البوم “العودة”: روح البحرين بأجمل موسيقى أصيلة وروح عالمية Previous item التحوير العظيم: مكان خاص... Next item من جحيم غزة: انا خائفة...

البوم “العودة”: روح البحرين بأجمل موسيقى أصيلة وروح عالمية

قراءة في تجربة المايسترو وحيد الخان الموسيقية عشية حفل روسيا في 27 الجاري

 

 

*محمد فاضل العبيدلي

يستعد المايسترو وحيد الخان لتقديم حفل موسيقي في مدينة سوتشي في جمهورية روسيا الاتحادية في 27 أغسطس/آب الجاري بدعوة من اتحاد الموسيقيين الروس، سيقدم خلالها مقطوعات ألبومه الجديد “العودة للحياة” الذي دشنه حديثاً.

قد تكون المناسبة فرصة لتسليط الضوء على تجربة المايسترو الخان الموسيقية منذ عودته للتأليف الموسيقى مع إطلاق البومه السابق “العودة – روح البحرين” في العام 2018؛ والتعريف بتجربة هذا الملحن البحريني الذي أثرى ذائقتنا بموسيقى متفردة في جمالياتها ضمن أعمال ستبقى اعمالاً كلاسيكية في تاريخ الموسيقى البحرينية والعربية والعالمية.

لقد شكل البوم “العودة – روح البحرين” مفاجأة مذهلة بأكثر من مقياس، ولقد كنت محظوظاً بحضور حفل تدشينه في صيف 2018 في قاعة مركز كوداي في مدينة بيج بهنغاريا. وحتى يومنا هذا مازلت أستعيد مقطوعات الالبوم واسمعها بنفس احاسيس الدهشة الأولى والاستمتاع التي تثيرها فيَّ وقدرتها المتجددة على اثارة الخيال ودفعه للحظات سحرية امام الصور التي ترسمها مقطوعات الالبوم في الذهن.

ينتمي البوم “العودة- روح البحرين” الى ما يطلق عليه “موسيقى العالم”، الموسيقى التي تتميز بخصوصية محلية لكنها تسمع في أي مكان في العالم ويتم تقبلها بنفس الحماس والشغف في بلدها ولعل هذا ما اظهره الاستقبال الاستثنائي الذي قوبلت به لدى تدشينها في حفل مركز كوداي في هنغاريا. يمثل استعراض البوم “العودة – روح البحرين” المحطة الأولى في تسليط المزيد من الأضواء على تجربة المايسترو وحيد الخان التي ستعقبها محطة للحديث عن ألبومه الجديد “العودة للحياة” الذي سيقدمه في حفل روسيا بعد أيام.

فيما يلي استعراض لمقطوعات الالبوم العشرة، قبل ان نعرج الى استقراءها وتحليها:

محبوبتي المحرق: بعد استهلال يحفز الحواس بالإيقاع وآلات النفخ، ينساب ذلك اللحن الجميل الآتي من أعماق ذاكرة أجيال من البحرينيين. تتحفز حواسنا عندما نبدأ بترديد اللحن ونحن نستعيده: “على الويل ويلاه يا السمسمة يعني لما“. تتحفز الحواس أكثر مع جملة النبر (نبر الوتر دون قوس) التي تهيئنا لأكثر الالحان رقة وعذوبة مع آلة الأوبوا والوتريات. توالي الوتريات امتاعنا بأكثر الالحان رقة قبل نقلة جديدة مع الأبوا وهي تعيد اللحن الشعبي (السمسمة) مع ظلال خلفية جميلة. نقلة جديدة وحوار رقيق وسلس بين الآلات صعوداً نحو القفلة بنغمات النبر على أوتار الكمان. هذه المقطوعة جميلة ومدهشة في رقتها وسلاسة نقلاتها وعذوبة الحانها. هكذا يستعيد المؤلف مدينته ومسقط رأسه بأكثر أغنياتها رقة وشهرة ورسوخاً في ذاكرة أبنائها ليصنع منها لحنا مبتكراً وجميلاً منساباً بعذوبة.

