صدر حديثاً لاستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين نادر كاظم كتاب جديد ذو عنوان جذاب يثير قدرا غير قليل من التساؤلات “أمة لا إسم لها”. طلبنا من الدكتور نادر كاظم ان يشرح فحوى كتابة وموضوعه، فخص المدونة بهذا التقديم. يستهل المؤلف تقديمه بمقولتين مخاتلتين رغم التبسيط الشديد الظاهر فيهما. الاولى للسياسي الايطالي ماسيمو دي أزيحليو (1798-1866) الذي اقتبس له: “لقد صنعنا ايطاليا والآن علينا ان نصنع الايطاليين“. اما الاقتباس الثاني فهو للشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش (1941-2008): “سنصير شعباً إن أردنا“. حسناً، رفعت هاتين المقولتين درجة ومستوى التشويق الذي نشعر به، فهيا نقرأ ما يقوله كاظم عن كتابه الجديد:
•نادر كاظم
صدر العدد الأول من مجلة “صوت البحرين” في شهر ذي القعدة 1369 (أغسطس 1950). وهي أول مجلة تصدر في البحرين بعد انقطاع صحيفة “البحرين”، الصحيفة الأولى التي أصدرها رائد الصحافة في البحرين عبد الله الزايد خلال سنوات الحرب العالمية الثانية منذ العام 1939 حتى توقفت عن الصدور في العام 1944. في هذا العدد الأول من المجلة، كتب إبراهيم كمال، المدير المسؤول فيها، افتتاحية قصيرة لم يكن فيها ما يثير الجدل. افتتح إبراهيم كمال كلمته بجملة عادية جدًّا تقول بأن “الصحافة هي لسان الأمّة[1]. والذي لم يكن متوقّعًا أن هذه الجملة العادية جدًّا أثارت استياء طالبٍ بحرينيّ ٍ ٍلم يكن قد بلغ العشرين من عمره بعد، وكان للتوّ التحق بدراسته العلميّة في الجامعة الأمريكية في بيروت. وبدا واضحًا أنه كان متأثّرًا بأفكار المدّ البعثيّ والقوميّ الذي كان سائدًا في الجامعة آنذاك، وخاصة مع وجود قامات قوميّة كبيرة بين أساتذتها مثل قسطنطين زريق، ونيقولا زيادة. لم يكن هذا الطالب سوى علي محمد فخرو (من مواليد العام 1932)، الطبيب والكاتب والوزير وأول بحريني ينضمّ إلى حزب البعث العربي الاشتراكي وهو مازال طالبًا في آخر سنة ثانوية في بيروت في العام 1949/1950.
كتب علي فخرو من بيروت ردًّا شديد اللهجة ضدّ المجلة، وضد افتتاحية إبراهيم كمال على وجه الخصوص، وضد جملة الافتتاحية العادية على وجه أخصّ. والسبب أن إبراهيم كمال استخدم، في افتتاحيته، كلمة “أمّة” ليشير بها إلى شعب البحرين. أبدى فخرو استياءه واستغرابه من هذه الإشارة التي اعتبرها من “الغلطات المخزية” في المجلة؛ وإلّا كيف يقبل القائمون على المجلة، وهم معروفون بتوجّههم القوميّ، أن يطلق مدير مجلتهم المسؤول “على الأفراد القاطنين في البحرين لقب أمّة”؟ بالنسبة لعلي فخرو الشابّ المأخوذ بحماسه البعثيّ الطريّ آنذاك، لا يوجد سوى “أمّة عربيّة واحدة، وأن هذه الأمّة تتمتّع بمزايا خالدة، وتربط أفرادها ربطًا وثيقًا مع بعضهم البعض، وتسبغ عليهم صفات واحدة. فالوطن العربي الكبير لا يضمّ أممًا مختلفة، لا، ولا يعترف بوجودها”. أما أولئك “الأفراد القاطنين في البحرين”، أو تلك “الفئة القاطنة في البحرين” فيمكن للمجلة أن تستخدم أي اسم آخر لتشير إليهم. يمكنها، على سبيل المثال، أن تستخدم “كلمة شعب بدل كلمة أمّة، بالرغم من أن بعضهم لا يعترف بوجود شعوب عربيّة، فيصرّ على وجود شعب عربيّ واحد فقط[2]. والغريب أن هيئة تحرير المجلة ذات التوجّه القوميّ شعرت بالخجل من نفسها، وردّت تعتذر عن هذا الاستخدام غير المقصود لكلمة “أمّة” بدل كلمة “شعب”، وضمّت صوتها إلى صوت علي فخرو، بل شكرته على “كلمته المفعمة بالروح العربيّة، والوعي القوميّ الناضج”.
