“وسائط الاتصال الجماهيري في الولايات المتحدة مؤسسات آيديولوجية فعالة وقوية تقوم بوظيفة دعائية داعمة للنظام، من خلال الاعتماد على قوى السوق، والرقابة الذاتية، باستخدام الوسائل الدعائية الماكرة”..
محمد الصياد*
بحسب أنتوني ديماجيو “Anthony DiMaggio”، الأستاذ المشارك في العلوم السياسية بجامعة ليهاي بولاية بِنْسِيلفِانِيَا الأمريكية، ومؤلف كتاب “الفاشية الصاعدة في أمريكا: يمكن أن يحدث هنا (2022)“، وكتاب التمرد في أمريكا (2020)، وأمريكا غير المتكافئة (2021)، فإن الأخبار الكاذبة ليست بالشيء الجديد. لقد عشنا منذ فترة طويلة في مجتمع ما بعد الحقيقة، حيث تهيمن الدعاية السياسية على وسائل الإعلام الإخبارية “السائدة”، وتساهم في حملات التضليل التي تهدف إلى التلاعب بالرأي العام. ولقد قام الخبير الاقتصادي والإعلامي والناقد الاجتماعي الأمريكي إدوارد إس. هيرمان، والفيلسوف وعالم اللسانيات الأمريكي الشهير نعوم تشومسكي، بتوثيق العناصر الدعائية لوسائل الإعلام بالتفصيل في كتابهما الشهير “تخويل بالتصنيع: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام”
(Manufacturing Consent: The Political Economy of the Mass Media)، نشراه في عام 1988. وفيه جادلا بأن وسائط الاتصال الجماهيري في الولايات المتحدة هي مؤسسات آيديولوجية فعالة وقوية تقوم بوظيفة دعائية داعمة للنظام، من خلال الاعتماد على قوى السوق، والرقابة الذاتية، باستخدام الوسائل الدعائية الماكرة.
وقد أكدت الأعمال الأخرى التي سبقت كتاب “تخويل بالتصنيع: الاقتصاد السياسي لوسائل الإعلام”، مثل كتاب “المتلاعبون بالعقول “The Mind managers” الذي ألفه ونشره في عام 1975عالم الاجتماع والناقد الإعلامي والمؤلف والباحث الأمريكي الراحل هربرت إيرفينغ شيلر
“Herbert Irving Schiller, 1919-2009”، والذي سلط الضوء على جهود النخب السياسية والاقتصادية والإعلامية للتلاعب بعقول الرأي العام عبر الدعاية السلوكية المركزة.
يقول أنتوني ديماجيو، لقد كرست مسيرتي الأكاديمية لتسليط الضوء على الدعاية وكتابة العديد من الكتب حول هذا الموضوع. لذا، فإن الأمر مزعج للغاية عندما أرى إشارات إلى “الدعاية” في صحافة الشركات “Corporate media”التي تحجب تماما الدور الأوسع الذي يلعبه التلاعب في تعزيز أجندات النخب السياسية والاقتصادية المحلية وفي تضخيم جيوب المؤسسات الإعلامية المهيمنة. لقد وثقت دراسات وسائل الإعلام التجريبية منذ السبعينيات هيمنة الحكومة الساحقة على الأخبار. سيطرة الحكومة على الأخبار هي محض بروباغاندا لا جدال فيها في الديكتاتوريات مثل كوريا الشمالية والاتحاد السوفييتي، من وجهة نظر النخب الغربية الحاكمة، لكن تطوع الصحافيين العاملين في المؤسسات الإعلامية الغربية الخاصة بالعمل لصالح الجهات الحكومية، لتمكينها من احتكار الصحف والموجات الهوائية لخدمة أجنداتها الخاصة، فإن نفس النخب تسمي هذا “موضوعية”. لذا فإنني في محاولة لإضفاء بعض العقلانية على مناقشاتنا المعاصرة، للدعاية، ألفت الانتباه إلى الوجود الطويل الأمد للدعاية الإخبارية الوهمية في وسائل الإعلام الأمريكية.