لحننا: يمضي بنا المايسترو الخان أكثر موغلا بنا في رحلة الذاكرة مع المقطوعة الثانية في الالبوم؛ “لحننا“. تبدأ المقطوعة باستهلال رقيق من آلة الابوا، تليه الجملة الأساسية في لحن مستعاد من أقاصي الذاكرة يجعلنا نتراقص بجرعة من حيوية يبثها فينا وهو يستهل به المقطوعة. لحن اهزوجة من أهازيج العاب البنات الصغيرات “قوم يا شويب”. تدخل الآلات في حوار يحاكي لحن حوار اللعبة الاصلية بألحان مرهفة تنساب بسلاسة قبل ان يعود لنقلة أخرى مع الأبوا التي تستعيد ثيمة اللحن الأصلي مع الوتريات في اكثر أجزاء المقطوعة عذوبة ورقة وصولاً الى دخول البيانو والتشيلو والعود في مسار لحني رقيق ومرهف. سيفاجئنا المايسترو الخان بنقلةٍ الى جزء ثالث من المقطوعة يمثل ذروة جميلة مهد لها بتكرار لحن الثيمة الأصلية بأكثر من آلة. هذا الجزء الجديد مذهل في عذوبته خصوصاً جملة القانون التي تبدو وكأنها تستكشف شعوراً عميقاً غامضاً بالحب الممزوج بالحنين الذي تثيره الذاكرة. تعيد الأوركسترا جملة القانون بعذوبة وسلاسة فائقة؛ جمال هذا الجزء من المقطوعة لا يوصف.

الشجرة: عذوبة هذه المقطوعة ورقتها وسلاستها تحمل جرعة خفية من الحزن لفرط رقتها. الحانها وجملها رهيفة تستكشف وتخاطب حواسنا وذاكرتنا وتدفعها نحو التأمل. حسب المايسترو الخان؛ فهي عن نخلة في البيت كان يحبها ويتعلق بها طفلاً صغيراً رآها في الكبر وهي مقطوعة ومقتلعة. لعل السر يكمن هنا. فالتعبير عن حبه للنخلة المختلط بحزنه عليها دفعه لتأليف قطعة غاية في العذوبة دون أي صخب من ايقاعات أوركسترا او ايقاعات شعبية؛ على هذا النحو جاءت موسيقى هذه المقطوعة للوتريات في المقام الأول. من أكثر مقطوعات الألبوم رقة ورهافة، عندما تسمعها يحيلك الخيال الى صور بانورامية لبحر ممتد وسواحل وسفن وبشر. ستتخيل حتما صورة لحوش بيت بحريني في عصر يوم خريفي بارد والريح تداعب نخيل الحوش واشجاره. في أكثر مقاطعها تدفع هذه الموسيقى خيالنا الى حدوده القصوى. جمالياتها الكامنة تدفعني للقول انها موسيقى تستثير خيالنا وتدفعه لرسم مشاهد ولقطات لفيلم سينمائي كلاسيكي ستكون هذه الموسيقى أحد عوامل تميزه. جمل الوتريات في هذه المقطوعة رقيقة وسلاستها تثير فينا مشاعر مختلطة وحزناً شفيفاً وتدفعنا للتأمل في جوهر ومعنى الحب وهي تحكي وتصفُ حب طفلٍ صغير لنخلة.

إنهض: دخول عال للإيقاع والاوركسترا يبدو منسجماً مع حكاية المقطوعة التي يقول المؤلف انها موجهة للشباب العربي في ظل الأوضاع الصعبة التي تعيشها دول عدة وما تفرضه من تحديات امام الشباب. الاستهلال العالي يبدو مثل ناقوس. تتخذ الالحان بعدها طابعاً أكثر هدوءاً تتحاور فيه الآلات بسلاسة. هذا الجزء يوحي بجمله ونقلاته بما يشبه حواراً وأسئلة واجوبة تنبض قليلاً بجرعة قلق. تتعاقب النقلات بفواصل ايقاعية قبل ان نصل الى قفلة ناعمة بصوت الأوبوا. 

