صدر حديثا للدكتور حسن مدن كتاب “حداثة ظهرها الى الجدار” عن دار الرافدين في بيروت وبغداد. لقد ظل النمو السريع والقفزات التي حققتها دول الخليج بفضل ثروتها النفطية الهائلة موضوعاً حاضرا في الدراسات الثقافية التي ماتزال تبحث عميقا في محاولة لاستكناه كل ما انتجته هذه القفرات السريعة في التنمية ومحاولة فهم العديد من الظواهر التي ترد لهذا النمو السريع. طلبنا من المؤلف ان يشرح للقراء فحوى كتابه وموضوعه، فخص المدونة بهذا التقديم.
حداثة ظهرها إلى الجدار
حسن مدن*
يمكن القول إنّ اكتشاف النّفط أدّى في غالبيّة مجتمعات الخليج – وليس كلّها بالضرورة – إلى أنّها لم تعبر برزخ التّحوّلات البطيء والطّويل الذي عبرته المجتمعات الأخرى، وإنما قفزت قفزة سريعة من حالٍ إلى حال؛ لأنّ ما جرى كان أشبه بخرق للمسار الطّبيعيّ الرّتيب الذي كانت عليه هذه المجتمعات قبل ذلك، في ظلّ حياة بسيطة فيها من الشّظف والقسوة الشّيء الكثير، وكان منطق الأمر – لولا النّفط – يقتضي أنّ تطوّر هذه المجتمعات – في حال حدوثه – تحت تأثير عوامل أخرى داخليّة وخارجيّة، سيكون بطيئاً، لكنّ النّفط – بعائداته الكبيرة – قلب هذا المسار رأسًا على عقب، فأحدث ما يشبه الانقلاب لا في بنية الاقتصاد وحده، والاصطفافات الاجتماعيّة، وإنّما أيضًا في الأفكار والقيم والسّلوك.
وبوسعنا تبيّن الفارق الواضح بين التّحوّلات البطيئة التي تتراكم طبقة فوق طبقة، فتجعل الانتقالات سلسة أو مفهومة ومبرّرة، وبين القفزة الطّارئة التي وجدنا أنفسنا في خضم نتائجها العاصفة سلوكيًّا وقيميًّا واجتماعيًّا.
ليس من الإنصاف – بطبيعة الحال – أنْ نقلّل من حجم التّحوّلات الاقتصاديّة وإنجاز البنى التّحتيّة، ومستوى الخدمات الاجتماعيّة التي شهدتها مجتمعات الخليج بعد تدفّق عوائد النّفط، لكن الهوّة بين هذه النّهضة وبين التّحوّل الاجتماعيّ – الثّقافيّ التّراكميّ ما زالت شاسعة، كأنّ ذلك ضريبة التّحوّل المفاجئ الذي لم يكن في الحسبان، حيث وجدت المجتمعات الخليجيّة نفسها في منظومة مختلفة – وغير مسبوقة بالنّسبة لها – من أنساق القيم والثّقافة، فما من جانب من جوانب الحياة إلّا واهتزّ أو تغيّر تحت تأثير ذلك.
ومع أنّ القوانين التي تحكم عملية التّحوّل من هياكل البنى التّقليديّة إلى هياكل العصرنة والتّحديث، في المجتمعات (النّامية) الأخرى تسري – أيضًا – على مجتمعات الخليج، ونتحدّث هنا عن الحداثة بوصفها حركة انفصال، أو قطع مع الماضي، ولكن ليس بهدف نبذه وإنما لاحتوائه وإدماجه في مخاض التّحديث المتجدّد، فهي والحال كذلك اتّصال وانفصال، استمرار وقطيعة، ومن شأن الحداثة أنْ تصيب المجتمع التّقليديّ بصدمة تجعله يشهد اهتزازات وتحوّلات في كلّ مستويات نسقه الاجتماعيّ، إمّا في اتّجاه التّكيّف مع الحداثة أو في اتّجاه رفضها، مُطلقة في هذه المجتمعات صراعًا عسيرًا بين مقوّمات التّقليد، ومقوّمات الحداثة، وهذا الصّراع ليس اختياريًّا أو إراديًّا بلْ هو مخاض موضوعيّ ناتج عن مظاهر تقدّم الحداثة، كما أنّه صراع مفتوح لأنّه يدخل هذه المجتمعات في مخاض من التّحوّل طويل المدى.
