يوالي الباحث البحريني الشاب هشام عقيل رحلته في الفلسفة بثبات وعزم منذ ان بدأ اشتغاله بها منذ سنوات قبل التحاقه بالجامعة. توج هذا الاشتغال بصدور كتابه الأول “رأس المال الكولونيالي – نحو نظرية علمية للتبعية” حديثاً. طلبنا من هشام عقيل تقديم كتابه والتعريف به والأسباب التي دفعته لتأليف الكتاب، وما الجديد الذي يطرحه الكتاب في موضوعه.
*هشام عقيل
لكُلّ اكتشافٍ جديدٍ دافعٌ قديمٌ غريبٌ عنه. أنا لم أكتب هذا الكتاب وفقاً لفكرةٍ جاهزةٍ في رحابِ المثال تنتظرُ التطبيق على الورق، وإنّما لأسجّل تدخّلي النظريّ الذي كنتُ، وما زلتُ، أراهُ ضروريّاً. اسمحوا لي أن أرسمَ صورةً عامةً للمناخ النظريّ الذي تشكّل فيه الكتابُ لأوّل مرّة: في يوليو 2018 كنتُ بصددِ كتابة بحثٍ غايته تطبيق النظريّة الكولونياليّة، كما جاءت عند مهدي عامل، على البنى الاجتماعيّة الخليجيّة تحديداً. قسّمتُ البحث إلى قسمين: قسمٌ يتناول العرض النظريّ المحض لنظريّة نمط الإنتاج الكولونياليّ، وقسمٌ تطبيقيّ مرتبطٌ بالبنى الاجتماعيّة الخليجيّة. حينذاك، كانت ملاحظاتي تجاه النظريّة الكولونياليّة ملاحظاتٍ محدودة، وتوقّعتُ أنّي مجرّد أمام مهمّة التعديل النظريّ اللازم في القسم الأوّل المذكور، إلّا أنّ الملاحظات كثرت في الفحص النظريّ المعمّق، ومعها كثرت التناقضات النظريّة؛ وبالتالي تفكّك التماسك النظريّ الداخليّ بأكمله. حينئذ، كان عليّ أن انسحب واعتزل في قلعة بني سلامة الخاصة بي.
لنأخذ في اعتبارنا أنّ الافتراض العام كان كالتالي: إنّ الماديّة التاريخيّة، أو علم التاريخ، أو ”الماركسيّة“، هي علمٌ جاهزٌ قد اكتملت قطيعته الأبستمولوجيّة أو المعرفيّة سلفاً، وهو – بالتالي – خالٍ مِن أيّ عناصر أو مكوّناتٍ آيديولوجيّة. بالتالي، افترضتُ – بالضرورة – أنّه لمّا كانت النظريّة الكولونياليّة، باعتبارها جزءٍاً مِن علم التاريخ، وعلى العكس مِن توقعاتي السابقة، في حالةٍ لم ترتقِ إلى المستوى العلميّ بعد (مهما كانت محاولات مهدي عامل جادة في هذا المضمار)، أي لم تخضع للقطيعة الأبستمولوجيّة، فإنّ الدافعَ القديم للكتابة قد تغيّر، لم تعد المسألة مسألة العرض النظريّ لنظريّةٍ جاهزة، وإنّما الابتكار النظريّ لترقيةِ النظريّة إلى المستوى العلميّ في الماديّة التاريخيّة أو علم التاريخ.
في ظلّ هذا الدافع الجديد، تمكّنتُ مِن استخراج الكثير مِن الحقائق النظريّة الخاصة بنمط الإنتاج الكولونياليّ، ولكنني كنتُ أمام عقبة كبرى أمام استمراريّة البحث ككلّ. لن أدخل، في هذا المقال، في التفاصيل النظريّة، وللقارئ الحرّيّة في قراءة الكتاب لمعرفتها، لكنني سأذكر التالي: إنّ وجود نمط الإنتاج الرأسماليّ الكولونياليّ يفترضُ أنّ يُمكن للأنماط الإنتاجيّة أن تتفرّع إلى فصائلَ، وأنا بكُلّ تأكيد لم أكن أوّل مَن لاحظ ذلكَ (سمير أمين مثلاً)، لكنني كنتُ أوّل مَن سأل: ما هي القوانين التي تحكم هذا التفرّع؟ وكان هذا السؤالُ كافٍ لكُلّ ما سيأتي بعد ذلكَ، إذ فَتَحَ لي المجال أن استكشفَ القوانين الدفينة للأنماط الإنتاجيّة، أي تلك التي تحكم اقتراناتها، وتعميرها، وخرابها، وتمفّصل عناصرها، إلخ. اتّضح لي أنّ الموضوع الذي لم يدرسهُ الشرّاع الأوّلون (ابن خَلدون، وماركس، وإنغلز) هو بنية القدرة الإنتاجيّة (شكل، والقدرة، وشرط، ونمط الاقتران)، وهذا هو المعنى الذي أعطيتهُ للعمران، وبالتالي اختتمتُ موضوع العلم الذي اكتشفهُ ابن خَلدون، وحقّقه ماركس وإنغلز، وهو علم العمران بالتحديد.
