بوتين والسعودية.. القطب  الرابع Previous item السودان: كسر الحلقة الجهنمية Next item وعود ورصاص للمتظاهرين....

بوتين والسعودية.. القطب  الرابع

 *مغازي البدراوي

فتحت أول زيارة لملك المملكة العربية السعودية إلى روسيا في أكتوبر/تشرين الأول 2017 آفاقا رحبة غير مسبوقة لتطوير العلاقات الثنائية. وقال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أثناء لقائه بالملك سلمان إن زيارته تمثل “حدثاً تاريخياً”، مذكّرا بأن الاتحاد السوفيتي كان أول دولة تعترف بالمملكة التي أسسها الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن والد الملك السعودي. وعبر بوتين عن اعتقاده بأن الزيارة ستعطي دفعا قويا لتطوير العلاقات الروسية -السعودية. ودعا الملك سلمان من جهته الرئيس بوتين ليقوم بزيارة إلى بلاده. ورحب بوتين بالدعوة مؤكداً ضرورة تلبيتها.

وتأتي هذه الزيارة التاريخية التي قام بها خادم الحرمين الملك سلمان بن عبد العزيز لروسيا في الخامس من أكتوبر/تشرين الأول 2018 وردود الفعل الواسعة حولها، لتعكس مدى أهمية التقارب والتعاون المشترك بين هذين البلدين الكبيرين اللذين يعول عليهما العديد من الدول والشعوب الكثير من الآمال، كما جاءت هذه الزيارة بعد طول انتظار لها وجدل كثير حول احتمال إلغائها لم يتوقف حتى قبل وصول العاهل السعودي لموسكو بأسبوع واحد. ويرجع هذا الجدل والتشكك في إتمام هذه الزيارة إلى تصور البعض وجود العديد من الخلافات بين موسكو والرياض في عدة قضايا، مثل الأزمة السورية والأزمة القطرية والأزمة اليمنية والعلاقات بين روسيا وإيران. كما تصور البعض احتمال وجود ضغوط من واشنطن للحيلولة دون إتمام هذه الزيارة التي تنتظرها روسيا وتستعد لها بشكل كبير وتضع عليها أمالاً واسعة في انطلاق العلاقات الثنائية بين البلدين[1].

لقد تمت الزيارة ونجحت نجاحا كبيراً، بل يمكن القول أنها حققت أهدافها التي يريدها البلدين، وهذه الأهداف ليست كما يتصور البعض الصفقات التجارية أو الاستثمارات أو صفقات السلاح أو غيرها من هذا القبيل، فكل هذه الأمور لا تحتاج للقاء الملوك والرؤساء الكبار، بل تتم عبر الوزراء والأجهزة الأخرى، وليس أدل على ذلك من أن أهم وأخطر اتفاق بين روسيا والسعودية، وهو اتفاق “خفض انتاج النفط” الذي غير وجه سوق النفط العالمية، جرت مناقشته وإعداده وتوقيعه بين وزراء البلدين مع مندوبي الدول في منظمة أوبك عام 2017[2].

زيارة خادم الحرمين الملك سلمان لروسيا والحفاوة الكبيرة في استقباله هناك حققت أهدافها سياسياً واستراتيجياً، إذ أكدت على حاجة الدولتين الكبيرتين للتقارب فيما بينهما من أجل خلق توازن إقليمي ودولي يساعد على تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم. وربما من أجل هذا الهدف وفي إطاره تأتي الزيارة المتوقعة قريباً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين للمملكة العربية السعودية، وهي الزيارة الثانية للرئيس بوتين للمملكة بعد زيارته الأولى لها عام 2007، والتي اتخذت نفس النهج السياسي الذي ذكرناه، ولم  تثمر عن أية نتائج  اقتصادية أو صفقات سلاح أو استثمارات، رغم الاستقبال الفائق في الحفاوة والترحيب والمودة التي قوبل بها بوتين والوفد المرافق له لتعكس مدي اهتمام كلا البلدين بالتقارب وتطوير العلاقات بينهما. فقد قلد العاهل السعودي الراحل الملك عبد الله بن عبد العزيز الرئيس بوتين وشاح الملك عبد العزيز أعلى الأوسمة في المملكة، وقال الملك عبد الله لبوتين عند تقليده الوشاح “إن هذا الوسام يمنح فقط لأصدقاء المملكة الحقيقيين ” وأشاد العاهل السعودي بالرئيس بوتين قائلا “إنه أثبت بالفعل أنه رجل يحب العدل والحق”، وعبر الرئيس بوتين عن سعادته البالغة بالنمو الجذري والسريع للعلاقات بين البلدين لدرجة أنهما في غضون أعوام أربعة فقط أصبحا يتكلمان لغة مشتركة وواحدة في مختلف القضايا[3].

