مغازي البدراوي*
على الرغم من حجم التعاون العسكري بين القاهرة وواشنطن القائم منذ أوائل الثمانينات بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل، فإن التعاون العسكري بين القاهرة وموسكو استمر أيضا رغم تراجعه كثيراً ليفسح المجال لمنافسه الأميركي القوي الذي يفرض نفسه بكافة الوسائل والضغوط.
لكن الأزمة التي تصاعدت منذ أيام قليلة بين القاهرة وواشنطن أثارت جدلاً واسعاً، حيث تتصاعد لأول مرة منذ سنوات طويلة مضت بين القاهرة وواشنطن أزمة بسبب شراء مصر لأسلحة روسية، حيث سعت واشنطن لمنع مصر من شراء المقاتلات الروسية من طراز “سوخوي35” والتي يعتبرها الخبراء أقوى الطائرات المقاتلة الآن في العالم. ونشرت صحيفة “وول ستريت جورنال” الأميركية معلومات حول تهديد الولايات المتحدة لمصر بفرض عقوبات إذا لم تتخل القاهرة عن شراء المقاتلات الروسية متعددة الأغراض سو- 35. وتحيل الصحيفة إلى رسالة وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ووزير الدفاع مارك إسبر، إلى وزير الدفاع المصري محمد زكي.
مفاجأة الخبر في أن العلاقات العسكرية بين مصر والولايات المتحدة متطورة للغاية وهامة للطرفين، ويرى خبراء أنه ليس أمرا هينا أن تعمد واشنطن الى تخويف القاهرة وتجعلها تحترس من إفساد العلاقات بينهما، فبين الولايات المتحدة ومصر عدد كبير من البرامج العسكرية المشتركة، والتي سيكون لإغلاقها تأثير سلبي على الاقتصاد الأمريكي. حيث يجري في مصر، منذ عدة سنوات تصنيع عدة أسلحة أميركية، منها دبابات “أبرامز – إم 1 ايه 1″ الأمريكية بموجب ترخيص خاص، ما يجلب أرباحا كبيرة للولايات المتحدة.
ورغم أن واشنطن مارست ضغوطاً كثيرة على دول عديدة تنوي شراء أسلحة ومعدات عسكرية روسية، إلا أنها لم تفعل ذلك من قبل مع مصر بالتحديد، ذلك في رأي البعض بسبب قوة التعاون العسكري بين مصر واشنطن على مدى نحو نصف قرن مضى، الأمر الذي تستبعد معه واشنطن أية ميول مصرية للتخلي عن هذا التعاون واللجوء لروسيا. حتى لو اشترت مصر بعض الأسلحة من روسيا، وهذا ما حدث في السنوات القليلة الماضية، والتي اشترت فيها مصر أسلحة حديثة من روسيا، ولم تعترض واشنطن، فلماذا جاء الاعتراض الآن مع الحديث عن صفقة طائرات “سوخوي35″، على الرغم من عدم صدور بيان رسمي من القاهرة حول وجود هذه الصفقة من أساسه، باستثناء بعض التقارير الإعلامية التي اشارت الى أن القاهرة بصدد شراء “عشرات” من مقاتلات “سو – 35” بقيمة إجمالية تصل الى ملياري دولار امريكي، ورغم هذا اشتعلت الأزمة.
وكانت صحيفة “وول ستريت جورنال” قد كشفت أن وزير الدفاع الأمريكي مارك إسبر، ووزير الخارجية، مايك بومبيو، حذرا مصر من شراء مقاتلات روسية من نوع “سو – 35” وذكرت الصحيفة أن الوزيرين قالا في تحذير أرسلاه إلى القاهرة، إن “صفقات أسلحة جديدة وكبيرة مع روسيا ستؤثر، على الأقل، على اتفاقيات التعاون في مجال الدفاع مستقبلا بين الولايات المتحدة ومصر، وعلى المساعدات لمصر لضمان أمنها”. السؤال هنا: “لماذا هذه الأزمة الآن بالتحديد؟”.
