المعركة المفتوحة مع “شوية عيال” Previous item ملف الدعم الحكومي Next item ويلات أمة

المعركة المفتوحة مع “شوية عيال”

محمد فاضل العبيدلي

شكلت صدارة جيل شاب للثورتين في تونس ومصر، حركة تاريخية تجاوزت طبقات سائدة وأجيالًا كاملة وأنماطاً ثقافية وفكرية كاملة. لكن هذه الصدارة هي بالضبط التي تشكل الآن وستشكل في المستقبل المنظور، محور أزمات متتالية لاحقة في مساعي تحقيق الأهداف التي انطلقت من أجلها الثورتان.

لقد كان المعتاد والنمطي دوماً، هو أن الثورات في بلداننا العربية تقف وراءها قوى محددة بعينها: ضباط جيش، أحزاب… حتى الاحتجاجات الموسمية أو المحاولات الانقلابية (باعتبارها حالة من التمرد)، كانت تقف وراءها قوى سياسية أو اجتماعية محددة، وبرامجها معلنة وخطابها معروف. لكن هذه المرة ليست هناك أية قوة سياسية منظمة أو خطاب حزبي أو تحالف. ليست هناك قيادات اجتماعية من النوع التقليدي، سواء باشوات أو قادة إقطاعيين من عصر الملكية، أو مفكرين أو قادة سياسيين ونقابيين من عهد الجمهورية. وهذه حالة جديدة غير نمطية، تطرح سؤالاً مهماً: من هم هؤلاء؟

سواء أكانوا شباب إنترنت، أو شباناً مروا بالأحزاب وكونوا تجربتهم الخاصة (وهو الأصح في حالة مصر)، أو شباناً يائسين دفعت بهم المعاناة إلى الثورة في تونس، فإنهم اليوم باتوا يمثلون بتأثيرهم معضلة لطبقات قديمة من السياسيين في كلا البلدين، ولجيل ظل مهيمناً على الحياة السياسية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. إن الجيل القديم ما زال يناضل من أجل البقاء في موقع التأثير، يسعفه في ذلك أن الجيل الشاب من صناع الثورة، يفتقد خبرة العمل السياسي البيروقراطي. أوجد هذا حالاً من التسوية، لم تمنع من أن يتسلم بعض رموز الحقبة السابقة من الجيل القديم، سدة القيادة (الباجي قايد السبسي في تونس والمشير حسين طنطاوي في مصر) لضرورات المرحلة الانتقالية.

لكن إلى جانب الحكام الانتقاليين، هناك طبقة سياسية بأكملها، سواء تلك الحاكمة أو المعارضة، وجدت نفسها محيدة، ظاهرياً وحتى الآن على الأقل. فعدا الغموض الذي يعتريها حيال مستقبلها، فإنها تبدو حائرة حيال الطريقة التي يتعين أن تتحرك وفقها نحو المستقبل. وإذا كانت نخب السياسيين القدامى تميل للتواري أكثر من المقاومة، فإن أحزاب المعارضة، وخصوصا الإسلاميين في تونس ومصر على حد سواء، ستعمل كل ما في وسعها لكي تكون مؤثرة، ولن تقبل بأن يزيحها شبان متحمسون لم يظهروا أي ميل لطروحاتها، بل على العكس مناهضون لأي شكل من أشكال الهيمنة والاستبداد والسلطة الأبوية. تضاف إلى هؤلاء، طبقة المستثمرين ورجال الأعمال الذين ترتبت نشاطاتهم ومصالحهم وبنيت على أوضاع العهد السابق بكل ما فيه، دون أن تكون هذه الطبقة بأسرها بالضرورة غارقة في فساد المرحلة الماضية. هذه الطبقة في حال انتظار وترقب حاليا، لكن ليس من المتوقع أن تبقى ساكنة دون أن تسعى لترتيب الأوضاع، وخصوصا نوع الاقتصاد الذي ستعمل من خلاله، ومقدار الكلفة المطلوبة منها: نوع الضرائب وحجمها وما ستحصل عليه في المقابل، سواء أكان نفوذاً سياسياً أم مكاسب اقتصادية.

