ماذا وراء تكالب الديمقراطيين على كرسي الرئاسة الأمريكية؟ Previous item مقايضة كريهة: الخصوصية أم... Next item مختبر الفلسفة والفكر...

ماذا وراء تكالب الديمقراطيين على كرسي الرئاسة الأمريكية؟

في خلفية المشهد يكمن الصراع بين العصبة التقليدية للحزب وشباب الحزب، أو بالاصح بين خيار وول ستريت وخيارات الناخبين

محمد الصياد

 

ما الذي يفسر هذا “الفلتان” في الترشح لمنصب الرئاسة الأمريكية القادمة من جانب الحزب الديمقراطي؟ وما الذي يدعو كل هذا العدد للمسارعة لاعلان ترشحه بصورة مبكرة، أي قبل حوالي سنة ونصف السنة من موعد اجرائها (موعدها في 3 نوفمبر 2020)؟ ومن دون التقليل من حقيقة أن أقل من عام يفصلنا عن الانتخابات التمهيدية، فإن أعداد قائمة المرشحين تتزايد، علماً بأنه لكي يُدرج المرشح في قائمة المرشحين بصورة رسمية يتعين عليه أن يجمع ما لا يقل عن 500,000 دولار حتى 31 مارس/آذار  2019، بحسب لجنة الانتخابات الفدرالية، أو أن يكون قد نجح في اظهار تميزه في ثلاثة إستطلاعات رأي وطنية على الأقل.

حتى الآن بلغ عدد الذين رشحوا أنفسهم لانتخابات الرئاسة الأمريكية عن الحزب الديمقراطي، 19 مرشحا، هم: جو بايدن نائب الرئيس السابق باراك أوباما، والسيناتور عن ولاية نيوجيرسي كوري بوكر، والشاب المثلي بيت بوتيجيج، وجوليان كاسترو وزير الإسكان والتنمية الحضرية في عهد الرئيس السابق باراك أوباما ورئيس بلدية سان أنطونيو السابق في تكساس، ورجل الأعمال وعضو مجلس النواب عن ولاية ميريلاند جون ديلاني، والنائبة تولسي جابارد، وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية نيويورك كريستين غيليبراند، وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية كاليفورنيا كمالا هاريس، والحاكم السابق لولاية كولورادو جون هيكنلوبر الذي يصف نفسه بالاشتراكي، وحاكم ولاية واشنطن جاي إنسلي، والسيناتور عن ولاية مينيسوتا ايمي كلوبوشار، وسيث مولتون النائب عن ولاية ماساتشوستس، وعضو مجلس النواب السابق عن مدينة إل باسو بولاية تكساس بيوتو أورورك، والنائب عن ولاية أوهايو تيم ريان، وبيرني ساندرز السيناتور الديمقراطي اليساري المخضرم الذي يعتبر الآن أشهر سياسي أمريكي، وعضو لجنة المخابرات بمجلس النواب اريك سوالويل، وعضو مجلس الشيوخ عن ولاية ماساتشوستس اليزابيث وارن، والكاتبة والسياسية من هيوستن ماريان ويليامسون، ورجل الأعمال أندرو يانغ.

وكان أقصى ما وصل اليه مرشحو الحزب لانتخابات الرئاسة كان في عام 1988، حين تقدم لخوضها 7 مرشحين. وقد اعُتبر حينها عدداً غير مسبوق. وحتى كتابة هذا المقال، فقد استوفى 17 من المرشحين الـ 24، المعايير التي وضعتها اللجنة الوطنية الديمقراطية للتأهل لخوض الانتخابات.

من جانب الجمهوريين، حيث جرت العادة أن يكتفي الحزب بترشيح الرئيس نفسه لضمان اعادة انتخابه واحتفاظ الحزب بسدة الرئاسة، فقد فاجأ حاكم ولاية ماساتشوستس السابق، الجمهوري بيل ويلد، الجميع، ومنهم الرئيس ترامب، بالتقدم بطلب منافسة الرئيس في انتخابات تمهيدية لا تضمن تأهل الرئيس لخوضها.

