طه حسين في الجزيرة العربية Previous item فضاءات مسقط العامة... أو... Next item أوروبا حُبلى..والوليد...

طه حسين في الجزيرة العربية

حسن مدن*

إذا كان ظهور الإسلام أدّى إلى فكّ عزلة الجزيرة العربيّة السّابقة لظهوره، حين أخذت الدّعوة الإسلاميّة تنتشر خارج حدودها، وتنفتح على ثقافات وعادات الأمم التي بلغها الإسلام تدريجيًّا، فيما عزلة الجزيرة العربيّة (الثّانية)، التي نشأت بعد انتقال مركز الخلافة والدّولة منها، تفريقًا لها عن (العزلة الأولى) التي كانت عليها قبل الإسلام – حسب طه حسين – لم تبدأ دفعةً واحدة، وإنّما بالتّدريج.

ويرى طه حسين أنّ آخر عهد لتواصل الجزيرة العربيّة مع المركز الجديد للدّولة الإسلاميّة في بغداد، كانت أواخر القرن الثّالث للهجرة، فقبل ذلك كان شعراء ممتازون في البادية يفدون على الخلفاء والوزراء في بغداد إلى أواخر القرن الثّالث للهجرة، ثمّ انقطعت الصّلة الأدبيّة أو كادت تنقطع بين جزيرة العرب وبلاد الشّرق العربيّ، وعادت الجزيرة العربيّة إلى ما كانت فيه قبل الإسلام من عزلة تامّة في الأدب وشديدة في السّياسة وغيرها من مظاهر الحياة[1]. ولولا أنّ المسلمين يحجّون إلى مكّة والمدينة في كلّ عام وأنّ لليمن أهميّة خاصّة في التّجارة أثناء القرون الوسطى لأهملت هذه البلاد إهمالًا تامًّا ولنسيها تاريخ المسلمين[2].

لا يغفل طه حسين في أطروحته هذه حقيقة أنّ الجزيرة العربيّة استفادت من التّواصل مع الأقاليم الجديدة التي بلغها العرب، “فكان وفود الأعراب إلى حواضر العراق والشّام ووفود أهل الحضر إلى مدن الحجاز ونجد يثير في نفوس الأعراب معاني ما كانت لتثور في نفوسهم لو ظلّوا في عزلتهم الأولى. ويكفي أنْ يلاحظ أنّ الغزل الحجازيّ – وهو أجمل ما قيل في العصور الإسلاميّة من الغزل – إنّما هو نتيجة لتبادل الصّلات بين جزيرة العرب وحواضر العراق والشّام ومصر [3]. وهذا الاستدراك من طه حسين يجيز لنا القول إنّ (العزلة الثّانية) للجزيرة العربيّة كانت هي الأخرى (عزلة نسبيّة)، لم تنف بعض أشكال التّواصل مع محيطها الخارجيّ، العربيّ خاصّة.

أكثر من ذلك فإنّ انقطاع الصّلة بين الجزيرة العربيّة ومراكز الحضارة الإسلاميّة، لا يعني أنّ الأولى أصبحت قفرًا من الأدب، فظلّ فيها – حسب طه حسين نفسه – شعراء وخطباء وقُصّاص ورواة، ولكنّ شعرهم وقصصهم وآثارهم الأدبيّة بوجه عام لم تكن تنقل إلى مدارس البصرة والكوفة وبغداد وتدرس فيها كما كانت الحال في القرون الأولى، ولم تكن تدوّن في البادية وإنْ كانت تحفظها الذّاكرة عشرات السّنين ثمّ يذهب بها صوت الرّواة والحفاظ وتنثر في الصّحراء كما تنثر الرّمال بتأثير الرّياح[4].

 

السجال حول الشعر الجاهلي 

يسجّل أحمد راشد ثاني ملاحظتين على أطروحة طه حسين، الأولى تتصل بوصم حسين المجتمع الجاهليّ الذي سبق الإسلام بالتّخلف والعزلة، رغم أهميّة دور ذلك المجتمع الذي انتقل ونقل مجتمعات العالم العربيّ الإسلاميّ من (المرحلة الشّفاهيّة إلى المرحلة الكتابيّة)، وهي ملاحظة وجيهة، عرضنا لها أيضًا انطلاقًا من دراسات حسين مروّة خاصّة، وبرأي أحمد راشد فإنّ طه حسين، وخصوصًا في أطروحته عن الشّعر الجاهليّ، لا يبدو مدركًا للطبيعة  الشّفاهيّة لهذا الشعر، وفي هذا يستند ثاني إلى ما ذكره الباحث السّعوديّ سعد الصّويان في دراسته عن الشّعر النّبطيّ، من أنّنا “لو تمكنّا من دراسة الشّعر النّبطيّ في سياقه الأدائيّ ومحيطه الحضاريّ، لاستطعنا الإجابة على العديد من الأسئلة التي تدور حول الشّعر الجاهليّ وخصوصًا فيما يتعلّق بوظيفته الاجتماعيّة ودوره السّياسيّ، وكذلك طرق نظمه وأدائه وتداوله كتراث شفهيّ يعتمد على الرّواية والاستماع، لا على الكتابة والتّدوين [5].