يمكن القول بأن العلاقات السعودية – الروسية في تاريخها لم تشهد أية توترات تذكر، رغم خلافات الرأي والمواقف تجاه بعض القضايا الإقليمية العربية، مثل الأزمة السورية واليمنية والقطرية،  لكنها لم تؤثر على الإطلاق في العلاقات بين موسكو والرياض. ومع تولي الملك سلمان بن عبد العزيز الحكم في السعودية زادت الاتصالات بين موسكو والرياض، وزاد تبادل زيارات الوفود الرسمية، وكانت زيارة الأمير محمد بن سلمان في مايو/آيار 2017، عندما كان ولياً لولي العهد السعودي، واستقبال الرئيس الروسي بوتين له، هي بداية الانطلاق الجديد للعلاقات بين البلدين، حيث وضعت فيها الخطوط الرئيسية للتعاون المشترك بينهما، كما خططت هذه الزيارة للزيارة التاريخية التي قام بها العاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز لروسيا[4].

استعدادات كبيرة لزيارة الرئيس بوتين القادمة للسعودية، وقد شحذ أصحاب الرأي والإعلاميون والمراقبون أقلامهم استعداداً لتناول الزيارة، وكما هو متوقع  دائماً، تأتي معظم  الأخبار والتوقعات والكتابات حول الصفقات والمشاريع المشتركة والاستثمارات، وربما يتم في الزيارة كالعادة الإعلان عن اتفاقات كثيرة بين البلدين، وإن كان المتوقع أكثر أن الحديث عن منظومة الدفاع الصاروخية (إس – 400) سيشغل الحيز والاهتمام الأكبر إعلامياً، خاصة أن الحديث عنها اشتعل بسبب تصريحات الرئيس بوتين بعد الهجمات على مصافي شركة أرامكو السعودية في منتصف سبتمبر 2019، حيث اقترح الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، على المملكة العربية السعودية، شراء منظومة “إس 400” أو “إس 300” لحماية البنية التحتية.

فبعد انتهاء المباحثات مع الرئيسين الايراني حسن روحاني والتركي رجب طيب أردوغان في أنقرة الاثنين 19 سبتمبر/ايلول الماضي، ورداً على سؤال حول مسألة مساعدة المملكة العربية السعودية فيما يتعلق بهجمات الطائرات المسيرة على المنشآت النفطية، قال بوتين “نحن على استعداد لتقديم المساعدة المناسبة للمملكة العربية السعودية، ويكفي أن تتخذ القيادة السياسية في المملكة العربية السعودية قراراً، كما فعل قادة إيران، وهو شراء منظومة “إس-300″، أو كما فعل الرئيس أردوغان الذي اشترى من روسيا أحدث منظومة للدفاع الجوي “إس 400”.

لم يأخذ الكثيرون هذا العرض من الرئيس بوتين في المؤتمر الصحفي في انقرة على محمل الجد، خاصة وأن بوتين كان مبتسماً وهو يقوله، كما ان الابتسامة ملأت وجهي روحاني وأردوغان، الأمر الذي فسره البعض بأن بوتين يرى أن صفقة من هذا القبيل يصعب تحقيقها في ظل وجود منظومة باتريوت الأميركية في السعودية، وقال البعض أن بوتين أراد فقط أن يروج للمنظومة الروسية ويكشف فشل المنظومة الأميركية في حماية منشآت النفط السعودية[5].