العودة: استهلال ناعم ورقيق بالكمان تعقبه ايقاعات “المخولفي” الشعبية. تبدو الجملة مثل البشارة لما سيليها، حيث تبدأ الوتريات في مسار لحني هادئ وسلس مثل بداية سرد لحكاية جميلة. حسب المايسترو الخان فان المقطوعة تستلهم عودة الشيخ عيسى بن علي آل خليفة حاكم البحرين الأسبق الى البحرين. تتداخل في هذه المقطوعة أنماط ايقاعية عديدة بدءاً من المخولفي ثم “الدول” و”الشكشكة” التي تتناغم بشكل سلس مع الجمل المكتوبة للوتريات وآلات النفخ في الأوركسترا.   

الولاء: تبدأ هذه القطعة باستهلال يبدو مثل إحساس الدهشة ثم تنتقل الى جمل تحيلنا لأحاسيس مشاهدة موكب نصر يمر وسط حشود من الناس. حسب المؤلف، فقد كتب المقطوعة مستلهماً المشاهد الاستثنائية لاستقبال أهالي سترة وأهالي المحرق لجلالة الملك في العام 2001. تتنوع الحان المقطوعة ما بين المقامات وايقاعات الشكشكة بتناغم وسلاسة لافتة وهي تصيغ حواراً جميلا وسلساً بين الآلات صعودا نحو القفلة. 

الدانة: هذه المقطوعة، هي الأكثر تنوعاً في المقامات وواحدة من اجمل مقطوعات الالبوم. استخدام المؤلف وزاوج فيها بين خمس اهازيج شعبية (مباركين عرس الاثنين/ الخطفة/ يا نوخذاهم لا تصلب عليهم/ توب توب يا بحر/ ييبهم ييبهم)؛ لكي يحكي عن قصة حب يذهب فيها العريس الى موسم الغوص ثاني يوم زواجه؛ فتتذكره محبوبته بأهزوجه “يا نوخذاهم لا تصلب عليهم”. هذا المزيج من المقامات والمرور على خمس اهازيج شعبية؛ اضفى على المقطوعة حيوية عالية تجعل حواس المستمع متحفزة منذ جملتها الأولى وحتى نهايتها. 

البوشية: كتبت هذه المقطوعة على شكل تنويعات على لحن شعبي (نوع من التأليف الموسيقي) وهي سامرية خليجية معروفة باسم “البوشية”. كتبت للمرة الأولى عام 1985 وتم إدخال تغييرات عليها عام 2017 “لتصبح أكثر ثراء” حسب المايسترو الخان. كل من استمع لهذه المقطوعة منذ ظهورها الأول وقع في غرامها بشدة. مقطوعة جميلة ومرهفة للغاية. شملت التغييرات في النسخة الأحدث حذف جمل للبيانو وزيادة مساحة جمل آلة القانون مما اضفى على اللحن الذي امتزجت فيه أربعة مقامات، جرعة رهافة إضافية. بعد جملة افتتاحية مرهفة للتشيلو، لعبت الوتريات الدور الأهم. رهافة اللحن تجعل الدمع يطفر من العين أحيانا لفرط جمال جرعة الشجن فيها. من المؤكد أنك ستعيد الاستماع لها مرة وأخرى قبل الانتقال للقطعة التي تليها.

أسرار: هذه القطعة تحدٍ ذكي وبارع وجميل من المايسترو الخان أثمر واحدة من أجمل قطع الالبوم. يعتمد هذا المؤلف على الآلات الوترية التي تعزف بطريقة  النبر طوال المقطوعة (Pizz ) وتحاكي إيقاع “الدزة” البحريني وهي تصور لنا طفلا يسير على اطراف أصابعه هربا من اخته في لعبة بينهما حسب حكاية القطعة. جميلة وسلسة هذه القطعة مع تناوب جمل النبر على الوتريات وجمل آلات النفخ. مثل باقي قطع الألبوم، كتبت القطعة على عدة مقامات وتعددت فيها المسارات اللحنية وهو ما اضفى عليها حيوية تنسجم مع حكايتها. 

