العواقب طويلة المدى للعقوبات على الرأسمالية العالمية Previous item لماذا لم يتدخل الناتو... Next item تأثيرات العقوبات على...

العواقب طويلة المدى للعقوبات على الرأسمالية العالمية

يصل الدكتور محمد الصياد في هذا الجزء الى الحديث عن عواقب طويلة المدى ستطال النظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي كأحد التبعات الرئيسية للحرب الدائرة بين روسيا واوكرانيا والانقسام الدولي حيالها. ربما ستسهم التأثيرات الارتدادية للعقوبات الغربية على روسيا في تسريع وتيرة التغيير في النظام الاقتصادي العالمي وتاليا ولادة نظام عالمي جديد يقوم على اسس اقتصادية/سياسية جديدة تنهي الهيمنة الأحادية للقوى الغربية التي استمرت لوقت طويل.

 

تغول العقوبات قد يسرع  في تغيير النظام الاقتصادي العالمي

 

*محمد الصياد

بما أن الاقتصاد الرأسمالي العالمي، اليوم شديد التكامل، وبما أن روسيا اليوم أكثر اندماجا في الاقتصاد العالمي مما كان الاتحاد السوفييتي، سواءً تعلق الأمر بالتدفقات الحقيقية للسلع والخدمات؛ أو تدفقات رأس المال النقدي بين الأسواق المالية؛ وتداخل العلاقات بين أسعار الصرف للعملات؛ وكذلك الأنظمة المصرفية والسياسات النقدية – وهذا على سبيل المثال لا الحصر – فإن  العواقب الاقتصادية لحرب أوكرانيا ستقع على الجميع بدرجات متفاوتة، لاسيما على اقتصادات الأطراف الثلاثة المتورطة في الحرب: روسيا وأوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. قد تكون التأثيرات مختلفة نسبيا من حيث النوعية والكمية، لكن الإجراءات المتخذة ضد أحد هذه الأطراف لها انعكاساتها الاقتصادية الحتمية على الجميع.

سيؤثر التضخم الناجم عن تصاعد تضخم أسعار النفط والسلع، بشكل سلبي على الجميع. وعلى الأرجح، ستكون استجابات سياسة البنوك المركزية أضعف في جميع المجالات. وسينتج عن ذلك تباطؤ في النمو الاقتصادي نتيجة توقف تدفقات السلع والخدمات واستمرار مشاكل سلسلة التوريد العالمية، بل وربما تفاقمها. كما أن من المرجح أن تؤدي الحرب واستجابات السياسة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تسريع التغييرات الهيكلية الأساسية في العلاقات بين البلدان والمؤسسات الاقتصادية العالمية.

ولسوف يكون العالم شاهدا على ما إذا كانت الاقتصادات الوطنية، والاقتصاد الرأسمالي العالمي بمجمله، يمكن أن تمتص ضغوط الحرب وتداعياتها، التي حلت تأثيراتها بسرعة محل التأثير المدمر لأزمة كوفيد العالمية؟ ولا ننسى أن نضيف الى كل ذلك، التأثيرات الخطيرة للتحديين الهيكليين الآخرين: الأزمة الصحية العالمية التي لازالت تحورات فيروس كوفيد، تعلن عن استمرار وجودها؛ وعودة إدارة الرئيس الأمريكي بايدن عن التزاماتها تجاه مكافحة ظاهرة تغير المناخ، بدعمها من جديد لأعمال الاستكشاف والحفر والاستخراج النفطي، لمقابلة نقص الامدادات النفطية التي تسببت فيها باختيارها الذهاب الى آخر الشوط في سياسة العقوبات المتوالدة. فالحال، إنه بينما تستمر الأمم في قتال بعضها البعض في الحروب الساخنة والباردة، سوف تستمر أيضا حرب الطبيعة ضد الإنسان، أبرز تجلياتها على الاطلاق، انتشار الأمراض المزمنة وتفاقم مشكلة الاحتباس الحراري. لما كان ذلك، فإن سيناريو منتصف القرن لن يكون ممتعا بالتأكيد.

 

تحديات وفرص

قد يكون أحد أخطاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الاستراتيجية، بأنه ظل يأمل، الى ما قبل تعليق ألمانيا لخط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم 2، بأن روسيا ستتغلب على الأمريكيين في المنافسة على امدادات الغاز الى أوروبا بفضل فارق السعر بين امدادات الغاز الروسي عبر الأنابيب وامدادات الغاز الأمريكي المسال والذي تصل نسبته الى حوالي 30%؛ وكذلك فارق التكلفة وشروط التسليم، بحيث تصبح روسيا الشريك الأول للاتحاد الأوروبي. وهو لذلك لم يولِ اهتماما أبداً بحماية البنوك الروسية على الرغم من جولات العقوبات التي ظل الغرب يفرضها تباعا على بلاده. وهذه مشكلة الدب الروسي، فهو بطيء الحركة، على عكس النمر الأمريكي الرشيق الحركة. وكمثال واحد فقط، فلقد استغرق الأمر منه 8 سنوات قبل أن يستجيب لمعاناة مواطنيه الروس في إقليم الدونباس الذين كانوا يتعرضون لعمليات قتل وتدمير، حرمتهم من كافة أسباب الحياة، وتَوَاصل قصف مناطقهم، ما كبدهم خسائر فادحة في الممتلكات والأرواح (حوالي 14 ألف قتيل منذ انفصال مقاطعتي دونيتسك ولوغانسك عن أوكرانيا في عام 2014 إثر الثورة الملونة التي أطاحت الرئيس الأوكراني فيكتور ياناكوفيتش الموالي لموسكو).