المراقبون والمحللون يرون أن الاعتراضات الأميركية على الصفقة لها أسباب أخرى غير حصول مصر على هذه المقاتلات القوية، ويرون أن الأزمة اشتعلت مؤخراً بالتحديد بعد زيارة وزير الدفاع الروسي سيرغي شيغو لمصر في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الجاري 2019، والتي جاءت بعد خمسة أيام فقط من اختتام المرحلة الأولى من مناورات “سهم الصداقة -1” الروسية المصرية، هذه المناورات القوية التي أزعجت واشنطن وإسرائيل كثيراً، لأنها تعكس نمواً غير عادي في العلاقات العسكرية بين روسيا ومصر.
لقد شارك شويغو، على رأس وفد روسي، في الاجتماع السادس للجنة المصرية – الروسية المشتركة للتعاون العسكري التقني، وأجري مباحثات مع الرئيس عبد الفتاح السيسي، وعقد لقاء منفصلا مع وزير الدفاع المصري محمد زكي. بحث وزير الدفاع الروسي مع نظيره المصري على هامش الاجتماع السادس للجنة التعاون العسكري المصرية الروسية، التعاون العسكري والتقني بين جيشي البلدين وسبل تطويره. كما تم تبادل الرؤى تجاه تطورات الأوضاع على الصعيدين الإقليمي والدولي، وانعكاسها على الأمن والاستقرار بمنطقة الشرق الأوسط. وترأس الوزيران اجتماعات لجنة التعاون العسكري التي تضمنت العديد من الملفات الخاصة وبحث الجانبان آفاق التعاون في مجالات الدفاع والأمن ونقل وتبادل الخبرات والتدريبات المشتركة بين جيشي البلدين.
وتركزت الموضوعات الرئيسية للمباحثات بين الطرفين حول مسائل الأمن الدولي والإقليمي والوضع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى أولويات التعاون العسكري والعسكري – التقني لروسيا ومصر.
وأعلنت وزارة الدفاع الروسية عزم موسكو مساعدة مصر لإنشاء مراكز لصيانة الأسلحة والمعدات العسكرية على الأراضي المصرية. ووفقا لوزير الدفاع المصرية، فإن هذه المساعدة هي “شرف كبير” لمصر، لأن روسيا تريد المساعدة في ظل التجربة والخبرة التي اكتسبتها خلال الحرب ضد الإرهاب في سوريا. وكان الوزير شويغو، قد أكد خلال لقائه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في زيارته هذه للقاهرة، أن روسيا مستعدة للمساعدة في تعزيز القوات المسلحة المصرية ودعم قدراتها الدفاعية.
وأكد قائد قوات الدفاع الجوي المصري الفريق علي فهمي بعد مناورات “سهم الصداقة -1” حرص مصر على “امتلاك أحدث النظم العالمية من الأسلحة والصواريخ ووسائل الاستطلاع والإنذار وآليات القيادة والسيطرة بما يدعم قدراتها على تأمين المجال الجوي المصري والتصدي لكافة التهديدات الجوية، وتنفيذ المهام المكلفة بها في ظل التطور المستمر لنظم القتال الجوي”.
وقال المكتب الإعلامي للدائرة العسكرية الجنوبية لوزارة الدفاع الروسية، في بيان له: “لأول مرة في تاريخهما الحديث، نفذت الوحدات المشتركة لقوات الدفاع الجوي الروسية والمصرية رمايات وعمليات إطلاق قتالية من منظومات صواريخ مختلفة مضادة لسلاح الجو في تدريب عسكري في مصر”.
وشدد البيان على ملحوظة هامة للغاية، وهي أن هذا التدريب تم “خلال إشراك أسلحة روسية الصنع فقط“، [بمعنى أن الجيش المصري لم يستخدم أي سلاح أمريكي أو غربي بشكل عام في المناورات] مشيرا إلى أن الرمايات نفذت بنجاح وتم تدمير كل الأهداف من أول محاولة.
بشهادة الخبراء والمراقبين فإن مناورات “سهم الصداقة-2019” بين روسيا ومصر، والتي جرت خلال الأيام الماضية، هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات بين البلدين، وارتباطها بزيارة وزير الدفاع الروسي والقيادات العسكرية الروسية لمصر يشير بوضوح لتحول جذري في توجهات العسكرية المصرية، ويشبهه البعض بفترة الستينات من القرن الماضي، عندما أعطى الاتحاد السوفييتي أحدث أسلحته ومقاتلاته وخبراته وتقنياته العسكرية لمصر، لتصبح مصر أشبه بقاعدة عسكرية سوفيتية كبيرة ممنوع الاقتراب منها.