ولا يمكن إغفال أنّ هناك سمات محليّة لهذا التّحوّل في الظّروف التّاريخيّة والعيانيّة الخاصّة بالمنطقة، وبكل بلد من بلدانها، لكنّها خضعت كبقيّة البلدان العربيّة والإسلاميّة للهيمنة الأجنبيّة الطّويلة التي أطبقت اليد على مجريات الأمور فيها، على النّحو الذي شرحناه في فصول أخرى، كما أنّ تجاور – أو تعايش – الثّقافتين التّقليديّة والحديثة في المجتمع، ليست حالًا خاصّة ببلدان الخليج، إذ نجد نظيرًا لها في كلّ البلدان العربيّة والإسلاميّة بدون استثناء، لا بل في جميع البلدان النّامية، وهذا التّجاور – أو التّعايش – لا ينفي ما بين الثّقافتين من تضاد، وأحيانًا صراع حادّ، بفعل الصّدمة النّاجمة عن احتكاك المجتمعات التّقليديّة، بعد طول عزلة، بالمؤثّرات الخارجيّة وتحت ضغط حاجات التّطوّر الاجتماعيّ والثّقافيّ الدّاخليّ وديناميّاته، لكنْ يمكن القول إنّنا هنا بصدد صور من الازدواجيّة في البناء الاجتماعيّ – الثّقافيّ، وفي سلوك وتفكير الأفراد والجماعات، حيث تتجاذبهم ميول متناقضة، بعضها تقليديّ موروث، وبعضها جديد آت من التّأثر برياح التّغيير التي لعبت عائدات النّفط دورًا حاسمًا في تحريكها.
هذا التّعايش – والتّضاد في الآن نفسه – بين الثّقافتين التّقليديّة والجديدة، لا يزال حتّى اليوم، تقابل أصيل وحقيقي، فالتّحديث يقدّم رموزه الثّقافيّة والإبداعيّة التي تشقّ طريقها بصعوبة – تزيد أو تقلّ – فيما الماضي ما زال قادرًا على إعادة إنتاج رموزه، في ما يشبه ردّة الفعل التي تنطلق من الرّغبة في التّمسّك بما يعدّ رموزًا للهويّة الوطنيّة والثّقافة المحليّة التي يراها البعض مهدّدة بالزّوال أو الاندثار، ونشهد جهودًا في إحياء بعض مظاهر الثّقافة التّقليديّة كالشّعر النّبطيّ والرّقصات والألعاب والسّباقات التّقليديّة، ولكن باستخدام وسائل الاتّصال الحديثة، فنصبح إزاء ظاهرة جديدة من نوعها، فوسائل الاتّصال الحديثة والمتطوّرة جدًّا التي تتوسّل أساليب الإعلام الجماهيريّ تستخدم لإحياء مظاهر من الثّقافة التّقليديّة، وينال ذلك بطبيعة الحال اهتمامًا أوسع وأكبر بكثير ممّا تناله مظاهر الثّقافة الجديدة التي يتعيّن عليها في حالات كثيرة النّضال في سبيل تثبيت مشروعيّتها، كتعبير عن تحوّلات حديثة راهنة ومستقبليّة.
وهكذا يشقّ التّحديث طريقه وسط مغالبة لأنساق التّنظيم والقيم التّقليديّة، في اتّجاه أنماط تنظيم وسلوك جديدة، تحت تأثير وتائر التّنمية السّريعة التي تتحقّق، وهذه الوتائر تعجّل من انبثاق أشكال وعي وسلوك جديدين لا ينتسبان إلى المنظومة التّقليديّة التي اعتادتها هذه المجتمعات فترة الجمود الطّويل التي عاشتها، وقيام الأشكال الإداريّة الحديثة، فينجم عن هذه التّحوّلات ما يصفه بعض الباحثين بالمصادمة بين منظومتين متابينتين: تقليديّة وحديثة، وهي بدورها تحدث الاختلال والاختلاط في المعايير، أو ما أطلق عليه الدكتور يوسف الحسن “قلق القيم”، وفي مجتمعات الخليج يبدو الأمر أكثر تعقيدًا، حيث حلّت الدّولة الحديثة محلّ اللادولة والبنى التّقليديّة.
