*محمد الصياد
لازالت أوساط الأوليغارشيا العالمية، ومنها أوساط تجمع دافوس السنوي، وخبراؤها الذين تتم الاستعانة بهم في وضع تصاميم إعادة الهندسة المجتمعية بوحي من الداروينية الاجتماعية
“Social Darwinism” – لازالوا يشتغلون بمقاربة تحقيق التطور عن طريق تطبيق نظرية الاصطفاء الطبيعي الداروينية على حقل علم الاجتماع، كما فعل الداروينيون الاجتماعيون مثل الفيلسوف البريطاني هربرت سبنسر (Herbert Spencer, 1820-1903)، صاحب مقولة “البقاء للأصلح”
الشهيرة (وليس تشارلز داروين كما أشيع)؛ وذلك في مؤلفه الموسوم “مبادئ علم الأحياء” الذي كتبه عام 1864 بعد قراءته لكتاب تشارلز داروين عن أصل الأنواع في عام 1859. لقد رأى سبنسر أن التطور الذي وصّفه داروين في كتابه، ينسحب على مجالات علم الاجتماع والأخلاق. قبله كان الاقتصادي الديموغرافي الإنجليزي توماس مالتوس (Thomas Robert Malthus, 1766-1834)، الذي أسس نظرية علم النسل، قد برر الاصطفاء الاجتماعي بتزايد أعداد السكان على شكل متوالية هندسية (2، 4، 8، 16، 32، الخ…)، مقابل ازدياد انتاج الغذاء على شكل متوالية حسابية (2، 4، 6، 8 الخ…).
لقد ترجمت النخب الرأسمالية الغربية الحاكمة أفكار سبنسر ومالتوس، وأنزلتها على الاقتصاد، وتحديداً على تطبيقاتها الرأسمالية، في طوريها الكلاسيكي الآدم سميثي أولاً، والنيوليبرالي المتوحش تاليا. فتخلّف بعض المجتمعات البشرية وتمكن أخرى من التطور، مرده قدرة الأولى على التكيف والتطور اقتصاديا وعلميا وفشل الأخرى في ذلك، وهو ما يبرر – كما نظّر لها سبنسر، إباحة استغلال واستعباد الأولى للثانية، باعتبار ذلك جزءاً لا يتجزأ من قانون الاصطفاء الطبيعي الذي لا راد له. الأمر نفسه تم انزاله على ميل الرأسمالية في طوريها الكلاسيكي والنيوليبرالي، للاحتكار والقضاء على المنافسين في السوق. فاليد الخفية “Invisible hand” التي تحدث عنها آدم سميث في مؤلفه “ثروة الأمم“، هي الترجمة الحقيقية لقانون الانتخاب الطبيعي، فلا عزاء للشركات وقطاعات وأنشطة الأعمال الصغيرة والمتوسطة، إذا ما كنستها حيتان السوق من الشركات الكبرى المتغولة برساميلها، لا في السوق وحسب، وإنما داخل مؤسسات الحكم والدولة. فتغدو مخيّرة بين الخروج من السوق وبين التحول لخدمة حيتان السوق.
ويبدو أن هذه المنظومة الفكرية/التنفيذية الغربية، بصدد استثمار تجربة “الاغلاقات الجماعية”فهناك نية، على ما يبدو، لتطبيق ما يسمى “الاغلاق المناخي”. وقد طُرحت مثل هذه الأفكار وتم تداولها بالتفصيل في مناقشات منتدى دافوس، بما في ذلك ما تسمى بمدن الخمس عشرة دقيقة، حيث يتم وضع الناس، عمليا، قيد الاغلاق في منطقة صغيرة لا يستطيعون استخدام سياراتهم للتوجه منها الى مناطق أخرى الا عن طريق شراء ترخيص من سلطة المنطقة، مع تثبيت كاميرات مراقبة على مدار الساعة ترصد حركة الناس. هذا ما أشاعه نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي في بريطانيا على سبيل المثال، حيث زعموا بأن مقاطعة أوكسفوردشاير التي تضم مدينة أكسفورد، سوف تفرض “اغلاقاً مناخياً”، سيتسبب في محاصرة السكان في أحيائهم. وبحسب هؤلاء النشطاء، سوف يتعين على أصحاب المركبات شراء تصاريح للتنقل بين منطقتهم والمناطق الأخرى. ومن يشتري مثل هذا الترخيص، سوف يُسمح له بـالعبور 100 مرة بين المناطق سنوياً.
