شباب العراق يبحث عن وطن وساسته عن سلطة وأموال Previous item تاريخ مستنسخ.. ماذا وراء... Next item ديناميات ثورة لبنانية...

شباب العراق يبحث عن وطن وساسته عن سلطة وأموال

*دلوفان براوري

يتلقون الرصاص وقنابل الدخان بصدور عارية ويصرخون بأعلى أصواتهم “نريد وطن”، شعب يخطط لبناء وطن، وسياسيين يخططون في الكواليس لوقف الصحوة الشعبية بين جيل الشباب الذي أدهشهم بهذه الثورة التي كانت خارج توقعاتهم في وقت انشغالهم بتقاسم حصيلة الفساد.

من أنتم؟ ومن يقف وراءكم؟ وبمعنى أخر من هم المتظاهرون ومن نظم المظاهرات، ومن المستفيد منها؟ أسئلة حيرت أذهان السياسيين في السلطة وخارجها وحتى المحللين الذين لم يجدو في أبجدياتهم مصطلحات تطابق الحالة الآنية. انهم بذرة جديدة ولد من رحم الشارع الذي تم تهميشه وتسيسه وتقسيمه حزبياً وطائفياً، جاءوا من الفجوة التي خلقت في المجتمع بجشع وفساد أحزاب السلطة، يحركهم منطق وتفكير جديد متقدم بخطوات على تفكير وتوقعات ديناصورات السياسة المتحجرين.

شباب بين 16  و24  عاماً، فتح عينه ليرى وطناً مدمراً بعد حرب يدعي الطرفان فيها قدسيتهم، وطن بات مشاعاً للصوص الذين لا يخجلون من أي شيء. انهم جيل لم تتشكل له هوية ولا قدسية، يبحثون عن هوية بين هوياتهم الزائفة وعن الأمل من رحم فساد طبقة سياسية   أطفأت نور الأمل في عراق ما بعد 2003، مطلبهم وطن يحترم عقولهم ويضمن حقوقهم المشروعة.

في ساحة التحرير تتجلى لكل زائر ملامح هذا الجيل حشود الشباب الذين انقسموا الى مجاميع، منهم يهتم بالتصدي لقنابل الغاز  المسيل للدموع  بحملها وإعادتها الى قوات مكافحة الشغب أو إبعادها، وأخرين يتلقون المختنقين بالدخان ويعالجونهم برش مشروب البيبسي على وجوههم، وفرق متخصصة بالإسعافات الأولية للجرحى الذين يتم نقلهم بواسط سيارات النقل الصغيرة (التك تك) التي أصبحت رمز ثورة أكتوبر/تشرين الأول ببغداد، فيما المرابطون في “جبل أحد” وهو الاسم الذي أطلقه الشبان المعتصيمن على بناية المطعم التركي المطلة على ساحة التحرير يرقبون تصرفات قوات الأمن المرابطة على جسر الجمهورية المؤدي الى المنطقة الخضراء الأشد تحصيناً.

أما في الخط الخلفي من ساحة التحرير على يمين نصب الحرية (للنحات العراقي جواد سليم) وتحديداً عند مداخل حي البتاوين تتجمع الأمهات العراقيات في خيم بسيطة خصصت لتحضير وجبات طعام لأبنائهم وبناتهم المنتفضين، فيما بنات بغداد بجمالهن وأناقتهن يرتدين القفازات والكمامات وبيدهن المكانس ينظفن شوارع ساحة التحرير. أما تحت نفق التحرير فهناك مجموعة من الشباب يقفون مثل فريق كرة قدم مهمتهم معالجة قنابل الدخان التي يتلقفها الشباب في الساحة ويلقونها في النفق، فيركض احد شباب النفق إليها دون خوف ويقوم بتغطيتها ببطانية مبللة حتى يوقف مفعولها، بينما المتظاهرين في الأعلى من طلاب وطالبات يصفقون ويهللون لهم وكان يحتفون بهدف سجله فريقهم في مرمى خصمه.

طبقة سياسية تتخبط

مشاهد ساحة التحرير المذهلة مليئة بالمفاهيم والقيم العالية التي تتجلى في أفعال المتظاهرين وردود أفعالهم البسيطة والسريعة تجاه أي محاولة إلتفاف تقوم بها أحزاب السلطة وكأن جميع مخططاتهم باتت مكشوفة، فترى الشعارات الموجه ضد كل تصريح أو خطاب للسياسيين ورجال السلطة، رئيس الوزراء يستغرق أسبوع لكتابة خطبة عصماء مليئة بالمراوغات السياسية والوعود الوردية، فيرد عليه أحد المتظاهرين بلافتة كتبها بخط يده “يا بغداد دوري دوري عادل طلع نفس نوري”، تشبيها لرئيس الوزراء الحالي عادل عبد المهدي برئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي.

 أما رئيس البرلمان،  محمد الحلبوسي فيتقمص شخصية البهلوان وينزل الى إحدى ساحات الاعتصام الفرعية ويتحدث بلغة الشباب ويقدم وعود وقرارات، فيرد عليه أخر بلافتة “يتبغدد علينا وهو متعين من طهران” أي جيل هذا واي وعي وهمة متى تعلم هذا الجيل كل هذه المفاهيم وكيف تعلم أن يستهزئ بكل المقدسات حتى باتت الطبقة السياسية مهزلة ومصدر كوميدية في التحرير.

