ضحكة هيغل الأخيرة Previous item لماذا الحرب؟ ولماذا العدو؟ Next item أقل من لا شيء: هيغل وظل...

ضحكة هيغل الأخيرة

هشام عقيل صالح*

عبر مفهوم جيجك حول الإرتداد المطلق، يمكن للمرء أن يحاول تطبيقه على ماركس نفسه، ويجد فيه – أعني ماركس – نزعة هيغلية ديالكتيكية في تفسير الإنتقال من المال إلى رأس المال – يمكننا أن نرى ذلك في الفصل المعنون بـ (هيغل قارئاً لماركس، وماركس قارئاً لهيغل). وعلى الرغم من أن مفهوم الإرتداد المطلق لم يوجد في الكتاب الذي نعرضه، بل في آخر مؤلفات الكاتب المعنونة بـ (الإرتداد المطلق: نحو تأسيس جديد للمادية الديالكتيكية)، إلا أن المنطق نفسه حاضر. إذا افترضنا أن الإرتداد المطلق هو الترجمة الأمينة لما كان يقصده هيغل في (علم المنطق) بـ: الإرتداد-المضاد الداخليالمطلق، والذي يكون هو هو معنى الديالكتيك، فإنه، إذن، من المفترض أن يكون التعبير الأساس لمفهوم الإنتقال. لنرَ كيف يصبح ماركس هيغلياً بهذا المعنى، ولنرَ إذا كانت هذه النظرة تجاهه أمينة أم مغلوطة.

ماذا يصبح الديالكتيك بهذا المعنى؟ يوفر جيجك جواباً لذلك: في البدء هناك الفوضى من دون أي انسجام (الكونية التجريدية) الذي يتم نفيه وعبر النفي يتم موضعة الأصل إلى الوراء، فقط ليكون هناك تعارضاً ما بين الحاضر والأصل الضائع في المرحلة الثانية. ثم يتعذر علينا أن نصل إلى هذا الأصل من حيث نكون في إنعكاس خارجي للأصل مموضعاً نفسه؛ آخذاً شكلاً ترنسندنتياً في المرحلة الثالثة. أما في المرحلة الرابعة، تنقل الحركة الإنعكاسية الخارجية إلى الأصل نفسه كإبتعاده الداخلي. هكذا، يتموضع الأصل ارتجاعياً؛ كالأصل القبلي المموضع، ارتجاعياً، بشكل بعدي.

بالنسبة إلى جيجك، يوظف ماركس في مفهومه حول توسع القيمة: مال – سلعة – مال (الزائد)، قراءة هيغلية من حيث يموضع رأس المال، كقيمة، ظروفه أو مستلزماته ارتجاعياً؛ لكن ما يفشل عند ماركس هو، من وجهة نظر هذه القراءة، حقيقة أن هذه الحركة، لتوسع القيمة نفسها، تنكسر فور حدوثها بما إنها قائمة على وعي زائف، حيث القيمة لا توسع نفسها بنفسها بل عبر استغلال عمل العمال بإستخراج القيمة الزائدة.  دعنا نضيف أن جيجك يتصور، كمثالي جيد: إن القيمة تتمظهر بأشكال مختلفة، تارة كقيمة استعمالية وتارة اخرى تظهر بمظهر آخر وهو القيمة التبادلية، فتتجاوز هذا التناقض، أو التخالف، وهكذا. القيمة تبقى هي، وحركتها كما هي، تبدأ بالشكل الأول: مال – سلعة (القيمة الاستعمالية)، ومن ثم شكلاً اخراً: سلعة- مال (القيمة التبادلية)؛ وبعد ذلك تصبح مالاً زائداً، ايّ رأس مالاً، وهكذا يكون ذاك السرد سرد حركتها الذاتية التي تموضع ظروف وجودها ارتجاعياً.