هذا هو ما أزعج واشنطن وجعلها تطلق تهديداتها لمصر بالعقوبات، لكن لا يبدو أن هذه التهديديات سيكون لها أي تأثير على مصر، نظراً لأن التعاون العسكري بين مصر وواشنطن على مدى أكثر من أربعين عاماً لم يفد العسكرية المصرية بشيء، بل على العكس أضعف جيشها وتسليحه بشكل واضح. فقد سعت مصر، مؤخرا، في محاولة تجديد أسطولها من الطائرات المقاتلة الأميركية، ولكن دون فائدة واضحة. حيث ان ما يقرب من 90% من أسطول المقاتلات المصرية (220 طائرة) يتكون من طائرات من طراز “F-16” والتي، على الرغم من التحديثات الدورية، فهي تنتمي إلى القرن الماضي. ولهذا لجأت مصر لشراء 11 طائرة “رافال” فرنسية.
ورغم أن مقاتلة “F-35” الحديثة التي تعرضها واشنطن للبيع في أسواق السلاح العالمية، أرخص من الروسية “سوخوي 35” حيث تعرضها واشنطن بسعر 150 مليون دولار مع الصيانة، إلا أن الفارق كبير في الإمكانيات، حيث تعد المقاتلة الروسية الأقوى في العالم حتى الآن، وهي مصنفة على انها من الجيل (++4) بينما تصنف مقاتلة إف 35 الأمريكية على أنها من الجيل الرابع.
والمشكلة الأكبر كما يقولون أن المقاتلات الأميركية يتم شراؤها وفق “الكاتالوغ” وليس بالتجارب المباشرة للجيوش، بعكس الروسية التي تراها وتجربها الجيوش الأجنبية أثناء المناورات المشتركة مع القوات الروسية،. كما لا يتم تسليم المقاتلات الأميركية للمشتري إلا بعد سنوات من الانتظار والضغوط الشديدة مثلما يحدث الآن مع صفقة “F-35” الأميركية لتركيا التي مضى على موعد تنفيذها سنوات ولم تنفذ حتى الآن بسبب الضغوط السياسية الأميركية المستمرة على تركيا، الأمر الذي يجعل الدول الأخرى تهرب من الصفقات الأميركية، ناهيك عن أن الدعاية الأميركية للمقاتلات، في رأي الخبراء، تعطيها أكثر من حقها بكثير، حيث تُقدم للمشترين خصائص مكتوبة في “الكتالوغ”، في حين يتم الاحتفاظ بالخصائص الحقيقية سرا. أما المقاتلة الروسية “Su-35” فإن قدراتها على التحليق ومميزاتها القتالية فقد تم اختبارها في أرض المعركة وفي المناورات والتدريبات المشتركة مع دول عدة.
وعلى الأرجح، فإن قلق واشنطن من شراء مصر المقاتلات الروسية “سوخوي 35” لا يعود للصفقة نفسها ولا بسبب قوة الطائرة في حد ذاتها، ولكن بسبب انفتاح التعاون العسكري بين مصر وروسيا لأفاقٍ أوسع تهدد بعودة أوضاع الحرب الباردة [السوفيتية – الأميركية] والتي تجعل من مصر حليفاً عسكرياً واستراتيجياً لروسيا، كما ستجعلها بوابة في المنطقة والقارة الأفريقية للتعاون العسكري مع روسيا، الأمر الذي سيؤثر بشكل قوي على مكانة وقوة نفوذ الولايات المتحدة في المنطقة.
*الدكتور مغازي البدراوي خبير في شؤون روسيا وايران وآسيا الوسطى. من أهم مؤلفاته “روسيا وايران ، تعاون أم تحالف”. كما قام بترجمة عدد من الكتب من الروسية الى العربية أهمها “رهائن الكريملين” و”الأب الروحي للكريملين” و”ملفات المخابرات الروسية” و”الدبلوماسية السوفيتية والروسية”.