ماذا يمكن أن نسمّى هذه “الفئة القاطنة في البحرين” إذن؟ هل نسمّيها الأمّة البحرينية؟ بالطبع لا؛ لأنه لا يوجد سوى أمّة واحدة هي الأمّة العربيّة الخالدة. هل نسميها الشعب البحريني؟ أيضًا لا، أو على الأقل هذه مسألة فيها نظر؛ لأنه لا يوجد سوى شعب واحد هو الشعب العربيّ! لماذا لا نسميها “الفئة البحرينية”؟ ثم لماذا نسمّيها أصلًا؟ لماذا نتعب أنفسنا في البحث عن اسم لشيء لا يحتاج إلى تسمية؟ إن الموجودين هناك مجرد “أفراد قاطنين في البحرين”، فهم أصغر من أن يكوّنوا كيانًا جماعيًّا خاصًّا بهم، فلماذا إذن سيحتاجون إلى اسم فخم ومبجّل مثل “الأمّة” و”الشعب”؟
والمسألة هنا لا تخصّ بلدًا صغيرًا بعينه اسمه البحرين، فبالنسبة لهذا النوع من التفكير لا يوجد شيء اسمه “الأمّة العراقيّة” و”الشعب العراقيّ”، ولا يوجد شيء اسمه “الأمّة المصرية” و”الشعب المصري”، ولا “الأمّة المغربية” و”الشعب المغربي”، فلا يوجد سوى “أمّة عربيّة خالدة” و”شعب عربي واحد”، وأما الفئات الصغيرة والكبيرة المبعثرة على رقعة هذا “الوطن العربي” الكبير الواحد، فهي كيانات لا اسم لها، ومجرد أفراد وفئات تقطن هنا أو هناك، ولا تستحق أن يكون لها اسم.
بالطبع، لم يكن علي فخرو يبتكر فكرة جديدة هنا، فما كتبه وهو في مقتبل شبابه هو ما آمن به كل القوميّين العرب من قبله ومن بعد، منذ نجيب عازوري، أول قومي عربي نادى بإنشاء وطن ودولة مستقلّة للعرب، حتى آخر قومي عربي، ومرورًا بآباء القوميّة العربيّة الكبار من ساطع الحصريإلى ميشيل عفلق والآخرين. وإذا كان القوميّون العرب الأوائل لا يعترفون أصلًا بوجود أمم وشعوب عربيّة، فإن القوميّين المتأخرين مثل محمد جابرالأنصاري وعزمي بشارة وآخرين تنازلوا قليلًا وبدأوا، منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين وبعد كارثة غزوّ صدّام حسين للكويت، في محاولة فكّ هذا الاشتباك، أو لنقل تحرير الخلاف بين الأمّة القوميّة والأمّة الوطنيّة، أو بين القوميّة والدولة الوطنيّة (الدولة القطرية بتعبيرهم)؛ على افتراض أن الدولة الوطنيّة يمكن أن تكون خطوة أولى على طريق الوحدة العربيّة المنشودة!
لكن السؤال الذي يتبادر إلى الذهن هو: إذا لم تكن هذه “الفئات” أمّة وشعبًا، ألسنا نقرّ، بذلك، أنها مجرد “فئات” وطوائف وقبائل وعشائر؟ ثم لماذا لا نسمّي هذه “الفئات” أمّة أو شعبًا؟ وما المانع من أن يعترف القوميّون بأن انتماء “الفئات” الوطنيّة إلى أوطانها القطرية أصبح حقيقة قائمة وذات خصوصية؟ وما الذي يمنع من أن يكون لهذه “الفئات”، الجماعات الوطنيّة، اسم كما صار لها عَلم خاص ونشيد وطني وولاء وطني؟ لماذا يبقى الفكر القوميّ العربيّ عاجزًا عن الفصل بين القوميّة السياسيّة التي تهدف إلى تكوين تلك الدولة العربية القومية المنشودة، وبين القوميّة الثقافيّة التي تعني تقاسم العرب للغة وثقافة واحدة، تمامًا كما يتقاسم المسلمون حول العالم دينًا واحدًا؟ يتشابه القوميون والإسلاميون في نزعتهم الأممية، وفي استكثار إطلاق اسم “الأمة” الفخم على تلك “الفئات القاطنة” في هذا الوطن أو ذاك. لقد أرسى جمال الدّين الأفغاني، في مقالاته التي كان ينشرها في مجلته الباريسية “العروة الوثقى” خلال العام 1884، المنحى الذي سيتواصل مع التيارات الإسلاميّة التي ورثت هذا الخط في مصر تحديدًا (محمّد رشيد رضا ومجلته “المنار”، وجماعة الإخوان المسلمين فيما بعد). كان الأفغاني موقنًا بأن “الرابطة الملّية أقوى من روابط الجنسية واللّغة[3]“، وأن “هذا هو السر في إعراض المسلمين – على اختلاف أقطارهم – عن اعتبار الجنسيات، ورفضهم أي نوع من أنواع العصبيات ما عدا عصبتهم الإِسلامية؛ فإن المتديّن بالدين الإِسلامي متى رسخ فيه اعتقادُه يلهو عن جنسه وشعبه ويلتفتُ عن الروابط الخاصة إلى العلاقة العامة، وهي علاقة المعتقَد[4]“. أما رشيد رضا فكان كثير التشنيع على دعاة الوطنيّة (رابطة الجنسية) والقومية (رابطة اللّغة)، وكان يصنّف كل هؤلاء على أنهم متفرنجون يعملون على تفريق الأمة الإسلاميّة وتمزيق وحدتها (الجامعة الإسلاميّة باصطلاح الأفغاني)، يقول: “أما التّفرّق باختلاف اللّغة والجنس والوطن فله في العصر دعاة من المتفرنجين هم أشدّ آفة وفتنة من دعاة التفرّق بالمذاهب”، وهو يطالب “علماء الإسلام الأعلام أن يتّحدوا ويتعاونوا في جميع البلاد الإسلاميّة لكبح شرّ هؤلاء، وتحقيق الوحدة الإسلاميّة التي جعلت المسلمين كلهم أخوة [5].
يدافع الإسلاميون عن فكرة الأمة بما هي رابطة عامة وأخوة في الدين، في حين يدافع القوميون عن ذات الفكرة، ولكن بتغيير المحتوى بحيث تصبح الأخوة، هذه المرة، أخوة في القومية (اللغة) التي انتقدها الأفغاني ورشيد رضا. لكنّ الفريقين ينظران باستنقاص غير قليل إلى الروابط الخاصة، وفكرة الوطن السياسي، والدولة الوطنية، والوطنية “الضيّقة”، وتلك “الفئات القاطنة” في هذه الأوطان الصغيرة. والغريب هنا، إن كثيرين، اليوم، لا يتردّدون في تسمية الإسلاميين بـ”الأصوليّين” و”المتطرّفين” وحتى “الجهاديين” إذا استخدموا العنف في سبيل تحقيق غايتهم؛ لأن هؤلاء لا يعترفون بحدود الدول الوطنيّة القائمة، ويطالبون بإقامة دولة الخلافة الدينيّة التي ستحكم كل أقطار المسلمين، في حين لم يتجرّأ أحد على تسمية القوميين بـ”الأصوليين”، و”المتطرّفين” مع أنهم، كالإسلاميين مع فارق تطبيق الشريعة لدى الإسلاميّين، يؤمنون ويسعون إلى إقامة دولة الوحدة القوميّة. إذا كان القوميّون المتطرّفون يرتكزون على اللغة والثقافة كرابطة قومية بين أمّة العرب الواحدة، فالإسلاميّون المتطرّفون يرتكزون في دعواهم، كذلك، على الإسلام كرابطة دينية بين أمّة الإسلام الواحدة. فهؤلاء لا يختلفون عن أولئك من حيث المبدأ. إذا كانت العلمنة حاجة ضرورية لتأسيس الدولة الوطنيّة، فإنها، في عالمنا، ينبغي أن تكون علمنة مزدوجة: علمنة للدين وعلمنة للقوميّة معًا، بحيث لا تنفصل سياسة “فصل الدين عن الدولة” عن سياسة “فصل القوميّة عن الدولة”.
ولكن ما المعنى الدقيق لهذا الاسم الفخم، “الأمة”، والذي كان الإسلاميون والقوميون العرب يستكثرون إطلاقه على تلك “الفئات القاطنة” هنا أو هناك في تلك الأوطان الصغيرة؟ ما معنى الأمة أصلاً؟ قد يبدو هذا السؤال بسيطًا، إلا أنه أكثر تعقيدًا مما نتوهّم لأول وهلة. والحقيقة أنه من الصعب تقديم إجابة وافية عن هذا السؤال من دون فهم السياقات التاريخية والتنظيرات الأساسيّة التي تناولت مفهوم الأمّة في السياقات الأوروبية على وجه الخصوص؛ لأن كل التنظيرات القوميّة العربيّة، كما سنوضّح في الكتاب، كانت تجترّ تلك التنظيرات الغربية، وتعيد إنتاجها حرفيًّا أو بشيء قليل أو كثير من التحريف.