 

السلاح قد لا يكون مطروحاً 

أياً كان الأمر، فإن روسيا لا تسعى بجدية لصفقات سلاح أو استثمارات ضخمة في المملكة، وربما يكفيها نجاح اتفاق تخفيض النفط مع أوبك الذي تغاضت عنه واشنطن على مضض، فمن الواضح أن روسيا لا تريد الدخول مع الولايات المتحدة في صراعات حول سوق السلاح الخليجي بشكل عام، والسعودي بشكل خاص، خاصة وأن لدى روسيا عملاء يشترون منها السلاح بكميات كبيرة مثل الصين والهند، ودول عربية مثل مصر وسوريا والجزائر، وكذلك دول إقليمية مثل إيران وتركيا، وغيرهم. وما تشتريه دول الخليج العربية من  أسلحة من  روسيا لا يشكل أي نسبة في مشتريات دولة مثل الهند أو الصين، كما أن انتاج روسيا من السلاح الحديث لا يغطي أكثر من الأسواق التي عندها حالياً، لدرجة أن  الجيش الروسي نفسه ينتظر سنوات ليحصل على الأسلحة الروسية الحديثة.

لا تولي روسيا اهتماماً كبيراً للعلاقات الاقتصادية والتجارية مع المملكة العربية السعودية بالتحديد، وليس لديها حاجة ملحة للتنسيق مع السعودية في أسواق النفط سوى لفترات مؤقتة عندما تنخفض الأسعار، وربما تحتاج روسيا للتنسيق مع السعودية في قضايا المنطقة بشكل عام، لكن هذا الأمر لا يستدعي من موسكو أن تدخل في تحدٍ مع قوى دولية أخرى من خلال سعيها للتقارب القوي مع السعودية.

روسيا تريد من الرياض ما هو أكبر وأبعد من تصور الكثير من المحللين والمراقبين، ومن يتابع الرئيس الروسي بوتين منذ وصوله للسلطة في الكرملين عام 2000، يلاحظ طموحاته وسعيه الدؤوب لتغيير موازين القوى، ونقل الثقل من الغرب إلى الشرق، ويبدو أن بوتين ناقش هذه المسألة كثيرا مع الأب الروحي له ورئيسه السابق في جهاز الاستخبارات السوفيتية “كي جي بي” السياسي الروسي المخضرم الراحل يفغيني بريماكوف، والذي يقال أنه كان له تأثير كبير على بوتين منذ توليه السلطة، وهو الذي أقنع بوتين بضرورة نقل الثقل الدولي إلى القارة الأسيوية، وبواقعية وإمكانية التحالف الثلاثي الاستراتيجي (روسيا والصين والهند).

ويدور الحديث في موسكو حول طموحات بوتين لتشكيل قطب أسيوي كبير يضم مع الترويكا (روسيا والصين والهند) دولة رابعة هي السعودية، وهذا الحديث ليس جديد، بل سبق أن تم تداوله في الأوساط السياسية الروسية بعد زيارة الرئيس بوتين للمملكة العربية السعودية ولقائه بالملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز عام 2007.

ورغم ما يبدو من صعوبات كبيرة أمام تحقيق مثل هذا الطموح، والذي يتصوره البعض خيالياً إلى حد كبير، نظراً للعلاقات الوطيدة والتاريخية بين المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة الأمريكية والغرب عموماً، إلى جانب أن مثل هذه الطموحات الروسية ستصطدم باعتراضات قوية من جهات عدة، خاصة وأن البلدين هما أكبر منتجي ومصدري النفط في العالم، وتحالفهما سياسياً واقتصادياً سيكون له ردود فعل حادة، خاصة في الغرب. ولكن رغم كل هذا، فإن بوتين يؤمن بأن السياسة لا تعرف المستحيل، لكنها تعرف المتغيرات والتطورات، ولهذا توافرت لديه الجرأة قبل زيارة الملك سلمان بيوم واحد، في المنتدى الدولي حول فعالية الطاقة في موسكو الأربعاء 4 أكتوبر/تشرين الأول 2018، عندما رد في حلقة النقاش على من قال: “أن الولايات المتحدة ستبقى دائما الحليف الأساسي للسعودية في الشؤون الجيوسياسية”، حيث رد عليه الرئيس بوتين بثقة قائلاً: “يبدو لي أن العكس صحيح، وكل شيء يتغير، ولا يوجد في العالم شيء دائم بشكل مطلق”. وأكمل بوتين حديثه بطرح تميز روسيا عن الولايات المتحدة في علاقاتها الخارجية بقوله: “إن ميزة روسيا في العلاقات مع دول الشرق الأوسط تتمثل في عدم وجود أي [“لعبة مزدوجة”] من قبل موسكو، وإن سياسة البلاد شفافة”، مشيرا إلى أن روسيا صريحة في علاقاتها مع شركائها، وتستعرض موقفها بشكل واضح، وتتحدث عن الخلافات بشكل مباشر[6].