في العصر الحديث لـ “وسائل الإعلام الجديدة”، بما في ذلك ظهور الأخبار على قنوات الكابل ووسائل الإعلام عبر الإنترنت، تحدد الدعاية الإخبارية الوهمية باستمرار المعلومات التي يتم نقلها إلى الجمهور. كان أحد الأمثلة الأولى على ذلك هو الدعاية الصارخة التي قام بها جورج بوش الأب خلال حرب الخليج الأولى عام 1991، والتي صورت صدام حسين والقوات العراقية على أنهم يسرقون حاضنات المستشفيات الكويتية، وبالتالي خلق أزمة إنسانية استدعت تدخلاً عسكريًا. من المعروف الآن (بين أولئك الذين يهتمون بالمعرفة) أن قصة الحاضنة تم اختلاقها، لاستخدامها من قبل بوش كمسوغ لشن الحرب ضد العراق. القصة ملفقة، وصار الجميع على علم بمن لفقها لخلق الذريعة للتدخل الأمريكي. قصة الحاضنات المفبركة هذه، تمت تلاوتها بشكل متكرر إلى ما لا نهاية في وسائل الإعلام الأمريكية، وبالكاد بذلت أية مؤسسة إعلامية أمريكية أي جهد للتحقق من صدقيتها، على الرغم من الكشف لاحقًا عن حقيقة الرواية المحبوكة، وعدم وجود دليل على وقوع الحادثة، إلا أن الحملة نجحت في تزويد قادة الولايات المتحدة بالتبرير الذي يحتاجونه لمهاجمة دولة شرق أوسطية غنية بالنفط وغزو دولة حليفة غنية بالنفط.
والمثير أنه تم خداع الجمهور الأمريكي من جديد بإعادة انتاج قصة حاضنات الأطفال المفبركة في حرب تمزيق وتفكيك سوريا. حيث أدت محاولات الولايات المتحدة لزعزعة استقرار النظام السوري إلى تمكين الجماعات الإسلامية المتطرفة وغيرها من المتمردين، في محاولة مدمرة وعقيمة إلى حد كبير للإطاحة بالأسد بقوة السلاح. ونادرا ما يلاحظ معظم الأمريكيين هذه المأساة، بسبب طبيعة النظرة الضيقة المزمنة للأمريكيين التي تكاد تُصر اهتمامهم وتركيزهم على ما يتعلق بهم فقط داخل بلادهم، على حساب فهم ما يحدث في بقية العالم.
وهناك أمثلة أخرى لا حصر لها من الأخبار المزيفة التي تنشرها وسائل الإعلام الأمريكية، دعوني أسرد وألخص لكم بعضا منها:
(أولا): “دمج” إدارة بوش لصحافيي الإعلام السائد مع الوحدات العسكرية الأمريكية في حرب العراق عام 2003، الأمر الذي تطلب من هؤلاء المراسلين توقيع اتفاقيات تنازل عن سلطتهم الصحافية للجيش لفحص وربما فرض الرقابة على التقارير الإخبارية والمعلومات قبل نشرها أو بثها. فأي صحافي مستقل يحترم نفسه لن يذهب إلى الفراش مع المخططين العسكريين، لكن هذا بالضبط ما حدث في غزو العراق.
(ثانياً): جهود إدارة بوش الناجحة لدفع العديد من النقاد في وسائل الإعلام لطرح آراء الإدارة بشكل صارخ في مقالات الرأي في وسائل الإعلام الأمريكية، كما يتضح من كتابات الدعاية الوقحة، بما في ذلك أرمسترونج ويليامز وماغي غالاغر ومايكل ماكمانوس. وكشفت هذه الفضيحة ازدراء إدارة بوش المطلق للصحافة، معتبرة إياها وسيلة مقيتة يجري التلاعب بها متى شاءت الإدارة.
(ثالثاً): التركيز القديم للمستهلكين الأمريكيين على قصص المشاهير ومنشوراتهم، وظهور أخبار التابلويد في السنوات الأخيرة. في العقود الماضية، كان هناك فصل محدد بشكل أوضح بين محتوى أخبار التابلويد (الصحافة الصفراء التي تركز على القصص المثيرة وشائعات المشاهير ونجوم الرياضة)، ومحتوى الأخبار الجادة. لقد تغير هذا الآن، ومع تزايد استخدام وسائل الإعلام للقصص الإخبارية المشبوهة التي ليس لها قيمة سياسية، وحد أدنى من القيمة الاجتماعية، بما في ذلك وفاة مايكل جاكسون وآنا نيكول سميث، والزفاف الملكي البريطاني، ومحاكمة جريمة قتل درو بيترسون، والتحديثات المنتظمة على الشخصيات الترفيهية العامة مثل Paris Hilton و Kardashians و Lindsay Lohanوتوافه العالم الغربي الأخرى. إن التركيز المتزايد على هذه القصص في البرامج “الإخبارية” النهارية وعلى الكيبلات يحول الانتباه بعيدًا عن القصص الإخبارية الوطنية والدولية المهمة التي يحتاج الأمريكيون إلى معرفتها. فأخبار التابلويد لا تعدو أن تكون حشوا للوجبات السريعة لا قيمة تعليمية لها اطلاقا، إنما قيمتها الدعائية تكمن في قدرتها على نزع الطابع السياسي عن الجمهور.
