ديناميات ثورة لبنانية جديدة تفاجئ طبقة سياسية مهترئة Previous item شباب العراق يبحث عن وطن... Next item ثورات شباب لبنان والعراق...

ديناميات ثورة لبنانية جديدة تفاجئ طبقة سياسية مهترئة

*ميرا عبدالله 

انطلقت ثورة لبنان يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول 2019، عفويّاً دون أي تنظيم مسبق. فلبنان الذي تحكمه الطبقة السياسية نفسها منذ عدة عقود، والتي بات فسادها أمر غير خافٍ على أحد خرج مواطنوه ومواطناته الى الشارع مطالبين بإسقاط هذه الطبقة السياسية.

لم تكن الضريبة الجديدة على تطبيق واتساب التي اعلنها وزير الإتصالات محمد شقير لتشعل الشارع اللبناني لو لم تكن مرتبطة بعدّة أزمات متتالية منها أزمة توزيع المحروقات وإضراب أصحاب المحطات وأزمة الخبر والطحين والحرائق التي أكلت غابات لبنان وفشلت الحكومة في إخمادها.

فور انطلاق التظاهرة الأولى التي دعت لها ناشطات وناشطون، بدأت أعداد المتظاهرين تتزايد الى أن ملأوا مناطق لبنان كلّها. لأوّل مرّة وخلافاً للمظاهرات المنظّمة في السنوات السابقة، لم تتمركز تحرّكات الشعب اللبناني في بيروت وحسب، انّما اجتاحت جميع المناطق على الأراضي اللبنانية من الجنوب الى الشمال، متحدّية الهيمنة السياسية والطائفية التي تفرضها الأحزاب اللبنانية على مناطق عدة. اتّخذت هذه التظاهرات شكل الثورة بسرعة. لم يحتج الحراك إلا الى بضع ساعات لتعمّ التظاهرات مناطق لبنان كافة، متزامنة مع قطع المتظاهرين والمتظاهرات للطرق الأساسية كافة بالدواليب المشتعلة. في اليوم التالي، استفاق لبنان على ثورة بدأت بشلّ البلد، ضاغطة على جميع المؤسسات للإقفال، أُعلن الإضراب العام وبدأ المعتصمون والمعتصمات بالدعوة الى العصيان المدني.

 

ثورة الجياع تتحدى هيمنة الطوائف

ما بدأ بمطالب معيشية أسماه البعض “ثورة الجياع” ورفض إقرار ضرائب جديدة دون محاسبة الفاسدين، سرعان ما انقلب على مسببي الجوع وتردّي الحالة الإقتصادية والمعيشية في لبنان: الأحزاب السياسية والسلطة الحاكمة والطائفية السياسية. في الجنوب مثلاً، حيث حزب الله وحركة أمل يهيمنان على مدن وقرى عديدة فيه، نظّم المواطنون الجنوبيون وقفات احتجاجية وقطعوا الطرقات الرئيسية وبعض الطرقات الفرعية ونصبوا الخيم على جانب الطريق للتأكيد على عدم فتح الطريق قبل تحقيق المطالب، وذلك رغم الاعتداءات بالضرب والتخوين والترهيب الذي مارسه ضدّهم أشخاص منتمين الى حزب الله وحركة أمل. وكان المشهد مماثلاً في منطقة الشوف حيث هيمنة الحزب التقدّمي الاشتراكي بقيادة وليد جنبلاط وشمال لبنان حيث التأثير الأكبر لتيار المستقبل بقيادة رئيس الوزراء سعد الحريري.

من يعرف طبيعة النظام السياسي في لبنان، يعلم تماماً كم أن الطائفية هي أساس قيام هذا النظام. كل المناصب الرئاسية والحكومية مقسّمة وموزّعة على الطوائف. المناطق اللبنانية مقسّمة بحسب طائفة سكّانها، ولطالما كان تعزيز هذه الحقيقة حجر الأساس للّعبة السياسية في لبنان. ارتكزت الانقسامات الحزبية والطائفية على فكرة أن الآخر هو العدو، وأنه على اللبنانيين من طائفة معيّنة حماية وجودهم السياسي ومراكزهم السياسية من “نهم” الطوائف الأخرى بالسيطرة على البلاد. وكل ما إندلع حراك داعم للنظام المدني من هنا، أو مجموعة من المواطنين مطالبة بقانون مدني يتعامل مع جميع اللبنانيين على حد سواء، كانت السلطة السياسية تحاربه بالتخوين واتهامات إزدراء الأديان وسلب الطوائف حقوقها.

في ظل هذا النظام، فاجأ الثوّار اللبنانيون والثائرات اللبنانيات المنظومة السياسية برفض هذا الشرخ الطائفي الذي استخدمت كل أساليبها لتعزيزه. على سبيل المثال لا الحصر، بدأ المتظاهرون في طرابلس الشمالية يهتفون دعماً لصور الجنوبية، والمسيحيون يدعمون المسلمين في ثورتهم، والدروز يمدّون الأيدي لأي ثائر من الطوائف الأخرى. وعدا عن ذلك، كلّما احتدّ الاشكال بين المتظاهرين والقوى الأمنية أو الحزبيين في منطقة معيّنة، كان متظاهرون من مناطق أخرى يتسارعون لدعمهم، غير آبهين بدينهم أو بالطبيعة الطائفية لمنطقتهم. تأكيداً على هذه الوحدة ومحاربة جميع أشكال الانقسام الطائفي، تكاتف أكثر من 170 ألف لبناني ولبنانية في اليوم الحادي عشر على بدء الثورة لتنظيم سلسلة بشرية تصل الجنوب بالشمال على طول الساحل اللبناني، على مسافة تقارب 160 كلم.

