من عالم الغرب الإستغلالي العدواني إلى آخر عالمي تشاركي
ياسر قبيلات*
لا حاجة للتردد كثيراً قبل الوصول إلى نتيجة مفادها أن روسيا من أكثر المعنيين بالأحداث الأخيرة في منطقتنا منذ السابع من أكتوبر الماضي وما تبعه من حرب إسرائيلية همجية على قطاع غزة. ورغم ذلك، يلاحظ المراقبون أن السياسة الروسية تتجنب الانخراط في هذه الأحداث، بالمستوى الذي يؤهلها له وضعها باعتبارها دولة عضو في مجلس الأمن، وشريك بـ«الرباعية الدولية»، وبما تسمح به علاقاتها مع دول المنطقة وطرفي الصراع، أو حتى بما يتناسب مع أهمية هذه الأحداث بالنسبة لعقيدة السياسة الخارجية الروسية.
وبالطبع، لا يتعلق الأمر بالانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية، كما يمكن أن يخطر بالبال؛ فهذه الحرب نفسها لم تمنع موسكو من الانشغال ببؤر توتر أخرى، مثل: الأزمة الأرمنية الأذربيجانية حول ناغورني كراباخ، وأزمة كازاخستان، والتيقظ السياسي والعسكري الروسي بما يتعلق بالتطورات المحيطة بتايوان وكوريا الشمالية، والانقلابات العسكرية في أفريقيا.
اللمسة الروسية
في الواقع، طورت روسيا خلال العشرين عاماً الماضية مقاربات ومداخل للتعامل مع القضايا الدولية، لا سيما تلك التي يحضر الغرب طرفاً أساسياً فيها. وهذه المقاربات بنيت على استعادة حس «روسيا التاريخية» الجيوسياسي، و«التجربة السوفيتية» وتجربة «روسيا التسعينيات»، والخبرة الخاصة التي راكمتها «روسيا الجديدة»، أو «روسيا البوتينية» كما يحب الغرب أن يدعوها.
وهذه المقاربة الجديدة لا تضع في أولويتها المواجهة المباشرة مع الغرب في مناطق نفوذه، ولا حتى في المنظمات الدولية. إنها تسعى ابداء إلى التعاون والتفاهم المشترك (وهو ما بات يبدو مستحيلاً منذ سنوات). كما تحرص روسيا الجديدة على تجنب منازعة الغرب على الأدوار التي يتنطع لها، ويجتهد في محاولة احتكارها. ليس إقراراً له بها، ولكن توخياً لعدم إهدار «الطاقة» في منازلة طرف يقاتل نفسه، ويتطوع لاستعداء ذاته. لذا، تذهب إلى تشجيعه على الانخراط أكثر فأكثر بمناطق الصراع التقليدية، ومن ثم مراقبة اندفاعاته المتتالية في هذا المضمار، انتظاراً للحظة فاصلة هنا، أو أخرى هناك.
وهنا، يمكن أن يتذكر المرء شيئاً من المأثورات السياسية، التي نُقلت عن الزعيم السوفيتي جوزيف ستالين، الذي تقول بعض المرويات أنه صاحب المقولة التي تؤكد: «لا يحسن بالإنسان مقاطعة عدوه، حينما يبدأ بارتكاب الأخطاء».
لقد نجحت الولايات المتحدة في إلغاء المسؤولية الدولية تجاه القضية الفلسطينية[1]، وحيّدت وأماتت «اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط»، أو ما يعرف بـ«الرباعية الدولية» أو «رباعية مدريد»، التي أنشئت في العاصمة الإسبانية عام 2002 من قبل الرئيس الوزراء الإسباني خوسيه ماريا أزنار حينما تصاعدت مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين.
وجاء جهد الولايات المتحدة في إلغاء المسؤولية الدولية تجاه القضية الفلسطينية وتحييد هذه اللجنة، ليوفر الأرضية المناسبة لصعود وتمكين اليميني المتطرف بنيامين نتنياهو، رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، وتحقيق الأهداف الاستراتيجية، التي تبناها. نتنياهو، نفسه، الذي أعلن العام الماضي بنبرة المنتصرين أنه نجح في وضع القضية الفلسطينية على الرف.