كما هو واضحٌ، لم يعد العلم بشكله الجزئيّ القديم (علم التاريخ، الماديّة التاريخيّة) قادراً على الإجابة عن تلكَ الأسئلة التي طرحتها، ومِن هنا اكتشفتُ أنّ القطيعة الأبستمولوجيّة التامة المزعومة لاكتشاف ماركس وإنغلز النظريّ لم تكن كاملةً، وإنّما جزئيّة فقط، أي إنّ ماركس وإنغلز حقّقا علماً ولكنهما لم ينجزاه؛ العلم لم يعد علم نمط الإنتاج فحسب، وإنّما علم العمران. مع ابن خَلدون كنّا أمام مفهومٍ فيزيقيّ، جسمانيّ، جثمانيّ للعمران، حيث يكون الاقتران موازياً للإنتاج على نحوٍ مباشر. ومع ماركس وإنغلز، تطوّر موضوع العلم لنكون أمام مفهومٍ علائقيّ للعمران (العلاقات الإنتاجيّة والقوى الإنتاجيّة)، حيث يكون للاقتران علاقةٌ خارجيّة بالعمران. وجئتُ أنا لاختتام هذا العلم الذي دشنه ابن خَلدون وحقّقه ماركس، أي إتمام موضوعه على نحوٍ نهائيّ، إذ عرضتُ موضوع العلم كما هو عليه، أي المفهوم المحض والكلّيّ للعمران؛ بوصفه بنية المقدرة الإنتاجيّة.
هكذا، تغيّر الدافع مِن كونه ترقيّة النظريّة الكولونياليّة للمستوى العلميّ، إلى اختتام العلم الذي تركاه لنا ماركس وإنغلز، أي تثويره كُلّيّاً ليكون علماً ذا موضوعٍ محدّد المعالم.
العالم المتعدد الأقطاب محض هراء
انتهينا مِن المناخ العام الذي كُتب الكتاب في ظلّه، وعليه فإن جسورَ العودة قد احترقت تماماً. إنّ العرض النظريّ المحض للعمران ما يزال عملاً ينتظر الانجاز، وهذا هو غاية مشروعي القادم المعنّون بـ (علم العمران). وبالتالي لا يُمكن الحديث عن هذا الأمر كثيراً الآن، إذ أن موضوع كتاب (رأس المال الكولونياليّ) هو بالتحديد عرض آليات، وقوانين، نمط الإنتاج الرأسماليّ الكولونياليّ نفسه، وهو النمط السائد في معظم البنى الاجتماعيّة في العالم. لن أدخل في التفاصيل النظريّة لهذا النمط، وإنّما سأطرحُ ارتباط هذا الموضوع بعالمنا اليوم.
إحدى فرضيّات الكتاب هي: إنّ رأس المال الكولونياليّ مقدّرٌ له أن يتعاظم وينمو، رغم أنّ ذلكَ يتّسم بالمحدوديّة البنيويّة، وفي ظلّ هذه الضرورة، مِن الضروريّ أن تظهر البلدان الكولونياليّة المهيّمنة، التي ستطالب بجزءٍ مِن الريع الاحتكاريّ العالميّ، والتي ستطالب بتعاظم نصيبها مِن التبادل اللامتكافئ العالميّ، رغم أنّها تبعيّة؛ وذلكَ سيفرض ضرورة صفقة إمبرياليّة عالميّة تقبل فيها، بشكلٍ أو بآخر، وجود وهيّمنة البلدان الكولونياليّة الصاعدة؛ إن كان الرأسماليّون يرغبون في طفرة رأسماليّة جديدة.
لقد بيّنتُ، عبر هذه الفرضيّات، أنّ النظام الرأسماليّ العالميّ قد بَلَغَ تطوّره العمرانيّ الكامل، وبالتالي لقد بلغنا طور الانحطاط العمرانيّ للرأسماليّة، رغم أنّ ذلكَ لا ينفي الطفرات الحاصلة والممكنة. إنّ الانحطاط العمرانيّ للرأسماليّة يتجسّد في إتمام تسيّد الرأسماليّة في العالم، وخصوصاً أنّ نمط الإنتاج الكولونياليّ هو محدودٌ بنيويّاً كما بيّنت، وهذا يعني عمرانيّاً أنه لا يُمكن للرأسماليّة أن تقودَ طفراتٍ شاملة، وكُلّيّة، بعد الآن؛ حتّى الحروب العالميّة لن تقدر على إنقاذ الرأسماليّة، رغم أنّها قادرةٌ على ذلكَ على نحوٍ مؤقّت.
