تنويه: نشر هذا المقال بالاصل باللغة الانجليزية في صحيفة “غلف نيوز” في 31 اغسطس 2014 في لحظة مشابهة للحظة التاريخية التي يعيشها العالم على وقع العدوان الصهيوني المستمر على غزة من اكثر من 8 أشهر. يبدو تاريخ هذه المنطقة من العالم أسيراً لدائرة محكمة من الحروب والضحايا والمقاومة التي لا تتوقف، لهذا فحسب سيبدو المقال الذي كتب قبل عشر سنوات وكأنه يتحدث عن اليوم أو بروفة لما يجري الآن بكل التفاصيل المؤلمة والباعثة على الغضب في احسن الاحوال
محمد فاضل العبيدلي*
خرج الالاف من الناس في تظاهرات في كل عاصمة ومدينة كبرى تقريبا في كل القارات الخمس، من اليابان شرقاً الى الولايات المتحدة غربا ومن اوروبا الى جنوب افريقيا. حتى ملك السويد وزوجته تخليا عن وقار الملكيات الموروث وسارا في الشارع وهما يضعان كوفية فلسطينية في لفتة تضامن مع غزة. ما الذي وحد العالم ضد اسرائيل بهذا الشكل؟
قد نجد بعض الأجوبة في مقال الكاتب الاسرائيلي آري شافيت المعنون “كيف ستتعامل اسرائيل مع سلاح حماس السري؟” والمنشور في صحيفة “هارتز” في 7 اغسطس: “في حرب يوليو، أطلقت حماس 3356 صاروخاً على اسرائيل، بعضها قصير المدى وبعضها متوسط المدى وبعضها طويل المدى. لكن أخطر صاروخ اطلقته حماس في عملية [عامود السحاب] هو الصاروخ رقم 3357. هذا الصاروخ غير المرئي كان عابراً للقارات. لقد ضرب بقوة اهم قواعد تأييد اسرائيل في القارات الخمس. لقد وصل كل منزل في امريكا وسبب اضرارا جسيمة في كل بلد في اوروبا ومتفجراته المميتة وصلت امريكا الجنوبية وآسيا وشبه القارة الهندية أيضاً”.
الاستنتاج واضح لدى شافيت: “لقد خلقت حماس صورة مخزية لإسرائيل في عيون المليارات من الناس حول العالم.. يبدو ان حماس لن تطلق صواريخ على عسقلان واشدود، لكنها ستستخدم صاروخها السري لكي تجعلنا نبدو على غير ما نحن عليه، ان تجعلنا نبدو مثل جنوب افريقيا”.
مثل هذه الحقائق التي عرضها شافيت ليست سوى ادراك متجدد ينتاب الاسرائيليين في لحظات تاريخية مثل العدوان الاخير على غزة، وفي العام 1987، ومع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الاولى، كتب معلقون اسرائيليون ان الانتفاضة “محت الخط الاخضر بين الاراضي المحتلة عام 1967 واراضي 1948″. تظهر مثل هذه الهواجس الوجودية في الاوقات التي يكون من الصعب فيها تفادي الحقيقة الجوهرية عن اسرائيل: دولة محتلة تسرق اراضي الآخرين دوماً وتمارس القتل الجماعي بحقهم باستمرار. الحقيقة الشاخصة بقوة والمناقضة تماما لصورة الشعب الذي عانى ويلات المحرقة.
بعبارة أخرى، فان تلك الهواجس الوجودية تعيد القصة الى نقطة البداية: كيف نشأت هذه الدولة وكيف أعطى المجتمع الدولي لمجموعة من الناس الحق في اقتلاع شعب آخر واحتلال أرضه وتشريده. هكذا، فان هذه الهواجس الوجودية تبرز في الوقت الذي يحاول المجتمع الدولي التعامي عن المعنى الحقيقي لذلك القرار الذي اتخذه قبل 67 عاماً: “إذن لقتل الفلسطينيين واقتلاعم من وطنهم ارض وطنهم”.