ويا للهول، ما أشبه إلغاء المسؤولية الدولية تجاه القضية الفلسطينية، وتحييد وإماتة «اللجنة الرباعية حول الشرق الأوسط»، بـ«وضع القضية الفلسطينية على الرف». إنه التطرف ذاته، بعماه السياسي نفسه! حسناً، هذا ما فعله الأمريكيون[2] باندفاع منقطع النظير، فليواجهوا سوء عاقبة ما فعلوا.
السابع من أكتوبر
لم تشارك روسيا في صنع هذه الأحداث، لا من الجهة الفلسطينية، ولا الإسرائيلية. ولكنها أفادت منها للغاية، بلا شك، وعلى أكثر من مستوى؛ لقد أثبت «السابع من أكتوبر» صحة الموقف الروسي الذي حذر من خطورة الانفراد الأمريكي بـ”الشرق الأوسط[3]” والقضية الفلسطينية، وأنه يقود إلى إعادة المنطقة إلى أتون التراشقات المتطرفة. وعبَّر مراراً عن استحالة إنهاء الصراع بدون حل يكفل للفلسطينيين دولة ذات سيادة على حدود العام السابع والستين، مع عاصمة في القدس الشرقية.
وفي ذات السياق، عارضت روسيا نظام القطبية الأحادية، وتغول الدور الأمريكي، ومغالاة الولايات المتحدة في السياسة والاقتصاد الدوليين بها. كما عارضت إفراط الولايات المتحدة في استخدام المؤسسات والمنظمات الأممية، على نحو متعسف، في الاعتداء على الدول الخارجة عن إرادتها، ومحاولة فرض سياساتها على أخرى، وتجاوز القانون الدولي.
وكان الرأي الروسي يشير دوماً إلى أن الولايات المتحدة تحاول حل أزماتها الداخلية وفي العالم، على حساب الدول والشعوب الأخرى، وأن هذا المسار سيقود حتماً إلى انحسار النفوذ الأمريكي، وتصدع أسباب هيمنة واشنطن العالمية وعوامل تماسك الولايات المتحدة الداخلي.
وجاء «السابع من أكتوبر» ليؤكد ذلك، ويكشف عن انحسار قدرة واشنطن في إدارة أزمة مكلفة، على المستوى السياسي والجيوستراتيجي، ولا يمكن تحمل استمرارها طويلاً؛ إذ هي تستهلك رصيد القوة الأمريكية، على وجه التحديد.
مكاسب روسية
لقد وضع «السابع من أكتوبر»، وما تبعه من حرب إسرائيلية همجية على قطاع غزة، روسيا في موقف أفضل على صعيد المنازلة الدولية، وكذلك على صعيد الحرب الأوكرانية؛ فقد نقلت هذه الأحداث جهد «الغرب الجماعي»، أو أغلبه على الأقل، إلى منطقة الشرق الأوسط، التي هي واحدة من مناطق الصراعات القديمة، التي اعتقد «الغرب الجماعي»، وعلى رأسه الولايات المتحدة، أنه انتهى منها، فاندفع باتجاه روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران، وبـ«السابع من أكتوبر» بدأت الجبهة الأوكرانية تجف.
من جانب آخر، جاء «السابع من أكتوبر»، وما تبعه من حرب إسرائيلية همجية على قطاع غزة، ليتموضعا على خارطة التفكير الاستراتيجي الروسي، بوصفهما ثاني حروب النظام الدولي الجديد، بعد الحرب في أوكرانيا. وهذا مع ميزة إضافية؛ والأمر هنا يتعلق في أن حرب أوكرانيا، وحروب النظام الدولي الجديد الأخرى المقترحة في تايوان وكوريا الشمالية، هي حروب دول كبرى تحاول صد التمدد الأمريكي في جوارها الحيوي، بينما هي في حالة «السابع من أكتوبر» هجوم مضاد يصيب في مقتل قلب النفوذ الأمريكي، المحروس بالبلطجة الإسرائيلية.
