ترسيخ الاعتدال.. ما الذي يغير الوعي؟ Previous item هل هناك إيران أخرى لا نعرفها؟ Next item العولمة والسخط عليها

ترسيخ الاعتدال.. ما الذي يغير الوعي؟

محمد فاضل العبيدلي

لم تنفك الدعوات لترسيخ الإسلام المعتدل تتردد منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001 وحتى اليوم واكتسبت زخمها منذ إعلان دولة داعش في العام 2014.

لكن كيف يمكن ترسيخ هذا الإسلام المعتدل؟ ما هي الأساليب التي أبعد من الدعوات والمناشدات؟

يملك الكثيرون تصورات شتى لتحقيق هذا الهدف أو ترسيخ الاعتدال بشكل عام ومنها ما تمت تجربته في تجارب المناصحة التي جرت في مصر والمملكة العربية السعودية مثلاً. وثمة من يرى أن ترسيخ الاعتدال يتطلب ترجمته في قوانين تسنها الدولة لتجريم التطرف وهو أمر بادرت إليه دول عدة أيضاً سواء بقوانين مكافحة الإرهاب والتطرف على سبيل المثال. مبادرة الإمارات بإنشاء وزارة للتسامح يمكن النظر إليها أيضا ضمن هذا المنظور.

من المؤكد أن إحداث تحول ملموس في الفكر يحتاج وقتاً، وعلى سبيل الجدل سنتساءل: كم من الوقت يمكن أن يستغرقه هذا التحول؟ عشر سنوات أم أقل أم أكثر؟

أتساءل عندما أتذكر جيداً أن التعويل في مسألة ترسيخ الاعتدال يكاد أن يكون على عنصر وحيد هو ما اصطلحنا على تسميته «الوعي المجتمعي»، هنا ستختلف الآراء كثيراً. آخر المنابر التي شهدت مثل هذا الاختلاف هي الجلسة التاسعة في ملتقى أبو ظبي الاستراتيجي الرابع الذي عقد في أبوظبي الأسبوع الماضي.

لقد ضمت الجلسة ثلاثة من خيرة المتخصصين في الدراسات الإسلامية والدراسات الاجتماعية ودراسات التطرف هم الدكتور رضوان السيد والدكتور عبدالله ولد أباه والدكتور مصطفى العاني. ولقد جاء تشخيص ظواهر التطرف وتشخيص مسارات الحلول أيضاً دقيقاً من قبل المتحدثين، لكن ما إن جئنا إلى الحلول العملية، برز الاستدراك الأهم من الدكتور العاني.

فلقد اعتبر العاني أن الحلول «ليست سهلة» بالنظر إلى أن هناك قابلية واستعداداً لدى الناس أحياناً لتقبل المفاهيم والتفسيرات المتطرفة للعقيدة، إن لم يكن بشكل طبيعي فبحكم الظروف.

لقد ضرب العاني مثالاً على هذه القابلية ما جرى بالنسبة لبعض العشائر السنية التي ناصرت تنظيم داعش لأنها كانت تحت وطأة تهميش الحكومة العراقية التي تهيمن عليها الأحزاب الشيعية. العبرة في كلا الحالين أن هناك استعداداً طبيعياً لتقبل الأفكار المتطرفة. أما انجذاب الشبان لمثل هذه الأفكار، فلا يمكن تفسيره بالتدين فحسب بل بجوهر هذا التدين وغاياته. والقاسم المشترك بين كل حالات الانجذاب هو «اليأس».

فالشبان قد لا يأتون من بيئة فقيرة بالضرورة، لكن حالة من الشعور باليأس والعجز وقلة الحيلة تدفعهم للانضمام لتنظيم يمثل بالنسبة لهم «القدرة على الفعل» أو «تحويل الأقوال إلى أفعال». قد يفسر لنا هذا حالات انضمام خريجي جامعات أو أفراد من عائلات من الفئة الوسطى. فالدافع لدى هؤلاء قد لا يكون الفقر أو البطالة بل الرغبة الشديدة في الرد على ما يعتقده انه حالة عجز.

في نهاية المطاف، أنا من الذين يرون أن الوعي المجتمعي لا يمكن تغييره أو التأثير فيه نحو ترسيخ قيم الاعتدال إلا بتدخل في حدود معينة من قبل الدولة والنخب الفكرية والثقافية. فمن الصعب تغيير الأفكار المتوارثة بمجرد التمني أو المناشدة.

إن التدين، أمر إيجابي ومحمود بالتأكيد، لكن مشكلتنا الأولى تبدأ مع الطريقة التي يتلقى فيها الصغار مبادىء الدين والكيفية التي ندرس فيها الدين في المدارس. فالمناهج هنا تقوم على تقديم سرديات للدين لم تتغير وتربط العقيدة بالتاريخ بحيث يتماهى الاثنان في أذهان المتلقين فتغدو الحقيقة التاريخية وكأنها جزء من الدين.

أبرز مثال هنا تحطيم حركة طالبان لتماثيل بوذا في افغانستان وتحطيم داعش لكل محتويات متحف الموصل ومسجد النبي يونس الأثري تأسيساً على حادثة تحطيم أصنام الكعبة يوم فتح مكة. (انظر مثلا مقالنا في البيان بتاريخ 18 مارس 2015 والمعنون: هل الحادثة التاريخية من تعاليم الدين؟).

لكن هذا سيكون ميسوراً أمام معضلة أخرى هي اخطر بكثير من كل هذا وهي مسألة تردد المرجعيات الدينية الكبرى أمام ظواهر وتنظيمات التطرف. فحتى يومنا هذا، لم تصدر أي من مرجعياتنا الإسلامية الكبرى مثل الأزهر أو غيره رأياً صريحاً ينزع الغطاء عن التنظيمات المتطرفة.

إن هذا التردد سيقودنا إلى سؤال أساسي: من هو المسلم؟ ما هو التعريف الدقيق للمسلم؟ هل هو من ينطق بشهادة لا اله إلا الله محمد رسول الله ويؤدي الصلوات فحسب؟

لقد ترددت المرجعيات الدينية في نزع الغطاء عن تنظيم مثل «داعش» ومن قبله «القاعدة»، بل إن البحث سيقودنا إلى أن أقصى ما وصل إليه بعض المشايخ في نقدهم لداعش هو دعوة أبوبكر البغدادي للتخاصم في محكمة إسلامية. فكروا معي لو كانت هناك فتوى ورأي سريع وحاسم في أفعال تنظيم «القاعدة» منذ البداية، هل كان مسار حركة التطرف سيصل إلى ما وصلت إليه الأمور مع نشأة تنظيم «داعش» النسخة الأكثر تطرفاً من القاعدة؟

يؤشر هذا لمشكلة أكثر عمقاً وترسخاً هي الفهم الرائج للإسلام في وقتنا الراهن، والذي نرى أكثر صوره الشاخصة في حالة المرجعيات الدينية الكبرى التي لا تزال تتحدث عن سماحة الإسلام لكنها لا تعرف كيف تنزع الغطاء عن كل من حمل راية الإسلام بقصد محاربته وتدميره بأبشع الممارسات ولا تعرف كيف تدافع عن هذه السماحة ولا كيفية ترسيخها.