد يكون احصاء ملامح التغيير أمراً مسلياً تارة وباعثاً على الكدر تارة أخرى، إلا أن اكثر ما يثير استياؤنا هو تغير الأخلاق نفسها.

قد لا يتعلق الأمر بتردي سلوك البعض ونسيان تلك العادة بإعطاء النساء أولوية المرور عبر المصاعد أو مقاعد المترو فحسب، بل إن قياس التغير في الأخلاق سيقودنا إلى ملامح أخرى قد يعكسها أيضا نوع القيم الرائجة حالياً.

ولمن هم في جيلي – تعبير ملطف عن التقدم في السن – على الأقل، تبدو ملاحظة التغيير في الأخلاق أمراً اكثر يسراً ليس لأننا غدونا آباء فحسب، بل لأن غالب ما تغير من أخلاق جاء على النقيض من بعض ما تربينا عليه من قيم.

لست من ذلك النوع الذي يكثر النواح والتأسي على بساطة الحياة في الطفولة، لكن يستوقفني أن القيم التي تربى عليها جيلي مثلاً كانت مغايرة تماماً للقيم الرائجة الآن لدى جيل أبنائنا رغم أن هذه القيم تملك التسميات نفسها.

ابسط هذه القيم هي تلك المتعلقة بالعلاقة بين الفرد والجماعة، فلقد تربينا نحن وتعلمنا على القيم التي تعلي من قيمة الجماعة بالمعنى الأشمل للكلمة ولربما أن تأثير نمط حياة آبائنا أثر فينا، لكن هذا ترجم نفسه لدى جيلي في صور شتى أبرزها التزام وسلوك كان يحترم الجماعة إلى حد إنكار الذات.

في مظهر آخر، انعكس ذلك في الانخراط في لأعمال التطوعية في مجالات شتى سواء الفنون والثقافة أو حتى الرياضة والأهم دون انتظار أي مقابل من أي نوع.

إن العمل التطوعي مازال رائجاً ومازالت الكلمة تتردد في أوساط الجيل الأصغر لكن معناها والغاية منها اختلفت تماماً، فالعمل التطوعي بات مطلوباً اليوم لدى بعض المؤسسات كأحد عناصر تقييم المتقدمين للعمل، لهذا فإن لجوء بعض الشبان والشابات للعمل التطوعي قد لا يعني بالضرورة ايماناً به بقدر ما هو استكمال لأحد متطلبات العمل في بعض الجهات.

على هذا فإن مفهوم العمل التطوعي ودوافعه تعرضت لتحريف صغير بحيث اصبح موظفاً لغاية محددة وفي الغالب لمنفعة فردية سواء كانت مؤهلات وظيفة أو متطلبات وجاهة اجتماعية.

منذ ثمانينات القرن الماضي، رحت ألحظ تغييراً في التعاطي مع العمل التطوعي باعتباره أحد متطلبات الوجاهة والترقي الإجتماعي كما في تلك القصة عن ذاك الذي اخترناه رئيساً لناد صغير لهواة السينما ولم نره طيلة عام كامل.

لقد انقلب المعنى هنا فأصبح العمل التطوعي مرتبطاً بمنفعة يرتجيها الشخص وليس لخدمة هدف أو غاية تخص المجتمع أو خدمة الآخرين.

وعلى نحو أكثر سوءاً، فإن التغير في الأخلاق المشتركة بين كل البشر في العالم، بات يعكسه الميل لإعلاء الأنانية رغم التعابير الملطفة المستخدمة عنها والتي تتراوح ما بين التركيز على الاهتمام بالذات عبر ذلك النوع من النصائح التي يتم تقديمها بأسلوب العلوم التجريبية أو الميدانية ومحورها إعلاء الاهتمام بالنفس وعدم التفكير في المشكلات من أي نوع.

لهذا التوجه صفة مكملة هي الاحتفاء الدائم بأصحاب الثروات الطائلة باعتبارهم نوادر يتعين الاقتداء بها، فيما كانت القدوات التي تقدم لنا في أيامنا لها أمثولة وعبرة واحدة هي «التضحية» وليس جمع الأموال.

قد يكون هذا أقل سوءاً عندما نلاحظ هذا التنامي للميول الأنانية لدى الناس من مختلف الجنسيات والخلفيات الثقافية إلى الحد الذي أصبحت فيه الأنانية وعدم الاهتمام بالآخرين قاسماً مشتركاً بين الناس من كل الجنسيات.

لقد غدا اللطف واللفتات الصغيرة تجاه الآخرين نوعاً من السذاجة بنظر الغالبية من الناس، وعلى مدى سنوات وبشكل متكرر، كنت ألحظ ابتسامات ساخرة على أطراف الشفاه من أناس مصطفين انتظاراً لمصعد مثلاً عندما يقوم أحدهم بإفساح المجال لسيدة من بين المنتظرين.

ولأولئك الذين سيسارعون للإعتقاد أن هذه الحركات لا تصدر إلا عن أشخاص قادمين من بلدان تعيش نامية – مقابل ملطف لمفردة: متخلفة-، فإنهم قد يصدمون عندما يعرفون أن مثل هذه التصرفات تصدر حتى عن أوروبيين لطالما تعاملنا معهم على انهم نموذج الإتيكيت واللطف.

القاسم المشترك الآن بين الناس من مختلف الثقافات والخلفيات هي الأنانية المفرطة التي تعبر عن نفسها من التزاحم في الشارع إلى الشروع في الحروب وتقبل أذية الآخرين والاحتفاء بالعنف ضد الآخرين والكيل بمكيالين وتجيير القيم لصالحنا عندما نريد أن تعمل لنا وإنكارها عندما تكون لصالح غيرنا.