وفي ميزة إضافية أخرى، مستمدة من مظالم الشعب الفلسطيني التاريخية، أعطى «السابع من أكتوبر» جهود روسيا والصين في مواجهة «الغرب الجماعي»، وسعيهما نحو إرساء نظام دولي جديد، طابعاً أخلاقياً، يتناغم مع مظالم دول وشعوب العالم الحرة. ما عزز على نحو واضح التوجه العالمي نحو القبول بـ«بريكس»، والطموح إلى التحرر من مخاطر العلاقات الاقتصادية الرأسمالية. ربما ينسى الناس، أن العلاقات الاقتصادية الرأسمالية أضحت خطرة للغاية كالعلاقات المافياوية.
ولا بد أن المراقبين يلحظون، بعين الانتباه، ردة فعل جنوب أفريقيا والبرازيل وكولومبيا وتشيلي والمكسيك، وغيرها من دول العالم المحكوم عليها بالعيش في البرزخ القاتل بين العالمين الأول والثالث، في نظام يفرض الفوارق الحادة، ولا يقبل التدرج، وينبذ الاستقلالية الشخصية والخاصة، ويبيد الطبقة الوسطى إبادة جماعية.
تحولات الصراع
لقد كانت روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران هي الجبهات الجديدة للحروب التي يخطط لها النظام الدولي (الغربي) الحالي، الذي أقنع نفسه بأنه انتهى من مناطق الصراع التقليدية، وحسم مساراتها، وسيطر على تفاعلاتها. غير أنه بوغت بالحرب في أوكرانيا، التي أعطت أقوى الإشارات على قدرة الأطراف المستهدفة بخوض حروب استباقية.
ترافق ذلك مع سيطرة روسية على جغرافيا الحرب، وقدرة على منع تمددها عسكرياً إلى مناطق أخرى، مع الحفاظ على خوضها في أوروبا وبلدان «الغرب الجماعي» بالأدوات الاقتصادية حصراً. ناهيك عن تحييد الأثر الاقتصادي ومنعه من التأثير على بلدان صديقة لموسكو، وتجنب تأثر بلدان العالم الثالث بها. وكان من جملة أثر ذلك الانقلابات الأفريقية، العسكرية والسياسية، التي مالت إلى موسكو وبكين، وحادت عن «الغرب الجماعي».
في هذا السياق، ظهر «السابع من أكتوبر» ليعيد التذكير بمناطق الصراع التقليدية، وينهي الأوهام الغربية والأمريكية بزوالها وأفولها تاريخياً.
شكل الحرب
لقد تميزت الحرب في أوكرانيا بأنها ليست حرب انتصارات عسكرية، ولكنها حرب استنزاف لـ«الغرب الجماعي»، وعلى رأسه الولايات المتحدة، على المستويات كافة، الاقتصادية الاجتماعية والسياسية والأخلاقية. والأهم، أنها كشفت حدود القوة والهيمنة الأمريكيتين[4].
وهنا، تجدر ملاحظة أن حرب غزة، تسير على هذا النحو. أي، استنزاف القوة الإسرائيلية[5]، ومن ورائها نفوذ «الغرب الجماعي[6]»، وأنها كشف حدود قوته وهيمنته[7].
وفي الحقيقة، لن يختلف الأمر كثيراً إن اتجهت الأنظار نحو الصين وكوريا الشمالية، حيث يمكن ملاحظة أن التوتر في هذه المناطق، يأخذ هذا الطابع الاستنزافي، الذي يرهق القوة والسياسة الأمريكية. كما يمكن القول إن هذا ما سيكون عليه الحال إن تطور الاحتكاك الغربي مع إيران إلى حرب.
وبهذا، يمكن القول ببساطة إن هذا هو طابع حروب النظام الدولي الجديد. إنها حروب استنزافية، تسير وفق معادلة: «لا تقاطعه، دعه يقوم بمزيد من الخطوات الخاطئة».
لقد أظهرت حرب غزة، بأقوى مما فعلت حرب أوكرانيا، أن ردة فعل «الغرب الجماعي» على أي خطوة، من أي اتجاه، نحو نظام دولي جديد، ستكون عدوانية، لا تقيم اعتباراً لشيء سوى منع سقوط هيمنته، التي يمثلها النظام الدولي (الغربي) القائم. وهو على استعداد في سبيل ذلك لدفع العالم إلى حرب كونية ثالثة، حتى لو عنى ذلك انتهاء الحياة على الأرض.
وفي مثل هذا الواقع لا يبقى هناك إلا هذا النوع من الحروب، التي تستنزف الوحش العالمي، دون أن تطلقه من عنانه!