مقاطعة أوكسفوردشاير، سارعت “لتوضيح” هذا الأمر، نافية أن تكون الخطة تتعلق باغلاق مناخي، بقدر ما تتعلق بما أسمته “وضع مرشحات (فلاتر) لحركة المرور”على بعض الطرق الرئيسية للحد من وصول السائقين خلال ساعات النهار وتوفير مساحة للحافلات وراكبي الدراجات والمشاة. مع إمكانية تقدم مالكي السيارات بطلب للحصول على تصاريح لمدة يوم واحد لتجاوز القواعد الجديدة، وبقاء الوصول الى جميع أنحاء المقاطعة بالسيارة، متاحاً[1]. وكما تلاحظون، فإن “تفسير” سلطات المقاطعة، يفسر نفسه بنفسه.
المفارقة أن مسارعة السلطات في المقاطعة البريطانية لعرض توضيحاتها، لم تبدد الشكوك بشأن النوايا المبيتة التي يبني عليها أنصار فريق التشكيك في نوايا النخب الغربية الحاكمة، آراءهم ومرئياتهم، أو “نظريات المؤامرة”، كما تصفها وسائط الميديا الموالية، المعبرة عن مصالح تلك النخب. فهي قالت بالحرف: “إن فلاتر حركة المرور عبارة عن كاميرات للتعرف على لوحات الترخيص وليست حواجز مادية؛ وإنه من الساعة السابعة صباحا حتى السابعة مساءً، سيتم تغريم السائقين في السيارات الخاصة تلقائيا إذا مروا عبر المرشحات دون تصريح؛ بينما سيتمكن سائقو السيارات الذين يعيشون في أكسفورد من التقدم بطلب للحصول على تصريح سنوي مدته مائة يوم للقيادة عبر المرشحات سنويا. وأما بشأن ما يشاع على شبكات التواصل الاجتماعي عن “نادي المدينة لمدة 15 دقيقة”، فهو “لا يعدو أن يكون إطاراً تخطيطيا حضرياً يهدف لتمكين سكان المدينة من الوصول إلى الخدمات الأساسية في غضون 15 دقيقة سيراً على الأقدام أو ركوب الدراجة من منازلهم. والمسؤولون في مدينة أكسفورد أوصوا بتحقيق أهداف هذا المشروع“.
هذه التوضيحات البائسة، هي، كما ترون، قواعد حجر مخففة، أو لنقل تتراوح بين الشدة والخفة، وقد ترقى الى الاغلاق المناخي الذي سيتم بموجبه وضع الكتلة البشرية تحت المراقبة؛ وإنه يجري بالفعل التخطيط لتطبيق هذه التدابير في أوروبا المهووسة بمسحور قضية تغير المناخ، تماما كما اللوثة التي أصابت نخبها الحاكمة هذه الأيام، فزعةً ونصرةً للدفاع عن حقوق المثلية الجنسية. وهذا ما يفسر، ربما، تضاعف عدد الشباب المتحولين جنسيا في السنوات الخمس الماضية، وارتفاع معدل استئصال الثدي لدى الأطفال بنسبة 389٪. إنها نتيجة مباشرة لأجندة “الاستيقاظ” الراديكالية (دعوة للنهوض من الغفوة) التي يتم تطبيقها على الأطفال من قبل من يُسَمّون بـ”المتخصصين في الرعاية الصحية”، ووسائط الميديا الموالية ووسائل التواصل الاجتماعي، ومعهم إدارة الرئيس بايدن بصورة مباشرة.