سيكون علينا لفهم معنى الأمّة أن نطرح هذا السؤال الابتدائي: هل الأمّة ظاهرة طبيعية قائمة بذاتها وتتجلّى في مجموعة سمات ثابتة وقواسم مشتركة أساسية بين مجموعة “إثنية” معينة أم إنها صناعة بشرية ونتاج عمليات إنشاء وتشكيل وبناء وحتى اختراع وتلفيق يقوم بها البشر في سياقات تاريخية معينة؟ وبتعبير ثانٍ، هل الأمّة توجد بمجرد وجود جماعة تعيش في منطقة جغرافية واحدة، وتتقاسم فيما بينها لغة واحدة أو انتماء إثنيًّا واحدًا أو ثقافة واحدة أو لون بشرة واحدًا أو دينًا واحدًا كما يعتقد الإسلاميون والقوميون؟ وبتعبيرٍ ثالثٍ، هل يُولد الناس أمّة أم إنهم يصيرون أمّة؟ لهذا السؤال متعدد الصياغات إجابتان أساسيتان، وهما إجابتان ارتكز عليهما أغلب التفكير النظريّ الذي دار حول فكرة الأمّة منذ القرن التاسع عشر حتى اليوم. وتنتمي الإجابتان إلى نموذجين أوروبيين متعارضين بتعارض تاريخ الأمتين الألمانيّة والفرنسيّة على وجه الخصوص. ولنبدأ أولًا بالنموذج الألمانيّ.
افتقر الألمان، على خلاف الفرنسيّين، إلى وجود دولة مركزية تضمّ داخل حدودها جميع الناطقين بالألمانيّة أو الذين ينتمون إلى الأمّة الألمانيّة. وقبل وحدة ألمانيّا التي تمّت على يد أوتو فون بسمارك في 18 يناير/ كانون الثاني 1871، كان الألمان عبارة عن “أمّة” موزّعة على مجموعة ولايات ودويلات ومقاطعات غالبًا ما كانت تتنافس فيما بينها، أو كانت جزءًا من إمبراطورية مترامية الأطراف تضم بين جوانبها حوالي 300 كيان سياسيّ وهي الإمبراطورية الرومانيّة المقدّسة التي حُلّت رسميًّا في العام 1806 بعد انتصارات نابليون بونابرت، إمبراطور فرنسا الأول. ومع تقدّم الغزو النابليوني، راحت تلك الولايات والدويلات والمقاطعات الألمانيّة تتساقط واحدةً تلو الأخرى. وتحت وقع الاحتلال الفرنسيّ، استفاق الألمان على هول الكارثة التي حّلت بهم، فبدأت تتبلور البدايات الأولى للنزعة القوميّة الألمانيّة أي لذلك الإحساس الآخذ في التصاعد بين الألمان والذي يقول لهم: إنكم أمّة واحدة وعظيمة ومجيدة وضاربة في القدم، وأن حدود هذه الأمّة أكبر من حدود هذه الولايات والدويلات والمقاطعات الخاضعة للاحتلال النابليوني.
أسّست هذه الوضعية الخاصة لتصوّر ألمانيّ خاص عن الأمّة والدولة معًا. وبالنسبة للألمان، فإن الأمّة سابقة في الوجود على الدولة. وعلى هذا، فإن الأمّة أهم وأعظم من الدولة؛ لا لأن الأمّة تتوزّع على حدود أكبر من حدود الولايات والدويلات والمقاطعات فحسب، بل لأن الأمّة تعبّر عن “حقيقة” طبيعية موجودة قبل وجود الدولة ككيان سياسيّ مصطنع ونشأ لتنظيم شؤون البشر ضمن إقليم محدّد. لقد نشأ هذا التصوّر عن الأمّة والدولة عند الألمان في سياقات تاريخية محدّدة، وتحديدًا في سياق حركة تحرّر “قومي” ضد احتلال أجنبي “فرنسي”. فقد عمل الاحتلال الفرنسيّ لألمانيّا على تضخيم إحساس الألمان بعظمة الأمّة الألمانيّة المجيدة ورفعها إلى مرتبة سامية ومتعالية من جهة، وعلى التهوين من أهمية الدولة كتنظيم سياسيّ بشري مصطنع من جهة أخرى. بدأ هذا كميكانيزم (آلية) سيكولوجي لاستيعاب الهزيمة والخسارة، وللتخفيف من هول الكارثة؛ لأنه إذا حصل وخضعت الدولة للاحتلال أو حتى انهارت وتلاشت من الوجود، فإن هذا لا يعني خضوع الأمّة أو انهيارها أو تلاشيها. لماذا؟ لأن الأمّة “حقيقة” طبيعية أكبر من الدولة. إن الأمّة شيء، والدولة (الولايات والمقاطعات ومختلف الكيانات السياسيّة) شيء آخر، وهذان شيئان لا يتطابقان بالضرورة.