هنا، ولأن الفكر الهيغلي يغيب حقيقة مفهوم الحدث، ولئن غاب على جيجك معنى الحدث الذي وظفه ماركس في هذه الحالة، وبطريقة غير ديالكتيكية، أو إن شئت بطريقة غير ديالكتيكية بالشكل التقليدي للكلمة، نكون أمام منطق آخر، حيث لا يوجد هناك أي تعارض، ما بين القيمة الاستعمالية والقيمة التبادلية؛ بما إن القيمة هي القيمة التبادلية، ولا تنشق إلى شكلين: استعمالية وتبادلية. هذا خطأ ماركس نفسه، أعني خطأ كامن في توظيفه المفهومي، والذي كان مدركاً له – حيث ذكر ذلك في اكثر من موضع[1]. لا يوجد هناك سوى القيمة والاستعمال الاجتماعي للسلعة (بدلاً من القيمة الاستعمالية). إن حركة القيمة تجد ضرورتها في أن تتجسد في استعمال اجتماعي لسلعة معينة، حيث تستحيل قيمة من دون هذه الخطوة؛ وهي بحد ذاتها ليست سوى شكل ظهور، والتي لا تعبر سوى عن علاقة اجتماعية معينة. حركة القيمة، إذن، لا بد أن تمر في حالة تغير، لدينا:

مال – سلعة (رأس المال الثابت والمتغير) – سلعة (إعادة إنتاج قيمة الإثنين، زائداً قيمة زائدة) – مال (رأس المال)

يصاب الفكر الهيغلي بالشلل في منتصف الطريق، حيث لا يعرف كيف   يفسر التغير الحاصل في هذه اللحظة بالذات. الأمر لا يتعلق هنا بموضعة ظروف رأس المال ارتجاعياً، بل انزياح تام عن الموقع الأساسي للقيمة. القيمة لا تبقى هي نفسها في نهاية الحركة، وذلك بفضل الاستغلال نفسه: الأمر كامن في هذه الحقيقة، في حقيقة أن قوة العمل، أو قدرة العمل، هي التي تخلق، بشكل اقراري، القيمة الزائدة. هنا منطق قاعدة اللعبة لا يخضع لتغير، أو استبدال، ذاتي؛ حيث يطوف على الطرفين (الرأسمالي الفرد- البروليتاري الفرد) حقيقة وهمهما، بل بتغير في المواقع كلياً. لذلك يقول ماركس بأن الرأسمالي يضحك في نهاية العملية، إنها ضحكة إقرار صرفة. وهنا يموضع ماركس نفسه، حتى وإن كان غير مدركٍ بذلك، في موقع فلسفي جديد لنظرية الحدث. الحدث هنا لا يصبح نفي النفي، بل “نفي النفي النفي”.

في البداية يضع الرأسمالي ماله ليشتري سلعة معينة، يتحول المال إلى سلعة؛ ولكنه لا يقوم بذلك عن حماقة متأصلة فيه، بل لأنه يبحث أساساً عن سلعة مميزة؛ أنه مدرك بأنها تقوم بتوسعة القيمة، أو ما يسميه ماركس بصريح العبارة ”الشرط الذي لا غنى عنه“ لزيادة القيمة (النفي الإقراري الأول)، ومن ثم نخرج من السوق إلى المصنع حيث العامل (رأس المال المتحرك)، عبر قوة عمله، يعيد إنتاج القيم المدفوعة فعلاً من قِبل الرأسمالي للسلع التي اشتراها (من ضمنها قيمة قوة عمل العامل)، ولكنه يقوم، عن غير وعي بذلك، بإنتاج قيمة زائدة للرأسمالي. بذلك، يكون لدينا السلعة (فيها تم إعادة إنتاج قيمتي رأس المال الثابت والمتحرك، زائداً القيمة الزائدة) ولكن بشكل آخر تماماً (النفي الإقراري الثاني، أو نفي النفي). هنا لا تعود القيمة كما كانت عليه، بل كشيء ارفع، كشيء يتجاوز كل المستلزمات السابقة، كشيء زائد: رأس المال.. أنه لا يشكل نفياً لما يسبقه، حيث إنه لا يعارضه، بل يشكل انزياحاً كلياً للمنطق الذي، إن شئت، يستلزم وجوده ارتجاعياً. هنا الحدث (تصادف الرأسمالي بالعامل) هو ظرف إنتاج رأس المال (”الشرط الذي لا غنى عنه“)، الذي هو تجاوز كل ما سبقه (”هذه السلعة ليست مصدراً للقيمة وحسب، بل لقيمة تتجاوز نفسها“).