هكذا، مِن الواضح أنّ ما يسمّى”بالعالم المتعدّد الأقطاب“ هو مجرد تسمية ملطّفة لهذه الحقيقة التي ذكرتها للتو، وأنّ ”تعدّد الأقطاب“ هو في الحقيقةِ صعود البلدان الكولونياليّة المهيّمنة، وهذه هي الحتميّة التي لا مفرّ مِنها. لكن مِن الغريب والطريف، أنّ الكثيرَ، وللأسفِ الكثير مِن اليسار، قد رَفَعَ شعار ”العالم المتعدّد الأقطاب“ ظنّاً مِنهم أنّ الإمبرياليّةَ هي عبارة عن حفنة مِن الأمم، أي الولايات المتحدّة الأمريكيّة وأوروبا الغربيّة، وأنّ ”تعدّد الأقطاب“ هي الوسيلة لمحاربة الإمبرياليّة والتحرّر مِن التبعيّة! ولقد نسوا أنّ الإمبرياليّةَ هي بنيّة العالم قبل كُلّ شيءٍ آخر، وأنّ البلدان الكولونياليّة المهيّمنة هي جزءٌ مِن البنيّة الإمبرياليّة العالميّة، إذ تؤبّدها.
يقف الكتاب، إذن، في وجهِ التفاهة النكوصيّة التي تحتفي اليوم بأحلامٍ كثيرةٍ: لامركزيّة الدولار، وأحقيّة روسيا في غزو أوكرانيا، و”حكمة“ الفرعون شي جين بينغ، و”قوّة“ بوتين.. إلخ. كُلّ الاحتفاء ”بالعالم المتعدّد الأقطاب“ هو هراءٌ محض، وهو، في الحقيقةِ، أحد الأشكال الانحطاط الفكريّ المرافق للانحطاط العمرانيّ عموماً؛ إذ تحوّل الكثيرونَ، ممّن كانوا اشتراكيّين يوماً، إلى بورجوازيّين لا أكثر ولا أقلّ، أي إنّهم مجرد نكوصيّين. ألا ترى التناقض الذي يخرجُ مِن أفواههم؟ يقولونَ إنّ ”العالم المتعدّد الأقطاب“ هو ضرورةٌ لا مفرّ مِنها، ولكنهم يقولون -في الوقت نفسه- إنّه الخيار الأكثر عدالة، ولهذا السبب يساندونه! إن كان لا مفرّ مِنه، ما الفرق الذي سيحدثه اختيارنا أو عدم اختيارنا له؟
كُلّ ما يقوم به النكوصيّون هو القبول (إذ ليس لهكذا عقول حرّيّة الاختيار في كُلّ الأحوال) بالنظام الإمبرياليّ العالميّ عبر رفضِ شكلٍ تاريخيّ واحدٍ مِن أشكاله، في حين يقوم الليبراليّون البائسون برفض البلدان الكولونياليّة المهيّمنة بحجةِ اختيارهم لعالمٍ أكثر عدالةً تقودها ”العدالة“ الليبراليّة-الديموقراطيّة الغربيّة الزائفة. إنّهما وجهان لعملةٍ واحدة. على العكس، ما أطرحهُ في “رأس المال الكولونيالي” هو أمرٌ آخر تماماً: إن صعود البلدان الكولونياليّة المهيّمنة هو حتميّة عمرانيّة، وليس في هذه الأمر خيارٌ؛ ودخلنا، عبر ذلكَ، في مرحلة الانحطاط العمرانيّ للنظام الرأسماليّ العالميّ. المفرّ الوحيد مِن الإمبرياليّة العالميّة لا يكمن في العالم المتعدّد الأقطاب، وغيرها مِن ”الوصفات“ السخيفة، وإنّما عبر التآلفيّة؛ الاشتراكيّة الوحيدة الممكنة اليوم، إذ وحدها التي تقوم على المقومات العلميّة لعلم العمران.
الحرّيّة مِن الإمبرياليّة لا تأتي عبر رأسماليّاتٍ خياليّة موازية، ومخفّفة، وأكثر ”عدالةً“، وإنّما عبر التقويض التآلفيّ لها؛ وهذا ما يدعو إليه الكتاب.
* هشام عقيل باحث بحريني يدرس العلوم الاجتماعية وعضو مؤسس لـ”مختبر الفلسفة والفكر النقدي” الذي ينشط في مجال الفلسفة. نشر عقيل مقالات وتأملات فلسفية في عدد من الصحف والدوريات الفكرية العربية ويعد “رأس المال الكولونيالي” مؤلفه الأول.