ومن أجل تقديم صياغة عقلية مقبولة لهذا الميكانيزم السيكولوجي، كان لا بد من ربط الأمّة بكيان راسخ، وضارب في القدم، ومتعالٍ على ما هو “بشري” و”تاريخي”. وهذا لا يتحقّق إلا بربط الأمّة بحقيقتين: حقيقة إلهية سامية ومتعالية ومفارقة وخالدة، أو حقيقة طبيعية/عضوية أي غير إلهية لكنها سامية وخالدة كالحقيقة الإلهية. وسيكون من الصعب ربط الأمّة بحقيقة إلهية في عصر جرى علمنته على نطاق واسع في الولايات والمقاطعات الألمانيّة آنذاك، فلم يبق، وخاصة مع الأهمية الكبيرة التي اكتسبها علم الأحياء في تلك الفترة، إلا ربط الأمّة بحقيقة طبيعية/عضوية يكون لها ما كان للحقيقة الإلهية من سموّ وتعالٍ وخلودٍ في التصوّر الدينيّ المسيحيّ. وهنا جرى تأليه الأمّة كحقيقة طبيعية/عضوية لدى مفكري ألمانيّا القوميّين الرومنسيين الأوائل. إن الأمّة ليست حقيقة إلهية بالضرورة، لكنها تمتلك سمات الحقيقة الإلهية لكونها خالدةً وساميةً ومتعاليةً على الظروف التاريخية والملابسات البشرية المتغيّرة على الدوام. ويمكن القول بأن الأمّة أصبحت بمثابة “الإله الطبيعي” أو “الإله الدنيوي” الذي هو أعظم منا نحن الأفراد الذين من لحم ودم، والذين نولد ونمرض ونموت خلال دورة حياة قصيرة وعابرة. إن الأمّة، بحسب هذا التصوّر، جوهر ثابت وخالد وأكبر من حيوات الأفراد، ولهذا فهو لا يتغيّر بتغيّر الزمان، والمكان، والظروف، والأفراد، بل هو الكيان الكليّ المتحكّم في الزمان، والمكان، والظروف، والأفراد. وهو، فوق كل هذا، وليّ نعمة هؤلاء الأفراد، فهو الكيان الذي يمنح لوجودهم القصير العابر معنى ساميًا ووجودًا خالدًا. إن هذا النوع من مديونية المعنى والخلود حريّ به أن يدفع الأفراد إلى حدّ التضحية بحياتهم الزائلة من أجل خلود هذه الأمّة العظيمة.
يقع مفهوم الأمّة، في النموذج الفرنسيّ، على الضدّ من هذا الفهم التأليهي المتعالي الذي كوّنه الألمان إبان الاحتلال الفرنسيّ للولايات والمقاطعات الألمانيّة. يقطع النموذج الفرنسيّ الرابط الذي أقامه الألمان بين الأمّة والكائن العضوي، فالأمّة، هنا، ليست كائنًا عضويًا، بل هي بناء يُبنى ويُصنع بإرادة البشر وقرارهم، وينهار، كذلك، بإرادة البشر وقرارهم. وهذا قلب جذري للنموذج الألمانيّ عن الأمّة. الأمر الذي يجعل الأمّة في مستوى واحد مع الدولة بما هي بناء بشري مصطنع. ويترتّب على هذا نتيجة أخرى، وهي قطع الصلة المفترضة أيضًا بين الأمّة والعرق، فالأمّة لا تتطابق مع العرق على الضد من النموذج الألمانيّ. وعلى هذا لا ينبغي سحب تصوّراتنا عن العرق على الأمّة، فالأمّة شيء، والعرق شيء آخر. والأمّة، كذلك، ليست جوهرًا ضاربًا في عمق التاريخ، بل هي مفهوم حديث إلى حدّ كبير، وأن العصور القديمة لم تعرف هذا النوع من الأمم، فلم تكن مصر والصين والكلدانيون والآشوريون القدماء وفارس وأثينا وإسبرطة وصيدا وصور والغاليين والرومان وغيرهم، لم تكن كل هذه التكوينات أممًا بأي حال من الأحوال. نعم كانت تتبنّى نوعًا من التنظيم الإداري الذي يصغر ليكون بحجم الدول-المدن أو يكبر ليكون بحكم الإمبراطوريات الضخمة، إلا أن كل هذه التنظيمات الإدارية لم تكوّن ما يمكن أن نسمّيه “الأمّة”.