كما أنّ هذا التّطوّر نفسه جعل من القوى المصنّفة تقليديّة أو محافظة حكمًا من برامجها الاجتماعية تعيد النّظر في بعض ما كان يعدّ (ثوابت)، تماشيًا مع الضّرورات الموضوعيّة التي تجعل من الصّعب الإبقاء على الكثير من المظاهر التي لم تعد تنسجم مع واقع التّحديث، دون أنْ يعني هذا أنّ نفوذ البنى التّقليديّة قد اختفى، بل إنّه في بعض الحالات لعب دورًا حاسمًا في تقرير حجم ومدى وشكل وآفاق التّحوّل الاجتماعيّ – الثّقافيّ، وهذه القاعدة تصحّ على الكثير من المجتمعات التي لم تخضع أو لم تمرّ بتغييرات حاسمة قطعت مع هذه البنى أو فكّكتها أو أنهتْ دورها، بما في ذلك في البلدان التي عرفت أنظمة (راديكاليّة) جاءت إلى السّلطة تحت شعارات التّحديث؛ لأنّ ما أدخلته هذه الأنظمة من تغييرات ظلّ في الغالب عند حدود السّطح الخارجيّ ولم يمسّ عصب البناء التّقليديّ الموروث، وفي أحايين كثيرة فإنّ عمليّات التّحديث العشوائيّ استنفرت واستفزّت البنى التّقليديّة وأطلقتها من عقالها، فما أنْ قيّضتْ لهذه البنى أوّل فرصة لردّ الاعتبار لنفسها ولدورها فإنّها لم تتردّد في ذلك، فضلًا عن أنّ بعض هذه الأنظمة التي صُنّفتْ بـ(الرّاديكاليّة) – وهي ليست كذلك حقيقة – لجأت هي نفسها إلى توسّل الولاءات القبليّة والعشائريّة والمذهبيّة؛ كي تؤمّن لنفسها سندًا اجتماعيًّا أمام تآكل شرعيّتها السّياسيّة.
وهنا لا بد منْ توضيح أمرين. الأوّل هو أنّ الحديث هذا يكتسب مبرّرات مهمّة عند مقارنة واقع العالم النّامي مع الواقع الغربيّ – في أوروبا خاصّة – حيث أدّت الانقلابات الثّوريّة الكبرى هناك إلى تحوّلات جذريّة، لم يعد معها الحديث عن ثنائيّة التّقليد والحداثة حاضرًا بالقوّة التي هو عليها في البلدان النّامية، بما فيها البلدان العربيّة والإٍسلاميّة، أمّا الأمر الثّاني فيتّصل بكون الحديث عن البنى التّقليديّة لا يتضمّن حكم قيمة، نعني أنّه لا يحمل بالضّرورة مدلولًا سلبيًّا، انطلاقًا من واقع أنّ هذه البنى التّقليديّة مكوّن أصيل منْ مكوّنات البنيان الاجتماعيّ – السّياسيّ في هذه البلدان، فيما لو أحسن توظيف ما هو إيجابيّ ومتجدّد فيها، ودمجه في الأنساق الحديثة.