لكن قد يؤخذ على هذا القول – رغم وجاهته – أنّه يتجاهل وجهة نظر طه حسين في الشّعر الجاهليّ برمته، فهو يرى “أنّ الكثرة المطلقة ممّا نسمّيه شعرًا جاهليًّا ليست من الجاهليّة في شيء، وإنّما هي منتحلة مختلقة بعد ظهور الإسلام. فهي إسلاميّة تمثّل حياة المسلمين وميولهم وأهواءهم أكثر ممّا تمثّل حياة الجاهليّين” كما يرى “أنّ ما بقي من الشّعر الجاهليّ الصّحيح قليل جدًّا لا يمثّل شيئًا، ولا يدلّ على شيء، ولا ينبغي الاعتماد عليه فى استخراج الصّورة الأدبيّة الصّحيحة لهذا العصر الجاهليّ”. ويزيد أنّه من أجل معرفة العصر الجاهليّ علينا العودة إلى النّص القرآنيّ نفسه فهو الأصدق في التّعبير عنه: “مرآة الحياة الجاهليّة يجب أنْ تلتمس فى القرآن لا في الشّعر الجاهليّ[6]، ولا يقلّل منْ أهميّة  ذلك أنّ طه حسين نفسه قد تراجع تحت الضّغوط الشّديدة التي تعرض لها عن أطروحته تلك، فهذا التّراجع كان على الأرجح، مناورة منه لتفادي المزيد من الأذى.

أمّا ملاحظة أحمد راشد ثاني الثّانية فهي أنّ طه حسين يتجاهل السّمات (الشّفاهيّة) التي ينطوي عليها عصر التّدوين كعصر مخطوطات، كأنّ  ثاني يرغب في القول بأنّ بدء التّدوين لم يعنِ – بصورة تلقائيّة – انتهاء الشّفاهة في الأدب، فحجم ما دوّن حينها كان قليلًا قياسًا إلى حجم المنتوج الأدبيّ – والشّعريّ بخاصّة – أي أنّ الجزء الأكبر ظلّ شفافيًّا تتوارثه الألسنة، ولم يندثر بالضّرورة – رغم كونه شفاهيًّا – ويضع ثاني أطروحة طه حسين في سياق الكثير من ما وصفها بـ(الأطروحات الحديثة عن التّاريخ الثّقافيّ العربيّ التي تحاول إقصاء البدواة والسّكوت عنها).

والمرجّح أنّ أحمد راشد ثاني صاغ ملاحظته هذه من وحي أطروحة الصّويان حول العلاقة بين الشّعرين الجاهليّ والنّبطيّ التي لا يراها علاقة أدبيّة فحسب، وإنّما “تاريخيّة/ حضاريّة”، بمعنى أنّها “علاقة طبيعيّة عضويّة أساسها النّسب اللغوي والفنيّ، وقوامها الاستمراريّة التّاريخيّة والحضاريّة بين مجتمعات الجزيرة العربيّة من العصور القديمة حتّى الآن”، بلْ إنّ الشّاعرين النّبطيّ والجاهليّ يلتقيان، حسب الصّويان “على صعيد واحد من الرّؤية الحضاريّة والحسّ الفنيّ وشعرهما ليس إلّا صدى لنفس الظّروف الطّبيعيّة والاجتماعيّة القاسية ومن هنا فإنّ التّشابه اللغويّ بين الشّعرين “تشابه تلقائيّ” لا شعوري يمليه تشابه الظروف والمعطيات التي تتكوّن منها مادة الشّعرين.

والقصيدة النّبطيّة ليست مجرد تقليد ومحاكاة للقصيدة الجاهليّة، بل هي امتداد لها وهي عمليّة خلق وإبداع مستجدّة، تخضع لنفس الأساليب الفنيّة والظروف الحضاريّة التي كانت توجّه الشّعر الجاهليّ وتتحكّم في شكله ومضمونه. الشّاعر النّبطيّ لا يتجشّم معارضة قصيدة جاهليّة معيّنة، ولا يتكلّف تقليد بيت بعينه، ولكنّه يطرق نفس المنبع ويغترف من نفس المعين، ويصدر من نفس الموارد التي استقى منها الشّاعر الجاهليّ مادته وأغراضه”، ولذلك “لا تختلف القصيدة النّبطيّة عن القصيدة الجاهليّة في التّصوّر الفلسفيّ الذي تقدّمه تفسيرًا، لهذا الكون ولحياة الإنسان على هذه الأرض ولا تختلف عنها في المفاهيم والمثل التي تُكرّسها؛ لتعطي حياة الصّحراء القاسية معنى يعين على تحمّلها [7].