إن الأمّة، في النموذج الفرنسيّ، مبدأ معنوي بالدرجة الأساس، أي إن تكوين الأمّة يعتمد على إرادة البشر وقرارهم بصرف النظر عن تجسّد ذلك في قواسم مشتركة على أساس العرق، أو اللغة، أو الدين، أو المصالح، أو الجغرافيا. لا تحتاج الأمّة إلى هذه القواسم المشتركة لتوجد، بل هي توجد أولًا بإرادة البشر ثم تكوّن، فيما بعد، قواسمها المشتركة الخاصة. إن الأمّة تبنى بناءً، وأن هذا البناء يرتكز على أساسين: أساس في الماضي، وأساس في الحاضر، “الأول هو امتلاك قواسم مشتركة لإرث ثري من الذكريات؛ فيما الآخر هو القبول الراهن، والرغبة في العيش معًا، والرغبة في مواصلة الاستثمار في التراث الذي تلقيناه معًا”. إن موافقة الناس والتزامهم بالعيش معًا في دولة واحدة هو الذي يكوّن هذه الأمّة، وهو “الاستفتاء اليومي” على ديمومة هذه الأمة.
النموذجين الألماني والفرنسي وفق فيخته ورينان
لمعرفة أصل هذه الأفكار في النموذجين الألمانيّ والفرنسيّ عن الأمّة، سيكون علينا العودة إلى اسمين أساسيين: الأول هو المفكّر الألمانيّ يوهان غوتليب فيخته (1762-1814) الذي قدّم الصياغة المكتملة للتصوّر الألمانيّ عن الأمّة في خطاباته الشهيرة إلى الأمّة الألمانيّة إبان الاحتلال الفرنسيّ لألمانيّا، وتحديدًا في العامين 1807 و1808. وهي الصياغة التي تأثّر بها معظم القوميّين العرب منذ ساطع الحصري إلى ميشيل عفلقوآخرين كما سنرى في الفصل الثاني. والاسم الثاني هو المستشرق الفرنسيّ المعروف إرنست رينان (1823 – 1892) الذي قدّم الصياغة الأشهر للنموذج الفرنسيّ عن الأمّة، وأيضًا في محاضرة ألقاها في جامعة السوربون في العام 1882، أي بعد سنوات قليلة من هزيمة فرنسا المذلّة أمام الألمان في حرب العام 1870. أعلن الألمان قيام وحدتهم (الرايخ الألماني) بعد انتصارهم في هذه الحرب مباشرة، وكان الإعلان من داخل قصر فرساي الفرنسي إمعانًا في استفزاز المشاعر الفرنسية، هكذا وكأن وحدة الأمة لا تكون إلا نتيجة الهزيمة والاستفزاز. حصل هذا في ألمانيا في العام 1806، وتكرّر في فرنسا في العام 1871.
وعلى هذا الأساس، سنعمد في الفصل الأول من الكتاب إلى تقديم النموذجين الألمانيّ كما لدى يوهان فيخته، والفرنسيّ كما لدى إرنست رينان. كما سنترجم النصين الأساسيين في هذين النموذجين، وهما خطاب فيخته الثامن للأمّة الألمانيّة، ونص محاضرة “ما الأمّة؟” لرينان؛ وذلك لأهمية هذين النصين لفهم كل تنويعات مفهوم الأمّة التي جاءت بعد فيخته ورينان غربياًّ وعربياًّ. أما غربًياًّ فقد جرى تجاوز النموذج الألمانيّ منذ النصف الثاني من القرن العشرين، وأخذ النموذج الفرنسيّ، تصوّر رينان عن الأمّة، يتوسّع بتنويعات عديدة. سيقدّم إرنست غلنر تعريفه للأمة بما هي اختراع حديث، وضرب من التجانس الثقافي واللغوي فرضه العصر الصناعي والتحديث وتوسّع التعليم العام وتحسّن الاتصالات والمواصلات. إن القوميّة، عند غلنر، لا تفرض التجانس، بل إن التجانس هو الذي يظهر، في النهاية، على السطح في شكل قوميّة. وهو المعنى الذي تبنّاه المؤرخ البريطاني الشهير إريك هوبسباوم، وبنى على أساسه تصوّره عن “اختراع التقاليد”، و”الأمّة بما هي بدعة جديدة” و”اختراع حديث”. وينقل هوبسباوم عبارة لــ ماسيمو دي أزيجليو، رجل الدولة الإيطالي (1798-1866)، تلخّص معنى اختراع الأمّة لديه، يقول دي أزيجليو: “لقد صنعنا إيطاليا، والآن علينا أن نصنع الإيطاليين”.