(رابعاً): التغطية الدعائية الصارخة التي سبقت شن الحرب على العراق عام 2003، والتي كررت ادعاءات إدارة بوش الاحتيالية والغثة، بأن العراق احتفظ بعلاقات مع إرهابيي القاعدة، وإنه يمتلك مخزوناً كبيراً من الأسلحة الكيماوية والبيولوجية، وإنه كان قريبا من تطوير أسلحة نووية سوف تمكنه من مهاجمة أهداف أمريكية في غضون 45 دقيقة بعد إصدار الأوامر العسكرية. فلم يكن أي من هذه الادعاءات صحيحا تماما، كما صار معلوما ومعترَفاً به عالميا الآن. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق، هو السجلات والبيانات العديدة لخبراء انتشار الأسلحة والاستخبارات في الأمم المتحدة، والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ووكالات الاستخبارات الأمريكية، التي عارضت مزاعم بوش، لكن تم تجاهلها باستمرار في الفترة التي سبقت الحرب لصالح دعاية الإدارة. وكما كشف العديد من التقارير فيما بعد، فقد تلاعبت إدارة بوش عن عمد بالمعلومات لإثبات قضية الحرب، متجاهلة كل الأدلة التي ناقضت ادعاءاتها.
(خامساً): فبركة رواية للتحريض ضد مبادرة “أوباما كير” باتهام المؤيدين لها بأنهم إنما يدعمون جهودا فاشية لــ”قتل الجدة” عبر نظرية مؤامرة “لجان الموت”، وهي مؤامرة روج لها وكلاء الدعاية اليمينية الأمريكية، مثل ميشيل باخمان، وهي سياسية أمريكية كانت ممثلة الحزب الجمهوري في مجلس النواب عن الدائرة السادسة في ولاية مينيسوتا من عام 2007 حتى عام 2015، وكانت قد خاضت الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري لمنصب رئيس الولايات المتحدة في انتخابات عام 2012، لكنها خسرت أمام المرشح الجمهوري اليميني المتطرف ميت رومني؛ وسارة بالين السياسية اليمينية في الحزب الجمهوري والشخصية البارزة في تلفزيون الواقع، والحاكم التاسع لولاية ألاسكا من عام 2006 الى 2009. حيث عرضت الأولى هذه القصة الدعائية على مجلس النواب، فيما كادت الأخيرة تنجح في اخراج برنامج إصلاح الرعاية الصحية بالكامل عن مسارها بعد منشور على فيسبوك زعم أن البرنامج مصمم لقتل أطفال متلازمة داون وكبار السن. طبعا لم تكن هناك لجان موت في قانون الرعاية الميسرة، لكن ذلك لم يمنع وسائل الإعلام الرجعية مثل فوكس نيوز والراديو الحواري اليميني من تكرار الرواية المفبركة إلى ما لا نهاية. وللأسف، فقد هيمنت على النقاشات الأمريكية الخاصة بإصلاح الرعاية الصحية دعاية عبثية حول جهود حكومية سرية (غير موجودة) لقتل المواطنين. بدلاً من ذلك، كان من الممكن أن تركز المناقشات على أوجه القصور الفعلية للقانون، مثل إخفاقه في تنظيم أقساط التأمين وتكاليف الرعاية الصحية الأخرى، وتمكين الباعة المتجولين في واشنطن، في مقابل البدائل الأكثر كفاءة وغير الهادفة للربح لتوفير الرعاية الصحية مثل الرعاية الصحية الشاملة.