نلاحظ أن استعمال جيجك لعبارة ”حركة القيمة بوصفها حركة واحدة“ هي عوارضية، فإن القيمة عنده تبقى سيان؛ أو بمنطقه الديالكتيكي الارتجاعي، القيمة هي-فعلاً قيمة زائدة، أيّ رأس مالاً، وبالتالي واقعاً منجزاً. إنها في هذا الوصف لا تقوم إلا بموضعة ظروفها، أو مستلزماتها، ارتجاعياً؛ لهذا السبب تبقى واحدة. بينما في المنطق الثاني، لا تبقى القيمة سيان بل تتجاوز نفسها، ومستلزماتها جميعاً، لشيء ارفع أو اسمى. شيءٌ يتجاوز ما هو موجود، يتجاوز قواعد اللعبة كلها؛ شيء جديد كلياً وخلاقاً، حيث يتجه نحو ”إنجاز الواقع ذاك“ بدلاً من أن يكون قابعاً في وجهة نظره.

كما إن عند مفهوم الأول، يكون الحدث هو الجديد؛ حيث إنه هو ما يموضع ظروف وجوده ويكون منطقه هو هو منطق الجديد؛ الجديد يبتلع الحدث، ولا يكون هناك الحد الفاصل بينهما (ما قبل التاريخ يبتلع من قبل التاريخ). بينما عند المفهوم الآخر، الحدث لا يمكن أن يكون الجديد، بل هو الإنفتاح نحو الجديد نفسه، ايّ احتماليته. منطق الجديد يختلف تماماً عن منطقه، أو بكلمات أخرى: إن رأس المال لا يساوي ظروفه، بل شيء اكثر من ذلك. من هنا يمكننا نرى لأي غرض يفيد المنطق الإرتجاعي الديالكتيكي (في تأبيد السائد)، ولأي غرض يفيد المنطق الإرتجاعي التصادفي (في تبديد السائد).

كل هذه الفرضيات التي طرحتها لا بد أن تخضع لدراسة ومراجعة، فلا يمكن أن نحسبها مسلمة تم الإشهار بها، لكن كمقدمة، أو فجوة كامنة، يمكن عبرها تقديم قراءة جديدة لا لماركس وحسب بل لهيغل كذلك. إنها من المفارقة المضحكة بأننا لا يمكننا أن نفهم سبينوزا إلا بعد أن يدخل هيغل إلى المشهد الفلسفي، فمن دون تدخله لم نكن لنفهم سبينوزا إطلاقاً.

 

اسبينوزا، هيغل وصولا لماركس

وبالتالي لن نتمكن من فهم ثورة ماركس المعرفية.  إما أن يكون الفيلسوف المادي اسبينوزياً، أو إما لا يكون مادياً على الإطلاق. لقد حان الوقت لأن نقرأ سبينوزا مع هيغل، لا واحد دون الآخر، أو واحد ضد الآخر؛ وبقراءة كتلك نستطيع أن نستخرج فضاءاتهما المشتركة (والتي هي عديدة)، وأن نفهم كيف شكلا الأفق العلمي، والفلسفي، لفكر ماركس. لكننا لا ندعو تجاهل هيغل، واتصور أن اهم منجزات الكتاب الذي عرضت فصلين، أو ثلاثة، منه هو تشديد على هذه الدعوة. الآن، لا يهم كيف عزز جيجك المثالية تحت عباءة المادية، ولكن المهم هو أن ذلك يفتح احتمالية دراسة أعظم الفلاسفة اطلاقاً: غيورغ هيغل؛ دراسته بطريقة مختلفة. ندرسه بمعنى أن نعجب به، فذلك يكفي بأن تقوم بتفكيكه؛ فأنت، كما قال دريدا، لا يمكنك أن تفكك إلا من تحب. والتحرر من الهيغلية لن يحصل إلا عبرها، لا عبر الهروب منها؛ حيث ستبقى المسألة عالقة دوماً.