وتبقى صياغة بندكت أندرسون الصياغة الأشهر عالميًّا حول تعريف الأمّة. وهو التعريف القائل بأن الأمّة عبارة عن “جماعة سياسيّة متخيّلة، ومتخيّلة على أنها محدّدة وذات سيادة على نحو متأصّل”.
وسنخصّص الفصل الثاني لمناقشة أبرز الإسهامات العربيّة حول مفهوم الأمّة، وسنبدأ من جيل روّاد النهضة العربيّة الأوائل، وتحديدًا من رفاعة الطهطاويّ وخير الدين التونسيّ. كانت فكرة القوميّة، لدى هذا الجيل، بمثابة “لا مفكّر فيه”. لم يكن الطهطاويّ والتونسيّ يفكّران ويكتبان بعيون قوميّة “عروبية” تضع الأمّة العربيّة ونهضة الأقطار العربيّة كاملة بعين الاعتبار. وهذا ما يجعلنا نقول بأن القوميّة كانت بمثابة “لا مفكّر فيه” عندهما. أما ما كان في دائرة تفكيرهما فهو مفهوم للأمّة يتحدّد بأحد محدّدين بناء على حجم الدولة المطروح. لدى خير الدين التونسيّ، على سبيل المثال، مقاسان اثنان للدولة لا غير: مقاس الدولة الوطنيّة على غرار تونس للتونسيين ومصر للمصريين، ومقاس الدولة الإمبراطورية العثمانية التي تكوّن “أمّة عثمانية” مترامية الأطراف وتتألّف من إثينات وديانات وأقاليم شاسعة تمتدّ على ثلاث قارات.
كان الطهطاويّ مأخوذًا بنموذج التنوير الفرنسيّ، فيما كان التونسيّ يفضّل النموذجين الإنجليزيّ والفرنسيّ، إلا أن القوميّين العرب الأوائل ضربوا عرض الحائط بهذين النموذجين معاً، ووضعوا النموذج الألمانيّ في صدارة اهتماماتهم ومشاغلهم. لم يعش الطهطاويّ والتونسيّ ليريا الفرنسيّين والإنجليز يتقاسمون الأقطار العربيّة المشرقية فيما بينهم تحت مسمّى الانتداب. وهي الحقيقة المُرّة التي استفاق على وقعها الجيل الأول من المنظّرين القوميّين العرب منذ ساطع الحصري وميشيل عفلق وآخرين. وعلى هذا، كان التصوّر الألمانيّ يقدّم نفسه أمامهم كنموذج يغري بالاحتذاء، بحكم التشابه بين السياقين: السياق الألمانيّ إبان الاحتلال الفرنسيّ، والسياق العربي إبان الانتداب الفرنسيّ والإنجليزيّ. ففي الحالتين نحن أمام أمّة محتلّة وتتخيّل نفسها وهي مقطّعة الأوصال وموزّعة على أكثر من دولة وكيان سياسيّ. إلا أن هذا الإعجاب القوميّ العربي بالنموذج الألمانيّ، نموذج الأمّة التي تبحث عن دولتها المستقلّة، لم يدم طويلًا، فمع استقلال أغلب الدول العربيّة خلال القرن العشرين، واستمرار الفشل في تكوين دولة قوميّة لكل الأمّة العربيّة، بدأ بريق النموذج الألمانيّ يخفت شيئًا فشيئًا حتى لم يعد أحد يلتفت إليه الآن.
وعلى الرغم من صعوبة رسم مسار واضح لتحولات مفهوم الأمّة في الفكر القوميّ العربي منذ الجيل الأول حتى اليوم، إلا أن المرء يستطيع أن يرسم مسارًا يبدأ بالنموذج الألمانيّ (فيخته والأمّة الخالدة)، ثم ينعطف نحو النموذج الفرنسيّ (رينان وإرادة العيش المشترك التي تصنع الأمّة)، ثم يمضي قُدُمًا نحو التصوّرات التي تمثّل استمرارًا لمفهوم رينان عن الأمّة، أي فكرة القوميّة التي تخترع الأمّة (غلنر)، والأمّة بما هي جماعة متخيّلة (أندرسون). وحتى تتضح الصورة أكثر سنقدّم المسار الذي قطعه مفهوم الأمّة من خلال ثلاثة أجيال من القوميّين العرب. سنبدأ بنجيب عازوري وساطع الحصري ميشيل عفلق، ثم نعرّج على قسطنطين زريق ونديم البيطار، ونختتم، أخيرًا، بعزمي بشارة ومحمد جابر الأنصاري.