فيما خص الديمقراطيين، هنالك أكثر من تفسير لتكالبهم على الترشح، من بينها بطبيعة الحال، حجم الغضب والكراهية اللذان يعتملان في صدور كبار قادة الحزب ضد الرئيس الجمهوري دونالد ترامب الذي لازالوا يجزمون ويروجون بأنه سرق الانتصار ومنصب الرئاسة منهم بطرق غير مشروعة، ومنها الاستعانة بالدعم الروسي، والتعاون مع ويكيليكس، وغيرها من الاتهامات التي لم يتوقفوا عن اثارتها والنفخ فيها بهدف تحويل فترة ولاية الرئيس الى كوابيس لا تنتهي الا وقد صار منهكاً وهدفاً سهلاً لاسقاطه في الانتخابات المقبلة. وهناك تفسير ثانٍ، يتمثل في أن هذا التكالب يعكس حال الاضطراب وفقدان البوصلة داخل صفوف الحزب لدرجة الاخفاق في فرز شخصية أو اثنتين بارزتين لتركيز الأضواء عليهما واشهارهما وتسويقهما لدى الرأي العام الأمريكي للمراهنة عليهما في اجتياز الامتحان الانتخابي النهائي. ويضيف البعض الى ذلك، تفسيراً آخراً مفاده سهولة الوصول إلى المَوْرِدين الحيويين الأساسيين للحملات الانتخابية، وهما المال والإعلام، واللذان لم يكونا متاحين بنفس الدرجة و”السيولة” في الدورات الانتخابية السابقة، ودلالة ذلك أن معظم المرشحين هم من المليونيرات القادرين على تشغيل شركات العلاقات العامة في التعبئة المالية اللازمة لتمويل حملاتهم الانتخابية.

خيار “وول ستريت” وخيار الناخبين

ومع ذلك، وبرغم بعض الوجاهة التي يمكن أن نضفيها على تلك الفرضيات، فإن هذا التدافع داخل الحزب الديمقراطي على اقتناص فرصة تمثيل الحزب في انتخابات الرئاسة القادمة، يثير الريبة والشكوك في مقاصد القيادات التقليدية النافذة داخل الحزب. وهناك اعتقاد بأن قيادات الحزب الديمقراطي التقليدية، باتت تدرك تماما، أنها لم تعد تتمتع بشعبية بين قواعد الحزب نتيجة لسنوات من التماهي الايديولوجي مع أجندات الحزب الجمهوري، حتى أن الفارق بينهما في تطبيقاتهما الاقتصادية بات مقتصراً على المسمى الوظيفي لعنواني الأجندتين الاقتصاديتين للحزبين، فحين يجري الحديث عن الجمهوريين يكون مسمَّاها “Neoconservatism” (المحافظة الجديدة)، فيما هم يُنعَتون بــــ“Neocons” أو “Neoconservatives” (المحافظون الجدد). وحين يجري الحديث عن الديمقراطيين يكون مسمى أيديولوجيتهم الاقتصادية السياسية “Neoliberalism”، أي الليبرالية الجديدة، ويُخلع على أصحابها وأنصارها نعت “Neoliberals”، أي الليبراليون الجدد.

والاختلاف هنا شكلي الى حد كبير، إذ يقتصر على المسمى وحسب، في حين أنه في الجوهر لا يكاد يفرقهما عن بعضهما شيء يذكر. فـ”الوصفة” الاقتصادية للحزبين معا هي التي قادت الى هذا المستوى من التغول والتوحش الرأسمالي واتساع فجوة اللامساواة، ليس فقط داخل الولايات المتحدة وإنما خارجها أيضا، حيث تم تعميم النموذج بأدوات السياسة الخارجية وبأدوات المؤسسات المالية والاقتصادية الدولية المشمولة بـ”رعايتها”.

وعلى ذلك فإننا نميل الى تفسير قرار جو بايدن (نائب الرئيس أوباما)، الذي يروَّج له بأن الأوفر حظا لمنازلة ترمب، الترشح لخوض الانتخابات الرئاسية القادمة، بأنه قرار العصبة التقليدية التي تهيمن على الحزب الديمقراطي، وهدفه قطع الطريق على صعود عضو الحزب بيرني ساندرز الذي يطرح برنامج تغيير يطاول بعض “النواميس المقدسة” للسياسة الاقتصادية والاجتماعية الداخلية والسياسة الخارجية للولايات المتحدة، ويملك حظوظاً شعبية أفضل من بايدن المنتمي لسلطة وول ستريت وأقطاب صناعة المال والأعمال. تماماً كما فعلت هذه العصبة حين عبأت نفوذها المالي والاعلامي لإسقاط بيرني ساندرز في الانتخابات التمهيدية السابقة للحزب من أجل افساح الطريق أمام مرشحة سلطة شركات المال والأعمال والمجمع العسكري، هيلاري كلينتون، للفوز بترشيح الحزب، مع ان ساندرز كان أكثر تأهيلا منها لمنافسة ترمب في الانتخابات الماضية. فهاجس الخوف من ساندرز ومن تطبيقات برنامجه، لازال يسيطر على أقطاب المؤسسة الحاكمة من الحزبين اللذين يتقاسمان حصصها وامتيازاتها.