البعض يرى أن الرياض لها طموحات أخرى تماماً، وربما عكس ما تطمح له موسكو، فهي تسعى، بقدر الإمكان، إلى تحجيم العلاقات بين روسيا وإيران، وربما تستخدم في ذلك أسلوب التقارب الاقتصادي والتجاري والعسكري، لكن هذا الرأي ليس صحيحاً بشكل مطلق، لأن الرياض تستوعب جيداً أن أية محاولات للتأثير على العلاقات بين موسكو وطهران لن تحقق أي نجاح نظراً للمستوى التي وصلت إليه هذه العلاقات على مدى سنوات طويلة، والتي فشلت واشنطن أكثر من مرة في اختراقها رغم الإغراءات العديدة. كما أنه لا مجال للحديث عن اغراءات وصفقات لروسيا مقابل تحجيم علاقاتها مع إيران التي تربطها معها علاقات اقتصادية وعسكرية وتجارية أكبر بكثير من علاقات روسيا بالدول العربية مجتمعة، سواء في مجال التعاون النووي، أو في مجال الطاقة في بحر قزوين وغيره، أو في مجال التسليح العسكري والتجارة.

ربما لا تختلف السعودية في توجهاتها في العلاقات مع روسيا عما تريده موسكو تجاهها، فالمملكة دولة عربية كبرى تقود العالم الإسلامي، ولها طموحاتها الإقليمية والدولية، ومثلها مثل روسيا التي تتفق معها في المبادئ والأهداف من أجل تحقيق هذه التوجهات، فكلتا الدولتين تسعيان لخلق عالم يعمه الأمن والسلام والاستقرار، وتختفي منه الحروب، ويكون بالطبع عالماً متعدد الأقطاب قائم على أسس ومبادئ القانون الدولي، وأهمها احترام سيادة جميع الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية، ونبذ طموحات الهيمنة والنفوذ، وفي هذا الإطار يمكن أن  يحقق التقارب بين البلدين في التوجهات الجيوسياسية العالمية ما هو أكبر وأهم بكثير من الصفقات العسكرية والتجارية والاستثمارات وغيرها.

 

 

 

*الدكتور مغازي البدراوي خبير في القانون الدولي، متخصص في شؤون روسيا وايران وآسيا الوسطى. من أهم مؤلفاته “روسيا وايران ، تعاون ام تحالف”. كما قام بترجمة عدد من الكتب من الروسية الى العربية اهمها “رهائن الكريملين”  و”الأب الروحي للكريملين”  و”ملفات المخابرات الروسية” و”الدبلوماسية السوفيتية والروسية”.

 

[1] انظر: “آفاق مشرقة في العلاقات بين روسيا والسعودية، موقع “سبوتنيك” بالعربية، 6 اكتوبر/تشرين الاول 2017:

https://arabic.sputniknews.com/russia/201710061026610127-

[2] راجع: “توافق سعودي روسي على تمديد اتفاق اوبك+”. الشرق الأوسط، 30 يونيو/حزيران 2019.  الرابط:   https://aawsat.com/home/article/1790836/

[3] بوتين يصل الرياض في أول زيارة لرئيس روسي للسعودية، (العربية نت). الرابط:

http://www.alarabiya.net/articles/2007/02/11/31583.html

[4] زيارة الأمير محمد بن سلمان لروسيا ، موقع “Islamtoday”  بالروسية، 31مايو/آيار  2017. الرابط:

http://islam-today.ru/novosti/2017/05/31/ekspert-saudovskaa-aravia-hocet-privlec-rossiu-v-arabskoe-nato/

[5] أنظر: بوتين يقترح على السعودية شراء “اس 400” او “اس 300” لحماية البنية التحتية. موقع سبوتنيك، الرابط:  http://bit.ly/2nbDMAT

[6] موقع “عاجل” السعودي 4 أكتوبر/تشرين الأول 2017.  الرابط: https://ajel.dev/TsRBKP/amp/