مع ذلك فإن أمام روسيا فرصة للتعويض وسد الفجوات التي خلفتها العقوبات التي فتحت لها الباب واسعاً أمام الإبداع والابتكار والاختراع، وتحقيق قفزات رائدة في مجالات الصناعة والتكنولوجيا. إنه طريق جيد للتقدم والأمن والاستقلال، وخلق المزيد من الوظائف والمزيد من الخدمات والمزيد من المنتجات. فكل جديد ينطوي على أشياء جيدة.

لقد قررت عدة بنوك روسية يوم الأحد 6 مارس/آذار 2022 البدء بإصدار البطاقات المستخدَمة في نظام التشغيل المالي الصيني “يونيون بي”، الى جانب النظام المالي الروسي “مير نيتويرك” بعد اعلان شركات فيزا وماستركارد تعليق عملياتهما في روسيا. وبدأ 11 مصرفاً بإصدار بطاقات الدفع المشترك ذات العلامات التجارية الموحدة، ويبدو أن الجميع سيفعلون ذلك. كما عرض المصرفيون في هونغ كونغ بالفعل شروطًا مربحة للعمل كوسطاء للروس. وفي الجوهر، سوف يدفع الأمريكيون الآن المزيد مقابل النفط الروسي، وستحصل البنوك التي تسيطر عليها الصين على تخفيضات كبيرة. وتُرينا البيانات التالية تعاظم حصة “UnionPay”الصينية مقابل تضاؤل حصة بطاقات الدفع الأمريكية في المدفوعات الإلكترونية العالمية:

حصة أدوات الدفع غير النقدية من حجم المشتريات في جميع أنحاء العالم [1]  التي بلغت في عام 2019، 35 مليار دولار:

ماستر كارد                  18  في المئة

فيزا                           27  في المئة

يونيون بي                    45  في المئة 

محلية                         4  في المئة

أخرى                         6 في المئة

بعض الأوساط الاقتصادية العالمية التي بدأت تتوجس من تغول سلاح العقوبات الأمريكي في العلاقات الاقتصادية الدولية، ترى في شطب روسيا من نظام “سويفت”، خبرا جيدا جدا للعالم. وقد تكون هذه علامة فارقة على بداية انتقال هيمنة الدولار الأمريكي إلى كتب التاريخ. فالآن إذا أراد المستثمر شراء النفط أو الغاز الروسي أو إحدى السلع الأساسية الروسية، ما عليه سوى التوجه الى إحدى القنوات التي سيعتمدها البنك المركزي الروسي لتسوية المدفوعات النقدية الدولية، ودفع المقابل إما بالذهب أو بالرنمينبي الصيني.

أيضا، هذه الحرب قد تدشن وتبلور الانقسام العالمي الذي بدأت ملامحه في الظهور بعد الأسبوع الأول من الحرب الروسية الأوكرانية، الى نصفين، نصفه الأول سيتعامل مع نظام القطبية الواحدة “الأنغلوسكسوني/الأطلسي” القديم الذي تنتظم فيه الدول الأنغلوسكسونية (الولايات المتحدة وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزيلندا) وكافة بلدان القارة الأوروبية تقريبا، فيما سيتعامل النصف الثاني مع النظام المتعدد الأقطاب والثقافات المتمحور حول التحالف “الأوراسي الصيني الروسي”، الذي من المرجح جداً أن يبادر الى تدشين عصر العملات المشفرة، بادخالها في النظام النقدي بصورة رسمية، بحيث تكتسب شرعيتها من السلطات النقدية (البنوك المركزية)، وتتسلم زمام أمور الاضطلاع بوظائفها، أسوة بالوظائف الأساسية لبقية العملات: أداة قياس للقيمة، وأداة تبادل للقيمة، وأداة دفع، وأداة اكتناز.

 

[1] Global Payment Cards Data and Forecasts to 2025

 

*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني عمل سابقا مستشارا في وزارة النفط مسؤولاً عن ملف المفاوضات المتعددة الأطراف الجارية في إطار منظمة التجارة العالمية ومفاوضات تغير المناخ المتعددة الأطراف. صدرت له حديثا ترجمة لكتاب الاقتصادي الأمريكي جوزيف ئي ستيغليتز المعنون “السقوط المدوي – الأسواق الحرة وغرق الاقتصاد العالمي“.