وعليه، فإن اجتهاد السياسة الروسية في تتجنب الانخراط في هذه الأحداث، التي تشهدها منطقتنا، ليس موقفاً روسياً على وجه التخصيص، بل هو تكيتيك متبع في خضم الحروب العالمية غير المعهودة، من أجل نظام دولي جديد، وتحييد الوحش الأمريكي، الذي يصدف أنه مجرد دولة إمبراطورية، مجهزة اقتصادياً وعسكرياً وثقافياً.
محاكم وقانون
هنا، في هذا السياق، تبرز خطوة جمهورية جنوب أفريقيا باللجوء إلى محكمة العدل الدولية، وانضمام دول أخرى إليها، ولجوء دول ثالثة إلى محكمة الجنايات الدولية.
وهذه، بالطبع، خطوات يمكن فهمها في سياقات مختلفة، منها الالتزام الأخلاقي الإنساني. ولكنه ليس كل شيء؛ ففي هذا الواقع، الذي يتم فيه اعتبار الانحياز للضحية عدواناً، يصبح من الضروري تبريد الصراع، عبر اقتياد أطرافه إلى أدوات وساحات أخرى.
ومن جانب آخر، فإن هذه الخطوات تفيد بأن غالبية دول العالم تدفع، كل بطريقتها، إلى الاسهام بإرساء أسس لنظام دولي جديد. ويلفت الانتباه إن هذه الدول، بخطواتها هذه، تصر على طابع قانوني لمثل هذا النظام الجديد، وان لا تكون قيادته حكراً على دول قوية عسكرياً، أو مهيمنة اقتصادياً.
وفي الخلاصة، فإن الحرب في غزة، رغم ما تتصف به من فداحة، كما الحرب في أوكرانيا، تنقلنا من نظام غربي استغلالي، متطرف ومتزمت وعدواني، يستنزف البشرية، إلى عالم حرّ يهشم «النظام الغربي»، وينهشه في جسده، ويرغمه على الركوع والإنحناء لحركة التاريخ الحتمية، التي تنهي خمسمائة عام من هيمنة «الغرب الجماعي».
وهنا، يلتقي الصيني والروسي والعربي والأفريقي والجنوب أمريكي، وشعوب العالم المضطهدة، حتى في بلدان «الغرب الجماعي» نفسه، أول من استثمر في غائيات السياسة فكرة «الحلم» و«حقوق الإنسان».
وبهذا، فإن الحديث عن غزة وروسيا يجري عن تسعين بالمائة من آمال أبناء البشرية المظلومين، ممن أعجبهم «طوفان الأقصى»، ومن أدانوه، على حد سواء!
—————————————-
هوامش:
[1] لافروف: الولايات المتحدة تحاول استبعاد روسيا من جهود حل قضية الشرق الأوسط. (بالروسية) https://bit.ly/4dyFKQ3
[2] لافروف: سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط قادت مرة أخرى إلى مأساة. (بالروسية). https://bit.ly/3JWO7Hp
[3] لافروف: الولايات المتحدة «تدفع» الشرق الأوسط برمته إلى كارثة. (بالروسية) https://bit.ly/3QJvCKp
[4] جيفري ساكس: الهيمنة الأمريكية في العالم انتهت. روسيا اليوم، 22 نوفمبر 2023
[5] إسرائيل في “مأزق استراتيجي” بسبب حرب غزة. صحيفة “هآرتس”: https://bbc.in/3UWBZN7
[6] صحف عالمية: إسرائيل غارقة بحرب استنزاف بغزة وشعبية حماس تتزايد. https://bit.ly/3UGdKS5
[7] محلل إسرائيلي: نعيش في “مأزق استراتيجي” بسبب غزة ويمكننا الدخول في “حرب استنزاف”. سبوتنيك، 31 ديسمبر/كانون الأول 2023 https://bit.ly/4ahCC88
*ياسر قبيلات كاتب وصحافي أردني خبير بالشؤون الروسية. صدر له كتاب “ألغاز بوتين: قصة حياة وسيرة مهنة”. له عدد من الأعمال الأدبية منها: “خلاف عائلي”، “حانة الحي القريبة” و”كتابك الذي بيميني”.