نصل إلى ضحكة هيغل الأخيرة، ليست تلك الموجهة لأعدائه، بل إلى اتباعه؛ فهو لم يخدعنا وحسب، بل خدعهم كذلك.. إنها الضحكة التي تعلو حينما قال، بتفارقه المعهود، ”هناك شخص واحد وحسب تمكن من فهمي.. وحتى هو لم يتمكن من فهمي!“. هذا الشخص، بلا شك، هو سلافوي جيجك.

 

 

*هشام عقيل صالح كاتب بحريني من مواليد العام 1995، طالب بجامعة البحرين كلية الآداب قسم العلوم الاجتماعية. عضو مؤسس في “مختبر الفلسفة والفكر النقدي”.  نشر العديد من المقالات الفكرية في مواقع إلكترونية داخل وخارج البحرين منها: “الحوار المتمدن”، “حكمة”، “منقوطة”، “جهة الشعر” و”أوان”. نشر العديد من المقالات الفكرية في مجلات ثقافية وصحف محلية منها: مجلة البحرين الثقافية، صحيفة الأيام، صحيفة الوسط، اخبار الخليج. من هذه الأبحاث والدراسات: “الثقافة في ضوء الممارسة الاجتماعية: قراءة في مفهوم الثقافة والأزمات الثقافية”، موت الإنسان، الماركسية والفلسفة، وبورتريه للفيلسوف المادي (لوي آلتوسير)،  قناع يجعلك تبدو كما أنت (سلافوي جيجك)، صفعة على وجوه الكهل، هنا الوردة، هنا أرقص، عناكب سبينوزا، أشباح هيغل، اكتشاف رأس مال ماركس. عيون مغلقة بإتساع: نقاش حول مفهوم الطبقة الوسطى. غواية كيركي الفلسفية: حول نقد الظواهر الاجتماعية. أسئلة أقل فلسفة اقل. بودلير – أدورنو: أيمكن أن يأتي النسيم من كوكب آخر.

 

 

الهوامش:

[1] يقول ماركس في ملاحظاته حول ادولف فاغنر: ” أنا لا ابتدأ بـ ”مفاهيم“، وبالتالي لا أبدأ بمفهوم القيمة، وبذلك أنا لست مهتماً بتقسيمها. أنا ابدأ  بأبسط الأشكال الاجتماعية التي عبرها يظهر منتوج العمل نفسه في المجتمع المعاصر، وهو ”السلعة“. أنا احلل السلعة، وبالشكل التي تظهر عبرها. هنا أجد، من جانب، أن شكلها الطبيعي هو شيء ذو فائدة، ايّ قيمة استعمالية؛ بينما في الجانب الآخر تكون حاملة للقيمة التبادلية، ومن وجهة النظر هذه هي ”قيمة تبادلية“. وإذا توسعنا بتحليل الأخيرة سنجد بأن القيمة التبادلية هي مجرد ”شكل ظهور“، طريقة مستقلة لعرض القيمة المختزنة في السلعة… أنا لا اقسم القيمة نحو قيمة استعمالية وقيمة تبادلية كضدين من حيث تكون القيمة تجريدية وبالتالي تنشطر ولكن الشكل الاجتماعي الملموس لمنتوج العامل، ايّ ”السلع“، هي في الجانب الأول، قيمة استعمالية، وفي الجانب الآخر ”قيمة“، لا قيمة تبادلية، بما إن شكل الظهور ليس هو المضمون“.