المظاهرات تزداد يوم بعد يوم تنظيماً واتساعاً، حتى باتت تشهد ساحة التحرير كل مساء مظاهرات مليونيه، وانضمام فئات جديدة بدأت بطلاب الجامعات والمدارس الإعدادية، ومن ثم النقابات (المعلمين، الصيادلة، المحامين والفناين) وـرنضم لهم لاحقاً أكاديميون ومثقفون وحتى رجال العشائر العراقية الذين باتت خيامهم منتشرة في  ساحة التحرير. أما مشاركة المرأة العراقية، فأقل ما يقال عنها مذهلة وصادمة في ظل التشدد الذي انتشر بالعراق مؤخراً، هذا علاوة على تسابق العوائل البغدادية كل مساء للالتحاق بأبنائها في ساحة التحرير، وكأن البغداديين يتسامرون في مساءات هذا الخريف بالتظاهر والمطالبة بحقوهم المشروعة.

في ظل اتساع حجم المظاهرات المستمر، تشهد كواليس قصور المنطقة الخضراء تجمعات قادة الكتل والأحزاب السياسية، لإيجاد مخرج للمأزق الذي بات يهدد كيانهم ووجودهم في الساحة السياسية العراقية، فكل قائد يرمي الكرة في ملعب الأخر. رئيس الوزراء عادل عبد المهدي عندما شعر انه سيصبح كبش فداء للفاسدين، خرج وهدد ب”انهيار الدولة” و”أزمة بلا حل”، وقالها بصراحة مخاطباً رئيس كتلة الفتح هادي العامري ومقتدى الصدر زعيم التيار الصدري “أنتم نصبتموني، اتفقوا على غيري وانا سوف أستقيل”. الصدر أغضبه تصريح عبد المهدي الصريح، فرد عليه دون أن يخفي انفعاله “ارحل” مبيناً انه سيتفق مع العامري على إقالته مذيلا بيانه بتوقع الثائر مقتدى الصدر، ورمى عمامته وارتدى عصابة سوداء برأسه ونزل بسيارته الشخصية الى ساحات التظاهر، فجأ رد المتظاهرين صاعقا “إرحلوا وليس إرحل”.

أما رئيس الجمهورية برهم صالح الذي دعا الكتل السياسية الى اجتماع طارئ لإجاد حل للأزمة، وفشل حتى في توفيق الكتل السياسية لاختيار بديل لرئيس الوزراء الحالي، فخرج بخطبة أشبه بالاستعطاف يتوسل المتظاهرين بان لا يحسبوه مع الكتل والأحزاب السياسية، فأبدى استعداده بالدعوة لانتخابات مبكرة وحل البرلمان والحكومة، وتأييده لمطالب المتظاهرين، دون أن يعلم إن كل ذلك ليست من صلاحيته دستورياً، خطاب أقل ما يقال عنه انه فارغ من المحتوى، هدفه كسب ود المتظاهرين، وكأن رد الشارع “برهم ما يرهم” بمعنى “برهم لا ينفع لشيء”.

الأزمة تعدت العراق وصلت إلى ايران المتضرر الأكبر من إسقاط الحكومة والنظام الحالي باعتباره أداة أقوى نفوذ لها في البرلمان العراقي منذ 2003، فلم تفلح جهود قاسم سليماني الذي جاء الى العراق على متن هليكوبتر دون سابق إنذار، وتولى مهمة قمع المظاهرات بالطريقة والأسلوب الإيراني القاسي، فخرج المرشد الإيراني علي خامنئي بعبارة أقل ما يقال عنها إنها بعيدة عن الدبلوماسية قائلا إن “أكبر ضربة يُمكن أن يوجّهها الأعداء إلى أيّ بلد هي أن يسلبوه الأمن، الأمر الذي بدأوه في بعض بلدان المنطقة لذا أوصي الحريصين على العراق ولبنان أن يعالجوا أعمال الشّغب وانعدام الأمن الذي تسبّبه في بلادهم أمريكا والكيان الصهيوني وبعض الدول الغربيّة بأموال بعض الدول الرجعيّة”، فرد عليه شباب التحرير “خامنئي يدعو لقمع المظاهرات” وهتافاتهم تصدح “إيران برار برا بغداد تبقى حرة”.

رغم حماسة ساحات الاعتصام، وتماسك فئات الشعب العراقي إلا إن أفاق الحل تبقى قاتمة في ظل المشهد العراقي المعقد، وغياب الثقة بين الكتل السياسية، وإصرار أحزاب الفساد على رفض تقديم أي تنازلات تلبية لمطالب الشعب، واستمرار اجتماعاتهم التي ترسم فيها خرائط جديدة لتقسيم أموال الشعب بينهم وتكون مرضية للجميع متجاهلين مطالب الشعب المنتفض.

يبقى الأمل مرهوناً بقدرة المتظاهرين على الصمود، وعدم إعطاء فرصة للسياسيين للالتفاف على مطالبهم المشروعة والإصرار على تطبيق المادة 64 من الدستور العراقي والتي تنص على حل البرلمان وتحويل الحكومة الى حكومة تصريف أعمال، وإعادة تشكيل مفوضية الانتخابات بإشراف الأمم المتحدة، والدعوى لانتخابات مبكرة بإشراف أممي.

 

 

 

 

*دلوفان برواري  محام وصحافي عراقي متخصص في الصحافة الاستقصائية وحائز على جوائز دولية واقليمية في مجال الصحافة. عمل في مؤسسات اعلامية دولية مثل واشنطن بوست وراديو NPR . يمكنكم متابعة دلوفان على فيسبوك: https://www.facebook.com/dlovan.barwari.3