ومع ذلك، حاولت السلطة السياسة أن تلعب على العصب الطائفي من جديد كمحاولة لتقسيم الشارع، وخاصة يوم أعلن الرئيس سعد الحريري استقالة الحكومة تحت ضغط الشارع يوم 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2019. قبل الاستقالة بساعات، قام شبان منتمين الى حزب الله وحركة “أمل” بالهجوم على المتظاهرين بالعصي والسلاح الأبيض في بيروت وضربهم وتكسير الخيم التي كانوا قد نصبوها في ساحة رياض الصلح التي شهدت أكبر التجمّعات في بيروت. منذ ذلك اليوم، بدأ التعدّي على المتظاهرين في كل المناطق اللبنانية وتهديدهم لفض المظاهرات والخروج من الشارع، من قبل أشخاص منتسبين الى أحزاب سياسية أحياناً، ومن قبل قوى الأمن والجيش اللبناني أحياناً أخرى. توالت بعد ذلك سلسلة من التوقيفات الاعتباطية ضد المتظاهرين والتي أدّت الى اعادة رصّ صفوف الثوار والعودة بكثافة الى الشارع وإعادة قطع الطرقات في بعض المناطق.

بعد المحاولات التي لا تعد ولا تحصى لأحزاب السلطة لفضّ الاعتصامات دون تجاوب المتظاهرين، بدأت حملة الأخبار الكاذبة تتزايد لتخويين الثوار، ومنها اتهامهم باستلام أموال من السفارات، وهو الموضوع الذي شدّد عليه السيّد حسن نصرالله في كلمته الأولى، ووصلت الى اتهامهم بطلب الخوّات عند الحواجز التي استخدموها لإغلاق الطرقات. وبما أن الإعلام في لبنان ليس إعلاماً مستقلاً،  مارست أحزاب السلطة ضغوطاً كبيرة على الوسائل الإعلامية بشتّى الطرق لإيقاف البث المباشر للمظاهرات. أثّمر الضغط على الوسائل الإعلامية بشكل كبير، فتجاوبت الوسائل الإعلامية مع هذه الضغوطات تارة بسبب انتماء المؤسسة السياسي وتارة بسبب التهديدات التي تلقتها المؤسسات والصحافيين والصحافيات.

بعد استقالة الحكومة، شهدنا تكاتفاً لا مثيل له بين جميع احزاب السلطة لتشكيل الحكومة الجديدة. مطلب الثوار واضح: حكومة مصغّرة من أخصّائيين وأخصائيات تحترم التوازن الجندري ومستقلّة عن الأحزاب السياسية ويكون هدفها أولاً البدء بالاصلاحات الاقتصادية وثانياً تنظيم انتخابات نيابية مبكرة على أساس قانون انتخابي يضمن تمثيل جميع فئات المجتمع اللبناني.

رغم تكاتف الأحزاب السياسية، بدأت العقد تتشكل، اذ أن الأحزاب لن تقبل الا أن يكون لها تمثيلٌ في الحكومة، وهو ما يرفضه الثوار بشكل قاطع. أما وزير خارجية لبنان المستقيل جبران باسيل، فشكّل واحدة من أكبر العقد. باسيل كان موجوداً في جميع الحكومات المتتالية منذ عام 2008 حتى اليوم، والذي كان وزيراً للاتصالات ومن بعدها الطاقة والمياه قبل أن يتسلّم حقيبة وزارة الخارجية، متّهم بأكبر ملفات الفساد، والذي نال النصيب الأكبر من انتقادات الثوار. لقد تم تنظيم مظاهرة مضادة من قبل التيار الوطني الحر وحلفائه يوم الأحد 3 أكتوبر/تشرين الثاني 2019 داعمة لرئيس الجمهورية ميشيل عون علناً، لكنها كانت للتأكيد ضمنياً على عدم استثناء جبران باسيل في أي تشكيل حكومي مستقبلي. أعادت هذه المظاهرة الداعمة للرئيس مشهد “الزعيم” و”القائد” والمظاهرات المنظّمة وصور الزعماء التي ثار عليها اللبنانيون في الأسبوعين الأخيرين.

ستخلق هذه المظاهرة رداً فعلياً من قبل الثوار الذين أعلنوا تنظيم مظاهرة مليونية في جميع المناطق اللبنانية مساء الأحد 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، وقد اعلنت بعض الجهات إعادة قطع الطرقات ابتداء من ليل الأحد للتأكيد أولاً على أن الثورة مستمرة، وثانياً للضغط على مجلس النواب ورئيس الجمهورية للإسراع بالاستشارات النيابية الملزمة لتعيين رئيس مجلس الوزراء الجديد. أعطى الثوار مهلة لإعلان رئيس مجلس الوزراء يوم الاثنين 4 نوفمبر/ تشرين الثاني، وفي حال لم يتم ذلك في المهلة المعطاة، يتجه المعتصمون الى شلّ البلد مجدداً، الأمر الذي قد يخلق الكثير من الاشكالات، نظراً الى الوضع الاقتصادي الدقيق للكثير من المواطنين اللبنانيين، ونظراً الى التدخّل العنيف من قبل بعض الأحزاب اللبنانية. ومع ذلك، تكمن أيضاً مخاوف الإسراع بتشكيل الحكومة الى إعادة تعيين سعد الحريري مجدداً كرئيس حكومة، الأمر الذي يرفضه الثوار والذي يبدو أن جميع الأحزاب السياسية داعمة له.

 

 

 

 

*ميرا عبدالله  صحافية وناشطة لبنانية تعمل في المنظمة العالمية للصحف (وان ايفرا) وفي المؤسسة العربية للحريات والمساواة. يمكنكم متابعة ميرا على حسابها على تويتر: myraabdallah@