سيكون الفصلان الثالث والرابع أقرب إلى التطبيق. سنبدأ، في الفصل الثالث، في قراءة تجربة العراق، دولة وأمّة، وهو نموذج ظلّ يعاند تصوّرات القوميّين لسنوات طويلة، وكثيرًا ما طُرح لديهم كنموذج على فشل الدولة الوطنيّة في تكوين هوية وطنية عراقيّة جامعة لكل الطوائف والعشائر والإثنيات. ولأن العراق الحديث يمثّل تجربة عربيّة فريدة، فإنها تحتاج إلى وقفة تحليليّة أطول، بحيث يمكن تقديم مقاربة متماسكة تسعى إلى فهم ما جرى في العراق الملكي والجمهوري في بداياته ومآلاته. ولا يمكن تقديم هذه المقاربة من دون الارتكاز على أبرز ثلاث قراءات سوسيو سياسيّة في تاريخ العراق الحديث، دولة ومجتمعًا: عليّ الورديّ، حنّا بطاطو وفالح عبد الجبّار.
أما الفصل الرابع، وهو أطول فصول الكتاب، فسيكون مخصّصًا لقراءة تجربة البحرين، وسنحاول تقديم قراءة جديدة في تاريخ بناء الأمّة في هذا البلد العربي الصغير في حجمه، الفريد في تكوينه. وإذا كان بناء الأمّة هو حصيلة توحيد إثنيّات وطوائف وجماعات وقبائل في جماعة متخيّلة واحدة، فإن هذه المهمة اضطلعت بها في البحرين ثلاث أدوات أساسية (الدولة الحديثة، وشركة نفط البحرين، والانتفاضات الوطنيّة). لقد مثّلت هذه الأدوات التوحيدية الثلاث، بتزاوج قصص نجاحها وفشلها، أملها وألمها، وبوعي أو بدون وعي، أدوات التاريخ والسيرة الملحميّة لبناء الأمّة الحديثة والجماعة الوطنيّة في البحرين منذ بدايات ثلاثينيات القرن العشرين حتى أواخر سبعينياته. ثم منذ الثمانينيات يبدأ مسار آخر مغاير، حيث فقدت كل أدوات التوحيد الثلاث (الدولة، والشركة، والانتفاضات الوطنيّة) قدرتها على توحيد أبناء “الطوائف المتخيّلة” العابرة للأوطان في أمّة مواطنين وجماعة وطنية واحدة. الأمر الذي سيرسم مصير تلك “الفئة القاطنة في البحرين”، أو أولئك “الأفراد القاطنين في البحرين”، والذين كان علي فخرو مستاءً من تسميتهم “أمّة” أو “شعب” في العام 1950. هل يمكن اليوم، في العام 2022، أن نسمّيهم “أمّة” أو “شعبًا”؟ أم إنهم مازالوا “فئة” أو فئات “قاطنة في البحرين”؟ أم صاروا جزءًا من “طوائف” المنطقة “المتخيّلة” العابرة للأوطان، وصاروا كما كانوا: أمّة لا اسم لها؟
* نادر كاظم كاتب وناقد ثقافي بحريني وأستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين. صدرت له عدة كتب في النقد الثقافي والفكر الحديث وقراءة التاريخ آخرها “لماذا نكره” و”المقامات والتلقي”، “تمثيلات الآخر”، “الهوية والسرد”، “طبائع الاستملاك“، “استعمالات الذاكرة”، “إنقاذ الأمل”، “كراهيات منفلتة” و”خارج الجماعة”. صدر له مؤخرا كتاب” تاريخ الأشياء”.
الهوامش:
[1] مجلة “صوت البحرين”، العدد الأول، ذو القعدة 1369، ص4
[2] مجلة “صوت البحرين”، العدد الثاني، ذو الحجة 1369، ص28
جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده، فاتحة الجريدة، مجلة العروة الوثقى، (القاهرة: مؤسّسة هنداوي للتّعليم والثّقافة، 2014)، ص36 [3].
[4]جمال الدّين الأفغاني ومحمّد عبده، الجنسية والديانة الإسلامية، مجلة العروة الوثقى، ص42
[5] محمد رشيد رضا، افتراق الأمة الإسلامية والفرقة الناجية، مجلة المنار، الجزء الثّاني عشر، المجلد الثّالث عشر، 1 يناير 1911، ص906.