عدا تأثر أسواق المال الأوروبية، يوضح الدكتور محمد الصياد في هذا الجزء من الدراسة حقيقة انكشاف أوروبا على نحو خطير في مجال التزود بالطاقة وكيف يمكن ان يؤثر هذا في اقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي بشكل مفصل.
امدادات الطاقة والتضخم وتباطؤ التعافي الاقتصادي
*محمد الصياد
سيشهد الاتحاد الأوروبي تقلبات كبيرة في أسواق المال والقطع الأجنبي على المدى القصير. وقد انخفضت المؤشرات القياسية للبورصات الأوروبية بشكل حاد في اليوم الأول من الغزو الروسي لأوكرانيا قبل أن تتعافي.
أوروبا مكشوفة على نحو خطير في مجال التزود بالطاقة مقارنة بالولايات المتحدة الأمريكية التي تعد أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي في العالم. وبالتالي، سوف يشهد الاتحاد الأوروبي تضخما أكبر في الأسعار مدفوعا بالارتفاع المطرد في الأسعار العالمية للنفط والغاز. ومن المتوقع أن ترتفع أسعار النفط العالمية من حوالي 100 دولار للبرميل من خام القياس من نوع برنت وقت الغزو، إلى حوالي 120-125 دولارا للبرميل. كما سترتفع أسعار الغاز الطبيعي أيضا على المدى القصير. وإذا اضطر الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل لشراء الغاز الطبيعي من الشرق الأوسط أو الولايات المتحدة الأمريكية على شكل غاز طبيعي مسال، فستكون الأسعار أعلى من ذلك بكثير، ليفاقم وضع التضخم في بلدان المجموعة.
الانتعاش الاقتصادي في أوروبا من جائحة كورونا هو أيضا أكثر ضعفا مقارنة بالاقتصاد الأمريكي. ونظرا لاعتزام البنك المركزي الأوروبي رفع أسعار الفائدة مع ارتفاع التضخم، فمن المرجح أن تؤدي هذه الزيادة الى إضعاف تعافي الاقتصاد الحقيقي بسرعة أكبر من قيام البنك المركزي الأمريكي برفع سعر الفائدة بصورة مماثلة. كما إن زيادات الأجور كانت مؤخرا أبطأ في انتعاشتها، في بلدان الاتحاد الأوروبي، منها في الولايات المتحدة. كما سوف يؤدي ارتفاع أسعار الطاقة والسلع إلى تثبيط الاستهلاك الأسري أكثر وأسرع في حالة الاتحاد الأوروبي أيضا. وقد ترتفع أسعار المواد الغذائية أيضا، حيث يحصل الاتحاد الأوروبي على بعض السلع الزراعية من أوكرانيا.
باختصار، سيؤدي التضخم وزيادة حساسية الاقتصاد الحقيقي في الاتحاد الأوروبي لأسعار الفائدة البنكية، إلى إبطاء انتعاشه الاقتصادي بشكل أكبر. وقد يضاف إلى التباطؤ متغير “كوفيد – اوميكرون 2″ الجديد الذي يبدو أكثر عدوى من اوميكرون السابق. وهو ينتشر حاليا بسرعة في أجزاء من الاتحاد الأوروبي، وسيؤدي إلى تفاقم الاتجاهات نحو التباطؤ الاقتصادي التي تدفع بها تأثيرات الحرب.
ستشعر أوروبا أيضا بتأثيرات الرد الروسي المتبادل بشكل أكبر نسبيا، وذلك على خلفية قيامها بتجميد أصول البنوك الروسية، والوصول إلى الديون الروسية، وعقوبات التصدير والاستيراد المفروضة على روسيا. فلقد تم دمج الاقتصاد الأوروبي مع الاقتصاد الروسي ليس فقط في مجال الطاقة، ولكن أيضا في قائمة طويلة من المنتجات الصناعية والاستهلاكية.
وهناك تأثير سلبي آخر على المدى الطويل، وهو أن الولايات المتحدة ستطلب على الأرجح أن يتحمل الاتحاد الأوروبي نصيباً أكبر من إجمالي عبء الدفاع والإنفاق. وسيؤدي تحويل عائدات الضرائب من برامج الإنفاق الاجتماعي نحو الدفاع، إلى انخفاض صافي الدخل الحقيقي المتاح للعديد من الأسر الأوروبية. ومثله مثل التضخم، سيؤثر هذا أيضا على الإنفاق الاستهلاكي ويبطئ الانتعاش الاقتصادي والنمو، ومن المرجح أن يرتفع الدين الحكومي وديون الشركات في الاتحاد الأوروبي على المدى الطويل بسبب تباطؤ النمو والتضخم.
باختصار، من المتوقع أن يواجه الاتحاد الأوروبي تأثيرات حقيقية سلبية كبيرة على اقتصاده نتيجة للحرب في أوكرانيا. على المدى الأقصر، سيكون هناك المزيد من تقلب أسعار الأصول والعملات، ولكن على المدى الطويل سنشهد ارتفاعا مزمنا للتضخم، وانخفاض الدخل الحقيقي للأجور، وتحمل ضريبة فقدان أسواق الاتحاد الأوروبي في روسيا. وسيؤدي ذلك بالتالي الى تباطؤ الانتعاش الاقتصادي والنمو. كما أن استقرار استجابة السياسة النقدية للبنك المركزي لا يبشر بالخير. فهل سيرفع البنك المركزي الأوروبي أسعار الفائدة لمحاولة إبطاء التضخم عندما يشهد الاقتصاد في الوقت نفسه تطورات مرتبطة بالحرب تعمل بالفعل على إبطاء انتعاشه واقتصاده؟ هذه معضلة كبيرة سيتعين على رئيس البنك المركزي الأوروبي والنخبة السياسية الأوروبية الحاكمة، التعامل معها برفق الحكماء وليس بعنفوان الساسة.
*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني عمل سابقا مستشارا في وزارة النفط مسؤولاً عن ملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. صدرت له حديثا ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.