محمد فاضل العبيدلي
في عشرينات القرن الماضي كتب خليل فرح ولحن وغنى رائعته الشهيرة “عزة في هواك” على اصداء ثورة الضباط بقيادة الشهيد عبدالفضيل ألماظ ضد الإحتلال الانجليزي. وكان الشاعر عضواً في جمعية [اللواء الابيض] التي ينتمي اليها ألماظ ورفاقه. استشهد ألماظ ورفاقه ومات خليل فرح لكن “عزة في هواك” بقيت تتجدد على مر العصور لتصبح أيقونة الوطنية السودانية.
ولفرط جمال الاغنية، غنتها اجيال من الفنانين السودانيين وظهرت لها نسخ متعاقبة من طلاب معهد الموسيقى والدراما كما غنتها فرق من اليابان والصين وروسيا وفرنسا وغناها فنان اثيوبيا الكبير الراحل تيلاهون قسايسي. بقيت “عزة في هواك” بالنسبة للسودانيين ايقونة الوطنية السودانية حتى أن نظام البشير والاخوان المسلمين لم يستطع الاشاحة عنها بل ظهرت اجمل نسخها من طلاب معهد الموسيقى والدراما عام 2017.
لم يفعل نظام البشير شيئا حيال الاغنية، لكنه اسقط الجنسية عن احفاد أهم من خلدتهم الاغنية وهم أحفاد عبدالفضيل ألماظ بحجة ان جذورهم تعود الى جنوب السودان (والد عبدالفضيل الماظ تعود جذوره الى قبيلة الدينكا اكبر قبائل جنوب السودان ووالدته من عرب الشكرية) وتلك حكاية اخرى تفصح عن أن نظام البشير والانظمة المماثلة لا تكترث ابداً للتاريخ الوطني لبلدانها ولا لرموز هذا التاريخ.
ويقال ان “عزة” هي رمز للسودان لان الشاعر خليل فرح وخشية من ان يمنع الانجليز الاغنية استبدل كلمة السودان ب”عزة”، لكن البعض يشير الى ان عزة او “عازة” في القصيدة هي العازة محمد عبدالله زوجة علي عبداللطيف (احد رفاق ألماظ) مؤسس ورئيس جمعية “اللواء الابيض” التي كانت تسعى لطرد الاحتلال الانجليزي وتوحيد السودان ومصر. ولقد قامت العازة في العام 1924 بقيادة مظاهرة بعد ان اصطف زملاء عبداللطيف وطلاب الكلية الحربية امام منزلها وأدوا لها ولأسرتها التحية العسكرية تكريما لزوجها فخرجت العازة لهم وسارت معهم في تظاهرة عسكرية قادتها بنفسها وهم يرددون من خلفها قصيدة الشاعر والمدرس بمدرسة ام درمان الابتدائية عبيد عبدالنور “يا أم ضفاير قودي الرسن/ واهتفي فليحيا الوطن[1]“.
هكذا خلد السودانيون العقدين الأولين للقرن العشرين بأغنية صارت ايقونة للوطنية السودانية. وها هم اليوم يخلدون اول عقدين من القرن الحادي والعشرين بأغنية ستتحول فيما سيلي من الايام الى أيقونة جديدة للوطنية السودانية.
لم يرد في اغنية “عزة في هواك” أي اشارة للدم او الضحايا وكان ذلك مفهوما بحكم الخوف من الرقابة الاستعمارية. وفي كل كلمات الاغنيات التي مجدت ثورة اكتوبر 1964 (نشيد الانتفاضة، او اغنية: اصبح الصبح ولا السجن ولا السجان باق.. الخ)، لم يرد الشيء نفسه لأنه كان كافيا ان يسقط شهيد واحد هو طه القرشي لكي يتنحى الجنرال ابراهيم عبود عن الحكم. لكن في ثورة ديسمبر التي اسقطت عمر البشير، سقط ما يقارب ال100 شهيد ولربما اكثر، لهذا فان الاغنية التي خلدت هذه الثورة مليئة بالدم والضحايا. لقد مثلت مجزرة القيادة العامة بوحشيتها البالغة والاستثنائية ذروة ثورة ديسمبر، لهذا فان اغنية [مدنية حرية وسلام] التي خلدت هذه المجزرة استقرت في الذاكرة الجماعية للسودانيين وصارت هي المقابل الوجداني الذي سيعبر السودانيون من خلالها عن تلك اللحظة السوداء في تاريخهم المقبل.
لعل هذا يخبرنا قليلا عن هذا الشعب الذي لم يهدأ خلال قرن كامل، لم تتح له فرصة ليهدأ ويبني دولة “حرية ومدنية وسلام” حقيقية، بل اهدرت طاقاته وتم تبديد ثرواته وتهجير الكفاءات من ابناءه وقتل الملايين منهم في مطحنة حروب اهلية لم تتوقف يوماً.
في كل ذلك التاريخ كان لنساء السودان حضور واضح. ففي الثورة المهدية في القرن التاسع عشر، شاركت “مهيرا بنت عبود” و”ربها الكنانة” في المعارك، وحملتا رسائل المهدي الي جميع أنحاء السودان[2]. وفي انتفاضة 1964، قام نائب الرئيس عبود، باستدعاء المناضلة الراحلة فاطمة احمد ابراهيم لتوبيخها على خلفية مشاركتها وقيادتها للتظاهرات قائلا لها: “والله يا فاطنة.. لو ما كنتي ست، كان زمانك هسي مرمية في السجن”. كان ذلك زمن مازال العسكر فيه يحترمون التقاليد السودانية التي تحرم المساس بالنساء حتى في التظاهرات، عكس عسكر مليشيات الاخون المسلمين الذين لم يترددوا في ضرب النساء بالسياط في تظاهرة نسائية عام 2013 اطلقن عليها “تظاهرة الحلل الفارغة” وعن قتلهن في انتفاضة ديسمبر (سقطت ثلاث شهيدات في ثورة ديسمبر) عندما فتحت هذه المليشيات الرشاشات ليلا والمتظاهرين نيام لتحصدهم حصداً (درشونا بالدوشكات دريش) مصداقا للشاعر بشرى البطانة كاتب قصيدة “حرية مدنية وسلام”.
للسودان وشعب السودان العظيم كل التحية والمحبة في ذكرى استقلاله في 1 يناير 1956
[1]، [2] المصدر: حساب “معازف” على فيسبوك