محمد فاضل العبيدلي
كان صناع استقلال السودان عام 1956 والجيل الأول من قادته من خريجي الجامعات ومن نخبة مثقفة عريضة لعبت دورا حيويا في تاريخه. كل شيء بدأ من مؤتمر الخريجين الذي ظهرت أولى الدعوات لانعقاده عام 1935 وإلتم شمله وتأسس عام 1938. فمن هذا المؤتمر انطلقت دعوات الاستقلال عن الاحتلال البريطاني. ومن هذا المؤتمر خرج قادة السودان الأوائل مثل إسماعيل الازهري (خريج الجامعة الأميركية ببيروت) رافع علم استقلال السودان. محمد احمد محجوب رئيس وزراء السودان الأسبق خريج اوكسفورد، كان شاعراً ومؤلفاً ومهندساً ومحامياً وقاضياً. أما رئيس الحكومة بعد ثورة أكتوبر 1964، سر الختم خليفة فهو خريج مدرسة المعلمين وتالياً جامعة اكستر ببريطانيا وعمل معلما في ولايات الجنوب ومفتشا للتعليم في المحافظة الاستوائية. مثل هؤلاء كان نخبة قادة العمل السياسي في تلك السنوات من جميع الأحزاب والجماعات.
وفي مؤشر عملي وبليغ على الدور الذي كان يلعبه خريجو الجامعات في المجتمع السوداني وهو يتلمس طريقة في سنوات الاستقلال الاولى، كانت هناك دوائر انتخابية خاصة للخريجين تسمى “دوائر الخريجين” تتيح لهم الترشح والمنافسة في الانتخابات البرلمانية في بلد شاسع مترامي الأطراف تتداخل فيه الأعراق والقبائل في مزيج معقد ومتشابك مازال غير مفهوم للعرب والعالم.
من دوائر الخريجين هذه، انتخب السودانيون في 1965، بعد الاطاحة بالحكم العسكري للجنرال ابراهيم عبود في انتفاضة اكتوبر/ تشرين الاول 1964؛ أول سيدة سودانية في البرلمان هي المناضلة الراحلة فاطمة احمد إبراهيم. وفي مثل هذه الدوائر ايضاً، لم يتمكن زعيم الاخوان المسلمين الراحل حسن الترابي الحائز على الدكتوراه في القانون من فرنسا، من الفوز في المرات التي ترشح فيها.
كان المثقفون وخريجي الجامعات هم صناع استقلال السودان وهم من يقودونه. أما اليوم يقود السودان عسكر أحدهم جاء للزعامة من خلفية تزعمه لمليشيا ارتكبت مجازر وانتهاكات بحق الإنسانية طوال سنوات في دارفور في غرب السودان. مليشيا تشكلت بطلب وتعاون ودعم وتسليح من نظام عمر البشير لمواجهة تمرد إقليم دارفور طيلة السنوات من 2003 الى 2010. تم دمج هذه المليشيا بالقوات النظامية لنظام البشير لاحقاً (لحمايتها من الملاحقات الدولية واحتوائها) وقام زعيمها – الذي لا يكف هو والمتحدثون باسمه هذه الايام عن الحديث عن الديموقراطية – بالاستيلاء على مناجم ذهب (يفترض انها ملك للدولة وشعبها) في غرب السودان.
اما العسكري الآخر الآتي من الجيش نفسه الذي كان يقوده نظام البشير، فهو الذي نقض اتفاقاً وانقلب عليه في 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021 لمنع تسليم الحكم للمدنيين. اتفاق كان يقضي بتسليم الحكم للمدنيين بعد ثورة شعبية استمرت نحو العام ضد البشير وتوجت باتفاق تم بوساطة رئيس وزراء اثيوبيا آبي احمد يقضي بتقاسم السلطة بين الجيش والقوى والمدنية. برر انقلابه بانه جاء لمنع البلاد من الدخول في فوضى. لا نعرف ما هو تعريف الفوضى اكثر مما يجري اليوم.
لن يجد المرء تعريفا نموذجيا أفضل من هذا لوصف حالة التردي التي انزلق اليها بلد كان مقدرا له ان يكون رائدا ونموذجا وعملاقا اقتصاديا بفضل ثروات طبيعية وثروة بشرية لم تتوافر للكثير من البلدان. ثروة بشرية صنعها التعليم والنوع الأفضل من التعليم الذي اخذ يتردى أيضاً (بفعل سياسات البشير والترابي) مثله مثل كل شيء في بلد بقي محكوماً بعسكر وزعامات محكومة بالأنانية وضيق الأفق. بلد أهدرت ثرواته وتم تهجير مئات الالاف من الكفاءات من أبنائه وقتل مئات الآلاف منهم في مطحنة حروب أهلية لم تتوقف، حروب لم يصنعها سوى الجهل وقصر النظر وضيق الأفق والانانية.
ذات يوم كتب مثقف ومناضل سوداني هو حسن الطاهر زروق كتابا عنونه: “السودان الى أين؟”. لن يجد المرء سؤالاً يطرح نفسه بقوة وإلحاح في تاريخ بلد مثلما ظل هذا السؤال مخيماً على كل المراحل التي مر بها السودان منذ استقلاله، واحسب انه اليوم أنه بات سؤالاً ثقيلاً جالباً للهم مثل الكابوس الذي يجثم على السودان اليوم.