لقد استقر هذا الفهم عميقا في الذاكرة الجماعية للإسرائيليين وصاغ في وعيهم مفهوماً واحداً للنصر لا غير: “كثرة اعداد ضحاياهم”. لهذا وحده ارتبطت كل حروب اسرائيل ضد الفلسطينيين بأعداد متضخمة دوماً من الضحايا الفلسطينيين. سياسياً، يتجلى هذا الفهم في هدف وحيد أيضا: “ان يبقى الفلسطينيون مهزومين وخاسرين على الدوام”.
العدوان الأخير على غزة، ومفاوضات وقف اطلاق النار التي تلتها في القاهرة، تجسد هذا الفهم بشكل جلي، اكثر من 2100 من الضحايا الفلسطينيين غالبهم من الاطفال والمدنيين. وفي محادثات وقف اطلاق النار لن يكون هناك أي تنازل، فالحصار المضروب على غزة [منذ ثماني سنوات] سيتسمر وسيمنع سكان غزة من الحصول حتى على ابسط متطلبات الحياة. بكلمات أخرى، يجب ان يبقى الفلسطينيون خاسرين حتى لو تعلق الأمر بالمتطلبات البسيطة للحياة.
ان تاريخ دولة اسرائيل يسير في خطين متلازمين، مذابح بحق الفلسطينيين ورفض لأي تنازل سياسي من أي نوع. ومن المؤسف ان العالم يحتاج لتذكير دموي من وقت لآخر لكي يتذكر ان اسرائيل لم تطبق أي قرار للأمم المتحدة (او الشرعية الدولية مثلما تهذب دبلوماسياً لدى البعض) منذ عام 1947 سوى نصف القرار رقم (181) الذي شرع إنشائها وداست على نصفه الثاني الذي ينص على قيام دولة فلسطينية.
مفاوضات استمرت 20 عاما منذ العام 1994 لم تثمر سوى زيادة اليأس في اوساط الفلسطينيين، ولعل هذا هو التعبير الاكثر دقة عن الهدف الاستراتيجي الاسرائيلي منذ توقيع اتفاق اوسلو في 1993: منع أي مسار يقود الى نمو دولة فلسطينية. لكن في غزة، لا يتعلق الأمر بشروط قيام الدولة ولا بترسيم الحدود بل بحق 1.8 مليون فلسطيني في القطاع في الحياة مثل باقي البشر.
لقد توحد العالم ضد اسرائيل في اجماع نادر اثناء عدوانها الاخير على غزة، لا بسبب الصور غير المحتملة للضحايا من الاطفال الفلسطينيين فحسب، بل لأن هذا الصور لم تفعل سوى تذكير العالم بالعبء غير المحتمل الذي تمثله اسرائيل على الضمير الانساني. بعض من ثقل هذا العبء امتد الى كاهل جزء من الاسرائيليين أنفسهم.
اسرائيل، دولة ومجتمع مأزوم اخلاقياً وسياسياً. ليس هذا استنتاج كاتب عربي مثلي، بل هو ما يقوله ستة اسرائيليين، لكنهم ليسوا مثل باقي الاسرائيليين، فهم ستة من الرؤساء السابقين لجهاز الاستخبارات الداخلي الاسرائيلي “الشين بيت”، واحد من أقذر اجهزة الاستخبارات الاسرائيلية.
ففي الفيلم الوثائقي الذي اخرجه الاسرائيلي درور موري وعرض عام 2013 والمعنون “الحراس – Gate Keepers”، يعترف هؤلاء الستة ان اسرائيل هُزمت اخلاقياً وسياسياً باحتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة ويدعون للسلام مع الفلسطينيين. وفي شهادة من ضمير مثقل على ما يبدو، يقول أحد هؤلاء الستة وهو ابراهام شالوم “لقد اصبحت قلوبنا قاسية واصبحنا مثل الحيوانات الضارية تجاه الفلسطينيين بحجة مكافحة الإرهاب”.
لقد حان الوقت لكي يتخلص العالم من هذا العبء، حان الوقت لكي يقوم العالم بمثل ما قام به تجاه نظام جنوب افريقيا العنصري: المقاطعة، سحب الاستثمارات والعقوبات.
*المحرر
مترجماً عن غلف نيوز – Gulf News
http://gulfnews.com/opinions/columnists/an-unbearable-burden-on-human-conscience-1.1378899