(أخيرًا، لماذا حداثتنا ظهرها إلى الجدار؟)
الحداثة في مجتمعات الخليج والجزيرة العربيّة “ممتنعة” – حسب الوصف الذي أطلقه باقر النّجّار في كتابه الذي حمل العنوان نفسه (راجع المدونة) وهو يناقش مسارات الحداثة في مجتمعات الخليج العربيّ، وهي ممتنعة – برأينا – لأنّها حداثة ظهرها إلى الجدار، ونعني بهذا التّوصيف أنّ التّحديث في مجتمعاتنا الخليجيّة ما زال يتّكئ على جدران، أيْ على الجانب العمرانيّ – المظهري غير الخافي على الأعين، وهذا الجدار نفسه، يتحوّل، مع مرور الوقت، إلى صدّ بوجه تقدّم الحداثة، حين يفهم أن العمران القائم هو نفسه الحداثة، وما هو بذلك، وكما أشرنا في أكثر من موضع في الكتاب فإنّ المدينة الخليجيّة الجديدة تكاد لا تشبه في شيء الصّورة التي كانت عليها قبل عقود فقط، أمّا الحداثة المنشودة فهي تلك التي تضرب بجذورها عميقًا في البنيان الاجتماعيّ، الثّقافيّ، السّياسيّ، بديلًا للبنى التّقليديّة المحافظة التي ما زالت تعيد إنتاج نفسها، ثقافيًّا واجتماعيًا، وتكفّ عن الاتّكاء على الحائط، وبهذا المعنى فإنّ الطّريق نحو هذه الحداثة لا يزال طويلًا وشاقًّا، خاصّة مع أوجه التّراجع عن بعض ما تحقّق من أوجه تحديث اجتماعيّ وثقافيّ في عقود سابقة.
ولأنّ مبحثنا هذا ثقافيّ بالدّرجة الأولى، فإنّه ليس بوسعنا تجاهل حقيقة أنّ الثّقافة الحديثة تعاني، أيضًا من أمرين يجعلان ظهرها إلى الجدار، أوّلهما هو أنّ البنى التّقليديّة في المجتمع والدّولة على حدٍّ سواء، تدفع بها نحوه، لعزلها عن التّأثير المجتمعيّ المعوّل عليه في مواصلة تثبيت ما أنجز من مكتسبات والبناء عليه، بما يحقّق التّراكم الثّقافيّ الضّروريّ لبلوغ تحوّلات نوعيّة تقرن حداثة العمران والسّوق بثقافة الفكر والسّلوك، أمّا الثّاني فهو افتقار الكثير من ممثّلي الثّقافة الحديثة لما هو مطلوب منهم من جرأة وإقدام في مقارعة معوّقات الحداثة، ولو قارنا سلوك البعض من هؤلاء الأميل إلى المهادنة – أو حتّى التّماهي – مع المحافظة الثّقافيّة القائمة، مع سلوك الأجيال الأسبق لوجدنا الفرق، حيث أنّ الأخيرة أظهرت ما هو ضروريّ من شجاعة فكريّة في التّصدي للقديم الذي فقد مشروعيّته، وآن له أنْ يفسح المجال للبدائل الحديثة التي نضجت ظروفها الموضوعيّة؛ لأنّ هذا القديم لن يتنحّى من مواقعه من تلقاء نفسه، وأنّ ثمّة حاجة لجهود ليست قليلة لإزاحته – بدل الاحتماء بالجدار- اتّقاءً لما ينجم عن ذلك من متاعب، عملًا بالشّائع من المفاهيم حول أنّ السّلامة هي محاذاة الحائط أثناء المشي، بدل الانخراط في معترك الحياة.
*الدكتور حسن مدن كاتب من البحرين نال درجة دكتوراه فلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية عام 1991. ترأس قسم الدرسات والبحوث في الدائرة الثقافية في إمارة الشارقة في الفترة من 1992 – 2002. كما عمل مستشارا ثقافيا في هيئة الثقافة في البحرين في الفترة من 2002- 2015. عمل مديراً لتحرير عدد من الدوريات الأدبية والثقافية في الشارقة والبحرين مثل “الرافد” ودراسات و”البحرين الثقافية” كما يكتب مقالا يوميا في صحيفة الخليج منذ العام 1996. صدرت له العدد من الكتب ابرزها: خارج السرب، الثقافة في الخليج: أسئلة برسم المستقبل، لا قمر في بغداد – ترميم الذاكرة – الكتابة بحبر أسود – للأشياء أوانها (ما تيسّر من الأهواء والحواس). رابط لجميع مؤلفات د. حسن مدن: http://altibrah.ae/books/author/824/1