رغم تعدد التفسيرات لقرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة ما بين محاولة لكسب ود اللوبي الصهيوني، أو اعتباره امتداداً لخطوات أخرى ميزت أسلوب ترامب في الحكم مثل الموقف مع كوريا الشمالية، ثمة تفسير آخر لا يغفل عنه كثيرون للأسف.
يرى أصحاب الرأي السابق حول أسلوب ترامب في التصعيد شبهاً بالتصعيد الذي مارسه في الأزمة مع كوريا الشمالية، وان هذا التصعيد دفع كلاً من الصين وروسيا إلى التصرف والعمل على إقناع الكوريين الشماليين بتهدئة الوضع والتوقف عن التصعيد، بل انه دفع الصين إلى ممارسة سياسة مسؤولة في العلاقات الدولية خصوصا ما يتعلق بالتجارة الدولية بشكل يستجيب بهذا القدر أو ذاك للمطالب الأميركية.
لا أستطيع أن أحكم على هذا وإن كنت أتمنى أن يكون مثل هذا التحليل صحيحاً، لأنني أرى تبعات وعواقب أكثر سوءاً وأكثر سوداوية لقرار الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
فمن وجهة نظري، قد يكون هذا القرار هو بداية التأسيس لمرحلة جديدة من المهمة الكبرى في صنع العدو، اي صنع الأداة الجديدة التي ستخلف تنظيم “داعش” الذي تعرض لضربات عسكرية قوية أدت إلى إضعافه إلى حد كبير.
فنشأة تنظيمات مثل تنظيم «القاعدة» و«داعش» تحتاج لدوافع ومبررات قوية من شأنها أن تدفع الشبان إلى الانخراط في دعوات الجهاد بإيمان كامل وعميق. مثل هذا الإيمان يحتاج جرعة عالية من العداء السافر الذي لا يجدي معه أي نقاش.
تذكروا تصريح جورج دبليو بوش غداة تدشين الحرب العالمية على الإرهاب وهو يهيئ الجمهور لغزو العراق في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001، عندما وصف الحرب المطلوبة على الإرهاب بـ”حرب صليبية”.
لا أميل أبداً لتصديق أن ذلك كان سهواً مثلما قيل، أو أن الرئيس لم يقصد مفهوم الحرب الصليبية المعروف، ولا أستطيع أن أقبل التفسير الذي أرجع استخدام المفردة إلى تدين جورج دبليو بوش وانتمائه إلى الصهيونية المسيحية. لست من المؤمنين بالصدف والسهو في عالم السياسة قبل كل شيء وأعتقد بأن استخدام بوش لمفردة “الحرب الصليبية” تلك كان مقصوداً.
فإذا وضعت تلك المفردة في سياق كل ما جرى في العراق منذ الاحتلال الأميركي بدءاً من حل الجيش العراقي وتالياً إلى اعتراف بوش نفسه بعدم ثبوت أي صلات بين القاعدة ونظام صدام حسين وعدم العثور على أي أسلحة دمار شامل، أي بطلان حجج الغزو كلها مروراً بفضيحة التعذيب في «أبوغريب» ونشر صور وقصص التعذيب في «غوانتانامو»، نصل إلى سياق ذي نتيجة واحدة: “أفعال وسياسات خلقت غضباً عارما”.
فهل كان ذلك كله بمحض الصدفة أو السهو أو خطأ من ضابط في أبوغريب أو ضابط آخر في غوانتانامو؟ لنمنح الأميركيين ميزة الشك على سبيل الجدل: قاعدة غوانتانامو موجودة في أرض معادية أي كوبا وهي ليست مكاناً سياحياً ولا مفتوحاً يقصده أحد، بل إنه لم يكن معروفاً أبداً حتى للأميركيين ولا للعالم قبل العام 2011. كيف انتشرت تلك الصور للمعتقلين فيه؟ هل وقف المصورون خارج أسوار القاعدة وبإذن من الحكومة الكوبية مثلاً أو بإذن من القوات الأميركية والتقطوا الصور؟ ومن أين جاء فيض التقارير التي أسهبت في وصف أساليب التعذيب التي اتبعها المحققون الأميركيون مع المعتقلين الذين تم شحنهم من أفغانستان بما فيها طبعاً ذلك التفصيل الصغير الذي سيطعن قلب كل مسلم: “تدنيس القرآن؟”.
فالنتيجة النهائية هي أن هذه الخطوات والأفعال والسياسات الأميركية وفرت الدافع الأكثر أهمية لنشأة تنظيم “داعش” الذي بدا للكثيرين أنه ثمرة طبيعية لغزو واحتلال العراق، لكن السياق الخفي يقترح أن كل ما قام به الأميركيون كان يهدف إلى توفير الأرضية والإرهاصات القوية لخلق ردة فعل يراد لها أن تكون متطرفة وغير عاقلة بأقصى درجات التطرف.
لقد نشأ تنظيم القاعدة في كنف الدعم الأميركي للمجاهدين الأفغان، وحدث التحول [المطلوب] لتوجيه دفة العداء نحو واشنطن غداة غزو العراق للكويت عام 1990، حيث زعم التنظيم رفضه لتواجد القوات الأميركية على أرض الجزيرة العربية. وعلى مدى السنوات اللاحقة، أدى تنظيم القاعدة دوره في صنع العدو الجديد [المطلوب] للغرب. لكن ولما كان تطرف «القاعدة» ليس كافياً لشيطنة العدو الجديد للغرب، بقيت الحاجة قائمة لعدو أكثر تطرفاً فجاء تنظيم داعش. وكلما استنفذ أي تنظيم دوره يصار إلى خلق تنظيم جديد.
ولعلنا بحاجة إلى استذكار أمر واحد هو تاريخ إعلان قرار ترامب. 6 ديسمبر.. هل يعني لكم شيئاً؟ على الأرجح لا لأن كثيراً من العرب لا يقرأون التاريخ ولا يعرفون قيمة الأرشيف، فهذا التاريخ هو تاريخ احتلال قوات الجنرال اللنبي للقدس عام 1917، وهو اليوم الذي قال فيه مقولته الشهيرة: “اليوم انتهت الحروب الصليبية”. فهل هذه صدفة أخرى من صدف السياسة الأميركية؟
الآن ومع قرار ترامب هذا، تم توفير الدوافع والمبررات والمرجعية عبر الصدمة الكبرى التي ولدها وسيولدها تباعاً قرار ترامب بالاعتراف الرسمي بالقدس عاصمة لإسرائيل. ويأتي الجزء المتمم لهذا في تصريحات مستشار الأمن القومي الأميركي مايكل فلين قبل أيام عندما وصف الإسلام بأنه “سرطان” يتعين استئصاله. وإذا شاء المجادلون المحاججة أكثر، فسيجدون فيضاً من التغريدات لفلين تصب في الإطار نفسه، أي الهجوم السافر والمستفز على الإسلام. هكذا يتم توفير الأرضية المناسبة لولادة الوحش الجديد.å