هل هذا كل شيء؟ كلا، في أستراليا الأنغلوسكسونية، التي تعتبر ساحة اختبار لتطبيقات “الأفكار المجنونة”، كما هي صحراء نيفادا للتجارب النووية، إنما لتحقيق مآرب أخرى، أوكلت قيادة النخبة العولمية العالمية الحاكمة الى الحكومة الأسترالية، مهمة ترويج وتسويق فكرة زرع شريحة معدنية في جسم الانسان لتسهيل معاملاته البنكية والصحية وتمكينة من الوصول بسهولة لخدمات المرافق العامة والخاصة. وفي حال نجاح حملة التسويق التي بدأت فعلا في أستراليا، فسيعممون التجربة في بقية أنحاء أوروبا وأمريكا الشمالية. الهدف بطبيعة الحال هو تحويل الناس الى قطيع يمكن بسهولة التحكم فيهم ومراقبتهم على مدار الساعة. الاتحاد الأوروبي والناتو سارعا بطبيعة الحال لنفي صلتهما بالموضوع، واتهما جهات بلغارية مغرضة لنشر وترويج مثل هذه الاشاعات. لكن الحقيقة أن التجارب الأولى لزراعة الشريحة قد بدأت فعلا في أستراليا. كما سبق أن قامت شركة أمريكية في عام 2017، بغرس شريحة في 41 من موظفيها البالغ عددهم 85 موظفا في “حفلة رقاقة” تطوعية تحت شعار تسهيل أداء الموظفين والقيام بمهامهم المعتادة مثل تسجيل الدخول الى أجهزة الكمبيوتر الخاصة بهم وفتح أبواب مكاتب الشركة. كما أخضعت شركة سويدية موظفيها لتجارب وُصفت بالتطوعية، على استخدام تقنية الرقائق الدقيقة المزروعة في جسم الانسان.
بمواكبة هذه التجارب، تنشط بعض واجهات النخب الغربية – إنما على نطاق ضيق حتى الآن – لترويج ما تعتبره فوائد زرع الشريحة في جسم الانسان، من قبيل تحسين الأداء ورفع قدرة الموظفين على تحمل ضغط العمل، واستخدامها في السيارات ذاتية القيادة، كتقنية من شأنها تقليل حوادث الطرق والأخطاء البشرية. ولم تنسَ هذه الجهات الدعائية التي تعمل على جبهتين، الأولى حامية الوطيس ومكرسة للهجمات المضادة التي تشنها ضد الجماعات المناهضة والمشككة في نوايا وخطط طابور العولميين الغربي، ووصم نشطائها على الدوام بالمتآمرين أو أنصار نظريات المؤامرة، والجبهة الثانية مكرسة لتجميل وتلميع صورة “المخرجات الإنتاجية” لذاك الطابور العولمي، وبضمنها الشريحة المغروسة في الجسم – لا تنس التهوين من مسألة اقناع الناس باجراء عملية جراحية، تصفها بالبسيطة، لزرع الشريحة في أجسادهم، وإنها لا تعدو أن تكون عملية آمنة وسريعة وغير مؤلمة وغير مزعجة[2].
“نحن في منتصف أكبر جريمة في التاريخ. إنها عالمية؛ لها نية السيطرة، ومحو حرية الجميع؛ ستتضمن قتل المزيد من الملايين، إن لم يكن المليارات من الناس. إنه مخطط منذ فترة طويلة، وإذا امتثلت لهذا الاستبداد، فسوف ينتهي الأمر بفقدانك حريتك، وربما حياتك. هذا ما سيحدث إذا اخترت أنت والآخرون عدم القيام بأي شيء على الإطلاق. عليك أن تكون شجاعاً الآن، وأن تخاطر بتخطي الحرج، وتجنيد أشخاص آخرين لهذه القضية”. تلك كانت كلمة تحذيرية موجهة عبر الفيديو من نائب رئيس شركة فايزر السابق، الدكتور مايك ييدون الى عموم الناس في أنحاء العالم[3].