يا من هواه: القصيدة الشهيرة التي غناها العديد من الفنانين العرب، لكن المايسترو الخان يقدمها هنا بلحن جديد وشكل جديد بغناء ثنائي في محاكاة بين رجل يشكو حاله لحبيبتة ويتبادلان العتب. كتب الخان بعض كلمات هذه الاغنية وهي القطعة الوحيدة المغناة في الالبوم. يقول الخان عن دوافع تلحينه لهذه القصيدة الشهيرة “تم تلحين هذه القصيدة من قبل العديد من الملحنين، الا انه ومن وجهة نظري لم يتم فيها محاكاة وترجمة معاني الكلمات بالموسيقى في تلك الألحان، لذلك قمت بوضع لحن مناسب للقصيدة ومعانيها وبأسلوب الغناء الثنائي”. تم تلحين الاغنية على إيقاع الصوت الشامي البحريني. يبدو حوار الحبيبين في الاغنية جميلاً ومرهفاً ومعبراً فعلاً عن روح القصيدة العائدة للإمام سعيد بن احمد بن سعيد البوسعيدي.

 

موسيقى أصيلة بأفق عالمي

بالنسبة لموسيقى مكتوبة على مقامات غربية للأوركسترا، فأن اول ما يلفتنا هو الانسجام العالي والسلس (harmony) بين الأوركسترا والايقاعات الشعبية البحرينية في المقطوعات التي استخدم فيها المؤلف ايقاعات او اهازيج شعبية. السلاسة الفائقة في موسيقى الالبوم هي ابرز ما يميزه إضافة الى تعدد المسارات اللحنية لغالب مقطوعاته وهو ما اضفى عليها ثراء وقيمة عالية رغم قصر مداها الزمني.

ان الالحان مبتكرة وأصيلة ومكتوبة بذكاء وبعناية دون تكلف، وكل جملة موسيقية تجعلك تترقب الانتقال للجملة التي تليها. أما النقلات فقد تميزت بالسلاسة والبعد عن الافتعال او الدخول المفاجئ. تكتسب الملاحظة الأخيرة أهميتها بالنظر الى ان غالب مقطوعات الالبوم تميزت بتعدد المسارات اللحنية فيها وهو ما يجعل سلاسة النقلات امراً اساسياً. فغالب المقطوعات تبدأ بمسار لحني قبل ان تنعطف في المنتصف تقريبا الى مسار آخر تماماً لكن بنقلة سلسلة. قد تكون المقطوعة الثانية في الالبوم “لحننا” هي أكثر ما يظهر هذه الملاحظة. ففي الثلث الأخير من المقطوعة، وبعد جملة مكررة للثيمة الأساسية لأهزوجة “قوم يا شويب“، تأخدنا آلة القانون الى مسارٍ لحنيٍ جديد بجملة موسيقية رقيقة ومرهفة قبل ان تعيد الأوركسترا اللحن من جديد في واحد من أعذب واجمل أجزاء المقطوعة قبل القفلة.

على الرغم من تعدد الأذواق بين الناس حيال الموسيقى، إلا التجربة اثبتت ان الحكم بامتياز موسيقى معينة وتفوقها يعود أولا لتأثيرها المباشر في المستمع لحظة سماعها. اي ترديد اللحن على السنتنا. اما تكرار الاستماع لها من وقت لآخر فهو علامة تفوق اخري تدل على ان هذه الموسيقى تمتلك قابلية للتجدد على مر الزمن. هذه عناصر اجتمعت في موسيقى البوم “العودة – روح البحرين”، أي انك تستمع لها وقد تضعها جانبا، لكنك حتماً ستعود اليها من جديد، مرة تلو الأخرى لأنها ليست عابرة بل عمل كلاسيكي يملك عناصر التجدد والخلود.

يمكن النظر بشكل او بآخر الى هذا الألبوم باعتباره “عودة” كبرى للمايسترو الخان الى الموسيقى التي انقطع عنها لسنوات، لكن المؤكد هو ان الالبوم يمثل روح البحرين حقاً. فمن اقصى مكان في ذاكرتنا الجماعية، اقتطف المايسترو وحيد الخان أكثر الالحان حميمية من موروثنا الشعبي ليؤلف واحدة من أكثر موسيقانا أصالة وابتكاراً وبروح عالمية أوسع مدى.

لن نجد أكثر من موسيقى هذا الالبوم المتفرد لكي تعبر عن روح البحرين التي ستحلق في أجواء روسيا قريباً لتخاطب العالم بأجمل وأسمى لغة عرفها البشر.