كل ما يتعلق بهذا الجيل الذي أحدث التغيير في تونس ومصر، ما زال غير مفهوم، واختزال دوافعه وطموحاته وما يفكر فيه وما يحركه، في أنها محض تأثير الانترنت وكأنها المحرك الوحيد للثورة، سيكون محض ادعاء.إن قطاعاً مؤثراً ومهماً مثل قطاع الثقافة والفنون في مصر، يقدم نموذجاً بارزاً للنظرة السائدة حيال هذا الجيل الشاب صانع التغيير.

فرغم الحدود القصوى من النقد الجريء للأوضاع القائمة في العهد السابق، وتشريح كل صور الفساد المستشري في جهاز الدولة، فإن موقف هذا القطاع من هذا الجيل، ما زال محافظاً ولم يبد أي تفاعل مع التغيير إلا في الحدود الدنيا. لعل هذا مؤشر واضح على أن هذا القطاع بمجمله كان متصالحاً مع هذه الأوضاع، رغم كل مظاهر العطب فيها، ويفسر مواقف العديد من الفنانين، تجاه جيل الثورة، التي كانت تميل للتقليل من شأنهم بتنويعات شتى تدور حول مفهوم واحد: “شوية عيال”.

هذا الاستصغار الذي قابل به فنانون ومثقفون عرفوا بنقدهم اللاذع للأوضاع في العهد السابق، هو موقف معمم. كل هذه القوى والمصالح التي تحركها، دخلت في معركة مفتوحة مع “شوية العيال”، لصياغة نوع النظام المقبل في مصر. إن المعارك التي تنشب من وقت لآخر في مصر بين أنصار مبارك وبين المحتجين، دليل على أن الطبقات القديمة وكل المنتفعين من الروابط المصلحية التي نشأت في العهد السابق لن يستسلموا بسهولة، ولجوؤهم للأساليب والأدوات التي اعتادوها (المؤامرات والبلطجيه) دليل على الخوف من التغيير المقبل.

مفردة “الجمهورية الثانية” التي بدأ البعض يرددها زهواً، قد تبدو سابقة لأوانها لأنها لا تزال تتشكل. لكن تشكيلها لن يكون سهلًا، بل صراعاً مفتوحاً مع الجيل الذي قاد التغيير التاريخي. ما هو شكل هذه الجمهورية الثانية؟ ما هو نظامها السياسي والاقتصادي؟ لدى المصريين المنتفضين أجوبة لا حصر لها، لكن من المؤكد أن غالبهم يطمح إلى مستقبل يخلو من تلك الصورة الغارقة في اليأس، التي ترسمها قصيدة أحمد فؤاد نجم الساخرة “موكوس على متعوس”. قصيدة سخرية سوداء يعلن فيها مارد مصباح علاء الدين استحالة تحقيق أبسط متطلبات الحياة الكريمة للمصريين، لأن الجن أنفسهم يتعلمون دروساً من تعاسة المصريين تجعل الجن تعيساً بدوره.

ليست سوداوية نجم الذي لطالما مثل ضمير المصريين، إلا اختزالاً لصعوبة مهمة بناء جمهورية ثانية تسودها العدالة الاجتماعية وتصبح الحياة فيها أقل شظفاً. المهمة ليست سهلة لأن طبقات قديمة بأكملها ستقاتل بضراوة، من أجل الحفاظ على أوضاع قديمة تلبي مصالحها، أكثر من أوضاع جديدة تحصل فيها الفئات الوسطى الشابة على دور مستحق وطبيعي، حتى لو تضمن ذلك عدالة اجتماعية وحياة أقل شظفاً.. والحال لن يكون مختلفا كثيراً في تونس.