(سادساً): “التغطية” الفظيعة للاحتباس الحراري والتغير المناخي في وسائل الإعلام الأمريكية، التي تبنت باستمرار الادعاءات الكاذبة لمراكز الفكر والمحللين الممولة من شركات الوقود الأحفوري التي تزعم أن كوكب الأرض لا يسخن، وإذا كان الأمر كذلك، فإن ذلك وارد نتيجة لما تسمى الدورات المناخية، وللتقلبات الطبيعية في درجات الحرارة بمرور الوقت. هذا الموقف، إذا كان يمكن للمرء أن يطلق عليه موقفا، مرفوض فعلياً من قبل كل عالم مناخ على هذا الكوكب، وهو ليس أكثر من دعاية صارخة في خدمة صناعة الوقود الأحفوري وزبائنهم المفيدين في الكونغرس والبيت الأبيض. لكن، وإزاء تزايد الاهتمام المجتمعي مؤخرا بالإجماع العلمي على أن الاحتباس الحراري أمر حقيقي، وينتج بشكل كامل تقريبا عن الأنشطة البشرية، ويشكل تهديدًا خطيرًا للنظم البيئية والتنوع البيولوجي، وربما حتى بقاء الإنسان، فقد سعت وسائل إعلام الشركات (Corporate media)، إلى حجب هذه الحقيقة في كل منعطف من منعطفات النقاشات المتبلورة حول هذه الحقيقة. ولابد في هذا المقام التنويه الى “Media Matters for America”، وغيرها من الوسائل الإعلامية التي تجهد لتدليس التقارير الصحفية بهدف التقليل من أهمية تغير المناخ، من خلال معظم تقارير الطقس المُذاعة في وسائل الإعلام حول حرائق الغابات والفيضانات الساحلية وموجات الحرارة، والتي ترفض ببساطة ادراج هذه الظواهر الجوية المتطرفة ضمن ظواهر تغير المناخ.
هذه مجرد أمثلة قليلة جدا على بث دعاية الأخبار الكاذبة التي تم تبنيها من قبل مراسلي وسائل الإعلام الأمريكيين “المحترمين” (بين مزدوجين). وبالتأكيد، يجب أيضًا التأكيد على الجوانب الأخرى لكيفية قيام وسائل الإعلام الأمريكية بالدعاية للجمهور. على سبيل المثال، السياسة الحزبية الوقحة لوسائل الإعلام الليبرالية والمحافظة مثل MSNBC و Fox News والراديو الحواري (Talk radio)، والتي تقصر عمدًا نطاق الآراء المعبر عنها لتلك التي تعتبر مقبولة من قبل النخب الحكومية التابعة للحزبين الحاكمين الديمقراطي والجمهوري. ولابد أن نضيف هنا الى ثقافة الدعاية، ذلكم التاريخ الطويل من سذاجة الجمهور الأمريكي، حيث يفضل قسم كبير منه “الميمات” (أفكار أو صور أو معلومة تنتشر عبر الثقافة) الطفولية التي تُستخدم الآن بدلاً من تقديم الحجج مع الأدلة الفعلية، وجحافل الرسائل الإلكترونية المتسلسلة المشكوك في صحتها التي يتم إرسالها بين الأشخاص كل يوم، ما يساهم في إضعاف الجمهور بشكل عام، تضاف اليها جهود النخب السياسية والتجارية المختلفة للتلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي عبر الإنترنت من خلال إنشاء أخبار مزيفة.
إن الجوهر الفاسد لأكاذيب وسائل الإعلام الأمريكية له أساس واضح في الخداع المزمن للطبقة السياسية الأمريكية. لقد كان نائب رئيس أركان إدارة بوش، كارل روف “Karl Rove”، مغرمًا بتشويه سمعة الأمريكيين الواقعيين الذين كانوا يرون أن “الحلول يجب أن تنبثق من الدراسة الحكيمة للواقع”. فقد كان يقول بكل غطرسة العسكر، “بأن هذه ليست الطريقة التي يعمل بها العالم بعد الآن. نحن الآن إمبراطورية، وعندما نتحرك، نخلق واقعنا الخاص. وأنتم أثناء دراستكم لهذا الواقع – بحكمة كما تشاؤون – سنتصرف مرة أخرى، ونخلق حقائق جديدة أخرى، يمكنكم دراستها أيضًا، وهذه هي الطريقة التي سيتم بها ترتيب الأمور. نحن ممثلو التاريخ … وأنتم جميعًا (إشارة إلى الأمريكيين والصحافيين)، سنترككم تقومون فقط بدراسة ما نقوم به”.
*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني عمل سابقاً مستشارا في وزارة النفط مسؤولاً عن ملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. صدرت له حديثا ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.