ولاحظ باحثون أنّ شعراء العامّة في نجد لا يعرفون العروض ولا الموازين الشّعريّة، ومع ذلك فإنّ شعرهم النّبطيّ مطابق لميزان العروض، فكأنّ الأوزان العربيّة باقية في نظمهم وهم يلتزمون قافيتين في غالب نظمهم قافية لرويّ الشّطر الأوّل وأخرى لرويّ الشّطر الثّاني[8].

عند مسألة الشّفاهية في الشعر الجاهليّ وقف أيضًا النّاقد والأكاديميّ السّعوديّ عبدالله الغذامي، الذي وإنْ لم يقطع برأي حول الشّكوك التي أحيطت بظاهرة الشّعر الجّاهليّ، فأسباب هذا الشّك – كما رأى- كثيرة، وربّما تكون موضوعيّة أيضًا بالنّظر لكثرة الشّاكين، ممّن هم موضع ثقة علميًّا، لكنّ أسباب اليقين موجودة وكثيرة أيضًا، ملاحظاً أنّ الظّنون حول انتحال الشّعر الجاهليّ قادت – تاليًا – إلى الانتباه إلى شفاهية هذا الشّعر سواء أكان ذلك عند الباحثين العرب أم الأجانب المستعربين. فرواية الشّعر الجاهليّ كانت شفويّة حتّى بعد أنْ دوّنت فما جرى تدوينه “لم يكن نقلًا للشّفاهيّ إلى الكتابيّ ولكنّه تسجيل خطّيّ للرّواية الشّفاهية [9].

وعليه فإنّ الشّعر الجاهليّ الذي نتداوله الآن هو الشّعر المرويّ وليس المدوّن، فالتّدوين ثبّت الرّواية الشّفويّة، ولا يذهب الغذامي إلى حدّ اعتبار كلّ الشّعر الجاهليّ خالص الشّفاهية، فالشّفويّة – بتقديره – هي سمة رواية هذا الشّعر لا إبداعه، ليست في الإنشاء وإنّما في النّقل، فتسرّبت الشّفاهية إلى الشّعر الجاهليّ وسادت فيه بسبب الرّواة وليس بسبب الشّعراء أنفسهم الذين وضعوا تلك القصائد، وإنّ الإبداع الجاهليّ كان يتّسق مع شروط الكتابيّة أكثر من اتّساقه مع شروط الشّفاهية، فهو فرديّ يقوم على نص أصيل فرد وعلى آليّات الإنشاد الشّعريّ الغنائيّ حتّى لو كان الشّعراء الذين كتبوه لا يعرفون الكتابة[10].

قدّم الاستعراب الرّوسيّ إضافة مهمّة في هذا السّجال حول الشّعر الجاهليّ، عرض له الباحث الكسندر كوديلين في دراسة مهمّة له حول الموضوع، يشير فيه إلى رأي المستعرب الرّوسيّ الأشهر اغناطيوس يوليانوفيتش   كراتشكوفسكي الذي قال إنّه “لا يكاد أحد من العلماء في الوقت الحاضر يشكّ في أنّ قسمًا من الشّعر الجاهليّ منحول”. ولكنّ هذا لا يجب أنْ يعني بأنّ كلّ هذا الشّعر منحول، وهو الرّأي الذي جاهر به المستعرب الإنجليزيّ ديفيد صمويل مرجليوث الذي بلغ حدّ القول إنّ العرب لم يكن لديهم شعر كنوع أدبيّ قبل نشوء الإسلام، وهذا ما حمله على الزّعم بأنّ جميع نماذج الشّعر الجاهليّ الأقدم موضوعة ومنحولة في وقت متأخّر[11].

ويثني الباحث الروسي على ما ذهب إليه ناصر الدّين الأسد حول “أنّ معايير انتقاء الشّعر الأصيل يمكن أنْ تكوّن أوّلًا، الذّوق الشّعريّ الذي يتيح التّفريق ما بين الأصيل والمنحول، وثانيًا، رأي العلماء الموحّد بصدد صحّة الأصل لقصائد بعينها، وثالثًا، وجود قصائد معيّنة في نسخة موثوقة ومعتمدة لديوان الشّاعر أو مجموعة أشعار عشيرة الشّاعر المدوّنة بخطّ أو إملاء عالم لغويّ معتمد[12].