طبعا الاعلام السائد (Mainstream media)، أو اعلام الشركات (Corporate media)، أو بالأصح الاعلام الموالي لهذه النخب الحاكمة، سواءً تلك المكلفة بالعمل التنفيذي أو تلك التي تحكم من وراء حجاب، يحاول بكل ما أوتي من قوة وبكل أساليب التدليس والتزوير، نفي تهمة المؤامرة عن هذه النخب، لاسيما منها المختبئة خلف واجهات تكنولوجية أو صحية أو اقتصادية أو اجتماعية أو خيرية. بل ونفي وجود مؤامرة أساساً، ومحاولة الاثبات، عبثاً، أن المؤامرة هي محض نظرية من تأليف وفبركة الجماعات الراديكالية من أقصى اليمين الى أقصى اليسار. ولأنها فشلت، بواسطة وسائطها الإعلامية الدعائية في تخليص نفسها من تهمة التآمر الخبيث ضد بقية العالم وشعوبه، فقد تحولت أمام ناظرينا الى دول توتاليتارية رسمية، وذلك بسن تشريعات تجرم حرية التعبير وتجرم استخدام بعض التطبيقات للوصول الى الحقيقة، كما فعل جاستن ترودو رئيس وزراء كندا قبل أيام، وكما صارت ممارسات وتشريعات “الديمقراطيين” داخل الكونجرس الأمريكي. إنما، من سوء حظ هذه النخب، أن اعلاما جديدا موازيا أصبح أكثر انتشارا وتأثيراً من الاعلام الموالي لهم، مثلما أن من سوء طالعها، أنها لا تستطيع بمغرياتها المادية أن تشتري كل رجال الفكر والسياسة والأدب والاعلام. صحيح أن مؤسساتها الكبرى مثل الناتو والسي آي أيه نجحت في شراء ذمم وضمائر آلاف المفكرين والساسة والمثقفين، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، الفيلسوف السلوفيني سلافوي جيجيك الذي استحال مهرجا يوزع تنظيراته المبغضة لليسار العالمي والمبهجة لتيار المركزية الأوروبية ولبيروقراطياته الحاكمة في بروكسل، لكن هناك دائما جزءٌ عصي على البيع والشراء، هو العمود الذي يُراهَن العالم على مساهماته الجريئة الآخذة في الاتساع والتجاسر، في انشاء ثقافة إنسانية عالمية جديدة.
* الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني وخبير في العلاقات الاقتصادية الدولية. عمل سابقاً ممثلا للبحرين في فريق مجلس التعاون المعني بملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في اطار منظمة التجارة العالمية واتفاقيات التجارة الحرة، وملف مفاوضات تغير المناخ. صدر له مؤخراً ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.
الهوامش:
[1] انظر: “خطط المرور في اوكسفوردشاير ليست اغلاقاً مناخياً”. وكالة الاسوشيتدبرس، 8 ديسمبر/كانون الأول 2022.
[2] انظر: مايكل بيرنز: “موظفو الرقائق الدقيقة في أستراليا.. التكنولوجيا المثالية مقابل الحقيقة القانوني”، 17 أغسطس/آب 2017. CLAYTON UTZ ، هي شركة محاماة أسترالية مقرها سيدني، ومستفيدة من تسويق “تقنية” زرع الشريحة.
[3] كان الدكتور ييدون باحثاً مرموقاً ونائبا لرئيس شركة فايزر التي انتجت أحد لقاحات كورونا، لكنه تحول حسب تقرير مفصل لوكالة رويترز الى بطل يتصدر الدعوات لعدم اخذ لقاحات مضادة لفايروس كورونا. انظر تقرير وكالة رويترز: https://www.reuters.com/investigates/special-report/health-coronavirus-vaccines-skeptic/