وازدادت هذه المخاوف في الأشهر الأخيرة بعد أن صار بيرني ساندرز يقدم نفسه على أنه اشتراكي ديمقراطي، وهو اتجاه بدأت أصواته ترتفع داخل صفوف قواعد الحزب الشابة، ويثير قلق النخبة الحاكمة من الحزبين. والحال أن هذه “الموجة الاشتراكية الديمقراطية” الصاعدة في الأوساط الطلابية ومنظمات المجتمع المدني، وصولا الى قواعد الحزب الديمقراطي، قد راقت للكثيرين من الأكاديميين والاقتصاديين الكينزيين (نسبة الى عالم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز)، واستهوتهم، باعتبارها طوق نجاة من الكارثة المحدقة بالبلاد جراء اتساع الفجوة الهائلة بين من يحوزون الثروة ومهمشيها، حيث يجني ربع العمال الأمريكيون أقل من 10 دولارات في اليوم، وهو أقل من مستوى الفقر الفدرالي، كما استحوذ 10% من الأمريكيين على 50% من دخل البلاد في عام 2012، وهي أعلى نسبة تُسجل منذ 100 عام.

وبحلول عام 2015، فإن 1% من الأمريكيين استحوذوا على ما متوسطه 40 ضعف ما حصل عليه 90% من الأمريكيين[1]. وتعمق أزمة التوازن المالي باتساع نطاق عجوزات الموازنة، وعبرها اجمالي الدين العام (الدين العام عبارة عن حاصل جمع العجوزات السنوية في الموازنة العامة، فقد ارتفع الدين الأمريكي من 19.5 تريليون دولار في عام 2016 الى 22 تريليون دولار في عام 2019، مدفوعا بتزايد العجز في الموازنة الذي ارتفع من 474 مليار دولار في 2016 الى 804 مليار في 2018 والى حوالي تريليون دولار في 2019؛ وتعلق مصير الدولار بقشة استمرار القبول الدولي الاذعاني له كعملة دفع واكتناز دولية “بفضل” الميزانية العسكرية الأمريكية الفلكية (طلب البنتاغون ميزانية عسكرية لعام 2020 قدرها 718 مليار دولار، بزيادة 33 مليار دولار عن موازنة 2019[2].

على أننا نخشى، أن يكون قرار بيرني ساندرز اشهار نفسه بهذه الطريقة السافرة كاشتراكي ديمقراطي، وهو المنتمي لصفوة الطبقة الأمريكية الحاكمة، تكتيكاً غير موفق، أو سابق لأوانه على أقل تقدير. ذلك لأن الذي لا شك فيه، هو أن الرئيس ترمب، والمجموعة المحيطة به، سوف يستخدمان هذا الاعلان الاشهاري في الحملات الانتخابية، كسلاح ضد بيرني ساندرز وضد بعض مرشحي الحزب الديمقراطي الذين هم أيضا جاهروا، بطرق شتى، بتبنيهم للمذهب الاشتراكي وتطبيقاته، وذلك لأن ثمانية عقود من البروباغاندا ضد الاشتراكية، والارهاب الفكري والسياسي الذي سُلط على كل من لديهم ميول اشتراكية، حتى لو كانت من جنس تلك التي يطرحها كينزيون “نوبليون”، مثل الاقتصادي الأمريكي الحائز على نوبل في الاقتصاد جوزيف. إي استيغليتز، والاقتصادي الأمريكي الآخر الحائز على نوبل أيضا في الاقتصاد بول كروغمان،   قد جعل من المفردة كالثمرة المحرمة. فقد أرهبوا  الناس من الاقتراب منها من زوايا مختلفة على رأسها الدين بطبيعة الحال. إنما يجب أن نقر بالمقابل، أن بيرني ساندرز، بدا موفقاً للغاية في نزوله الى الشارع وشروعه في شن حملة توعية منظمة ومركزة، عبر الفيديوهات المصورة، ضد وول ستريت، باعتباره مركز الحكم الحقيقي في واشنطن وليس الكونغرس أو البيت الأبيض.

خالص القول، بأن هذا التكالب الديمقراطي على الترشح لكرسي الرئاسة، لا يمكن الا أن يُعزى الى الفوضى التي دخل فيها الحزب في عام 2016 (العام الذي شهد فوز مرشح الحزب الجمهوري دونالد ترمب على مرشحة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون)، حيث لازال الحزب فاقدا لبوصلته، ما فتح الباب أمام كل من هب ودب، كما يقول المثل، لتقديم نفسه على أنه منقذ الحزب من ورطة الضياع الواقع فيها.

*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني يعمل مستشارا في شؤون النفط والغاز وعمل سابقاً مستشاراً لفرق التفاوض البحرينية في مفاوضات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. يكتب حاليا في الملحق الاقتصادي لصحيفة “الخليج” بدولة الامارات العربية المتحدة.

 

 

 

 

[1]انظر:  http://bit.ly/316hsqJ

 [2] انظر:  www.cnbc.com/2019/03/12/the-pentagon-is-asking-for-a-colossal-718-billion-for-its-2020-defense-budget.html