ويرى كراتشكوفسكي أنّ المنحول أيضًا ينبغي اعتباره أثرًا من آثار الماضي القديم؛ لأنّه من (صنع) شخص بلغ من القدرة على التّغلغل إلى كنه الماضي العربيّ بحيث لا يمكن أنْ يكون أي جزء تفصيليّ من عمله مناقضًا للصّدق التّاريخيّ والسّيكولوجيّ، وهو رأي جدير بالوقوف عنده، فيما يلفتنا كوديلين إلى رأي مهمّ – هو الآخر – للعالم الأمريكيّ مونرو الذي ذهب إلى القول بأنّ الفروق في أشكال الصّنعة تستدعي التّغاير الأساسيّ في مبادىْ الشّعر العربيّ الشّفويّ والمكتوب؛ لأنّهما يقومان على أسلوبين متناقضين ومتعارضين، وهما الشّفويّ – الصّياغيّ، والكتابيّ الأدبيّ، ومونرو نفسه هو القائل بأنّه وبسبب سير النّقل الشّفهيّ من جيل لجيل كان لا بدّ أنْ تطرأ على المنقول من الشّعر تغيّرات، نظرًا لأنّ حفظة التّقاليد الشّفهيّة لم يحفظوها عن ظهر غيب، وإنّما كانوا كمن يخلقها من جديد بمساعدة التّكنيك الشّفويّ – الصّياغيّ؛ لأنّ القسم الذي حفظ من الشّعر الجاهليّ القديم ليس تدوينًا حرفيًّا للأبيات التي قالها في وقت ما شاعر عظيم، وإنّما هي الرّواية المقاربة أكثر أو أقلّ لتلك الأبيات، والمحرّفة بالأخطاء المرتكبة لدى نقلها الشّفويّ الذي جرى أثناءه الاستذكار[13].

 

 

 

 

*الدكتور حسن مدن كاتب من البحرين نال درجة الدكتوراه في فلسفة التاريخ الحديث والمعاصر من معهد الاستشراق باكاديمية العلوم الروسية عام ١٩٩١ . ترأس قسم الدراسات والبحوث في الدائرة الثقافية في إمارة الشارقة ما بين ١٩٩٢-٢٠٠٢، كنا عمل مستشارا ثقافياً في هيئة الثقافة في البحرين من ٢٠٠٢-٢٠١٥.  عمل مديرا لتحرير عدد من الدوريات الثقافية في الشارقة والبحرين مثل “الرافد”و”دراسات” و”البحرين الثقافية”. صدرت له العديد من الكتب ابرزها: “خارج السرب”، الثقافة في الخليج: أسئلة برسم المستقبل”، “لا قمر في بغداد”، “ترميم الذاكرة” ومؤخرا “حداثة ممتنعة ظهرها للجدار”.

 

 

الهوامش:

[1] انظر: طه حسين: “الحياة الأدبية في جزيرة العرب”، ص15.

[2] المرجع السابق، ص17-18.

[3] المرجع السابق، ص20.

[4] المرجع السابق، ص20-21.

[5] أحمد راشد ثاني: سمات المجتمع الشفاهي: من العزلة إلى الكتابة، في “إشكالية التاريخ الثقافي في مجتمع الامارات”، مجموعة كتّاب، تقديم: حسن مدن، (ص79-106، دائرة الثقافة والإعلام بالشارقة، 2001).

[6] طه حسين: في الشعر الجاهلي، (ط1، ص7، مطبعة دار الكتب المصرية، القاهرة، 1926).

[7] سعد الصويان: الشعر النبطي، (ص85، 59، دار الساقي، بيروت، 2000)، نقلا عن أحمد راشد ثاني، مرجع سابق، ص85 -86.

[8] طارق نافع الحمدانيّ، مي فاضل الرّبيعي: الخليج والجزيرة العربيّة في مجلّة “المقتطف” المصريّة، (ط1، ص 52، بيت الورّاق للنّشر، بغداد، 2010).

[9] عبدالله الغذامي: القصيدة والنص المضاد، (ط1، ص10، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994).

[10]  المرجع السابق، ص10.

[11] الكسندر كوديلي: حول مشكلة صحّة الشّعر الجاهليّ، في “بُحوث سوفيتية في الأدب العربي”، (ص11-12، دار رادوغا، موسكو، 1986).

[[12]] ناصر الدّين الأسد: مصادر الشّعر الجاهليّ وقيمتها التّاريخيّة، (ط2، ص15، القاهرة، 1962). نقلًا عن المرجع السّابق.

[13] الكسندر كوديلي: مرجع سابق، ص17.