محمد فاضل العبيدلي*
كان انحياز صناعة الصحافة والاعلام الغربي للسردية الصهيونية وتأييدها علناً؛ أمراً معروفاً للجمهور العربي منذ عقود طويلة، لكن الجديد الذي كشفته حرب إبادة غزة هو أن هذه المؤسسات سقطت سقوطاً مدوياً امام جمهورها نفسه، وأصبحت في مرمى نيران انتقادات قوية من الجمهور الأميركي والغربي عموماً الذي ُصدم بعماها المهني والأخلاقي الذي كشفه أداؤها المنحاز تماماً لإسرائيل منذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
بفضل تقنيات التواصل الاجتماعي في الفضاء الالكتروني، تمكن الملايين في الدول الغربية والعالم من متابعة حرب إبادة حقيقية تشنها اسرائيل ضد غزة. لقد ظهرت الحقيقة جلية واكتشف الجمهور الغربي في أوج صدمته، ما كان يتم اخفاؤها عمداً عنه طيلة عقود: غالب وسائل إعلامه الكبرى تغض الطرف عن كل الفظاعات والمجازر بحق المدنيين الفلسطينيين وتقدم روايات تبرر لإسرائيل ارتكاب هذه المجازر. فعلى سبيل المثال، وبعد مجزرة المستشفى المعمداني؛ كررت شبكة “سي. ان. ان” الامريكية القول ان الجيش الإسرائيلي أنذر طاقم المستشفى بإخلائه أكثر من مرة. لكن محاولة التبرير هذه ليست سوى زلة تؤكد -من غير ان يدري قائلها- ان الإسرائيليين هم من قصف المستشفى.
لقد أظهرت مؤسسات الاعلام الغربي وجهاً وجوهراً فاشياً خفياً عندما لجأت الى تراث المكارثية في مواجهة الانتقادات المتزايدة لها من الأمريكيين والأوروبيين الذين اكتشفوا بعد عقود انهم كانوا ضحايا غسيل دماغ مارسته هذه المؤسسات فيما يخص حرب إبادة مستمرة منذ 75 عاماً ضد الشعب الفلسطيني، فراحوا يجاهرون على نطاق متزايد باتهامها بالانحياز الأعمى للرواية الصهيونية وحجب الحقائق وتزييفها بل والإسهام في بث الأكاذيب واختلاق الحوادث بشكل فاضح لا يمكن تبريره. ما الذي جرى ودفع هذه المؤسسات لهذا السقوط المهني المدوي والفاضح؟
عدا افلاس منطق الاحتلال، فإن التقدم العلمي الهائل في تقنيات الإعلام والاتصال وانتشار الذكاء الاصطناعي وجيل جديد في مجتمعات الغرب والعالم بأسره (الجيل Z)، مكن الملايين عبر العالم من نبش الركام عن تاريخ الصراع العربي – الصهيوني ليعيد صياغة روايته الخاصة بعيداً عن الرواية الصهيونية وأكاذيبها التي ظلت هذه المؤسسات الإعلامية ترددها طيلة أكثر من 75 عاماً. لقد أصبح الكثيرون يتحدون على نحو متزايد رواية الصحف وشبكات التلفزة المنحازة لإسرائيل وتعتميها المتعمد على حرب إبادة يشاهدها ويتابعها العالم عبر إعلام بديل تجاوز انحياز هذه المؤسسات الصحافية والتلفزية ومنطقها المفلس في الدفاع عن احتلال بغيض يقف على الضد من كل القيم الإنسانية.
يذكرنا هذا الاعلام البديل بالساحر الذي اطلق تعاويذه وفقد السيطرة عليها. فكذبة “رؤوس الأطفال المقطوعة”، كشفها تحقيق أجراه موقع “ذا غراي زون – The Gray Zone” الأميركي المستقل؛ أما كذبة بنيامين نتنياهو حول الصور التي نشرها على حسابه في “منصة X” التي ادعى انها “لأطفال قتلوا وأحرقوا”، فقد فضحها الصحافي الأمريكي المستقل جاكسون هنيكل باستخدام الذكاء الاصطناعي حيث كشف انها صور تم تزييفها لكلب في عيادة بيطرية وهو ما دفع المتحدثين باسم الرئيس الأمريكي للتراجع عن هذه الأكاذيب.
لم يتوقف الأمر على تبني الأكاذيب وترويجها (بما ينعش الذاكرة بمجتمع رواية 1984)، بل ان هذه المؤسسات الصحافية والإعلامية راحت تمارس المكارثية بشكل فج ضد أي صوت يخالف الاكاذيب التي تنتجها ماكينة دعاية نتنياهو والصهاينة الى حد لم يعد فيه التبرير ممكناً، فلم يبق أمام أصحاب الضمائر الحية من صحافييها والعاملين فيها سوى تقديم الاستقالات احتجاجاً على الانحياز السافر وغير المبرر مهنياً وأخلاقياً لمؤسسات ظل يُنظر اليها طويلا على انها مثال للمهنية العالية والموضوعية.
وقوف المؤسسات الإعلامية الغربية الأعمى مع إسرائيل والسردية الصهيونية وحجبها للحقائق وتزييفها واختلاق الأكاذيب، هو سقوط مخزٍ في أوحال المكارثية حوّلها لمجرد ماكينات دعائية لا قيم لها ولا مهنية ولا مبادئ.
أسوأ ما في هذا السقوط هو انه يكشف عن ضحالة فكرية لا متناهية لدى هذه المؤسسات المنحازة التي أشتهر بعضها بالبحث الدقيق والتوثيق والقدرة على نبش التاريخ مثل “بي بي سي” البريطانية، عندما تتحول الى مجرد مكبرات صوت بترديد تهمة “العداء للسامية” على ألسن المذيعين ومقدمي البرامج الحوارية والصحافيين فيها وهم يرمونها بحق مناصري فلسطين. انه الاستعراض المبتذل لأكبر أنوع الجهل الذي يمكن ان يقع فيه مثقف أوروبي وامريكي، لا يرى ان قطاعاً غير قليل (ان لم يكن الغالبية) من اليهود يقف ضد إسرائيل نفسها وضد الصهيونية، وان العمى الأخلاقي لا يجعلهم قادرين على رؤية الفارق الجلي بين الصهيونية باعتبارها تياراً سياسياً استعمارياً وعنصرياً وبين اليهودية بإعتبارها ديانة.
ان الأسوأ من الاحتلال والقتل والابادة هو من يغطي على الاحتلال والقتل والإبادة بل ويحاول تبريرها مثلما اظهرته حرب إبادة غزة. لقد سقطت غالب المؤسسات الإعلامية الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا سقوطاً مدوياً مهنياً وأخلاقياً لن تستعيد معه أية مصداقية لسنوات طويلة قادمة.
*المحرر