“المؤلف إذ يرى بأن تاريخ الثقافة في مجتمعات الخليج انما هو تاريخ حقيقي للحركة الديمقراطية”، ينبه إلى أن “مشكلة هذا التاريخ أنه متقطع، لا يكاد يضع تأسيساً للأفكار والفنون، حتى ينعزل هذا التأسيس بقطيعة تاريخية موصولة بهزيمة من الهزائم العربية المُقوضة للتراكم على الصعيد الثقافي، أو بأزمة من الأزمات السياسية الطاحنة…”
*حسن مدن
يقع الكتاب الذي ألفه الدكتور إبراهيم غلوم أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة البحرين،في أكثر من 340 صفحة، وهو من اصدار المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 2002، ويتضمن بالإضافة إلى المقدمة ستة فصول موزعة على العناوين التالية: “الثقافة العربية.. هيمنة نسق الاستبداد”، “الحراك الثقافي بين دول الخليج ودول المغرب العربي”، “الثقافة في مجتمعات الخليج العربي – تحديات الشراكة والثقافات المصغرة”، “الثقافة بوصفها خطاباً ديمقراطياً”، “قراءة في نماذج من رهانات المثقفين واجتهاداتهم”، وفيه يتناول المؤلف: أولاً؛ “المثقفون والمجلات العربية”، وثانيا؛ “المستقبل الغائب والخصوصية العربية المثقلة” وهي قراءة في اجتهادات الدكتور محمد جابر الانصاري.
وأخيراً عنوان الفصل السادس: “الثقافة المواتية للديمقراطية”، الذي يتضمن قراءةأولى في تداعيات الحدث الديمقراطي في البحرين، وأيضاً: “بناء المواطنة/ بناء الثقافة الديمقراطية”، ويختتم بثلاث قراءات في قانون الجمعيات الأهلية جاءت تحت العناوين الفرعية التالية: سقوط الشخصية الاعتبارية، هدر قيم التاسيس، نقض الحريات المكفولة.
مفهوم واضح وحيادي للثقافة
هذا الكتاب من وجهة نظري:
أولاً:كتاب ينتصر للثقافة، حيث يضع قارئه “في تحليلات مفصلة ومباشرة تؤكد في المحصلة الأخيرة أن التعميم الخاص بمقولة إن الثقافة منتج للديمقراطية إنما هوتعميم فلسفي، لأنه ينقل الفهم الخاص للثقافة من كونها سلسلة المعتقدات في الفكر والأدب والمجتمع والسياسة والاقتصاد إلى الفهم الأكثر عمومية والأبعد عمقاً وتغلغلا في جوهر معنى الثقافة وهو الذي يجعل الثقافة بمثابة الكيفية الشاملة المنتجة والمحركة للمجتمع”.
وهو في صياغته للتحديات التي تواجهها الثقافة في البحرين ومنطقة الخليج، محلية كانت أم عالمية، واقعية أم مستقبلية، يرى أن ذلك لا يمكن أن يتم “في معزل عن مفهوم واضح وحيادي للثقافة”. مفهوم لا يتسع للاعتراف بأن الثقافة هي الكيفية التي ننتج فيها مجتمعنا فحسب، وإنما يتسع لتداعيات هذا الإعتراف ولاعتباراته التي لا حصر لها، ولاحتكامه الأبدي لكل ما هو واقعي متحقق أو ممكن التحقيق، ولكل ما هو منقسم ومتعدد أو مختلف ومتفاوت أو نسبي وحتمي.
الثقافة بهذا المعنى لا تنتج نخباً فحسب ولا طائفة واحدة فحسب ولا ديناً واحداً فحسب، إنها ليست شعراء أو كتاباً أو مبدعين فحسب، وليست سياسيين وأساتذة وتكنوقرط فحسب. إنها بنية متعددة الحضور لكل جماعة من البشر أو لمجموعهم داخل المجتمع الذي ينتمون إليه.
ليس غريباً، والحال كذلك، أن تواجه الثقافة، برأي المؤلف، تاريخاً طويلاً من التضليل والعزل فهي شعراء وكتّاب تارة، وهي مثقفون متعلمون وخريجو مدارس وجامعات تارة، وهي نخب ثقافية محددة تارة وهي ساسة وقادة، وهكذا تظل الثقافة دوماً وأبداً خارج فعل السياسة، كما تظل المشكلة الصارخة متمثلة في عدم احتكام القناعات المركزية للدولة إلى حقيقة طالما تعرضت للسخرية وهي أن التخطيط الاستراتيجي للثقافة لا يقل أهمية وخطورة عن التخطيط الاستراتيجي للأمن والاقتصاد.
والكتاب لا يعتمد التنظير للثقافة ولدورها في انتاج الديمقراطية سبيلاً وحيداً لتقديم أفكاره، وإنما “ينطلق من همٍ يومي جرّب الكاتب الإنخراط فيه على مدى فترة طويلة، كانت له خلالها أفكار وتصورات عن المسالة الثقافية، يقول إنها تختلف عما يصل إليه في الكتاب، فهي وإن كانت لا تختلف عنها اختلافاً جذرياً، لكنها على الأقل تتجاوزها نضجاً وتغلغلاً في الظواهر الأكثر تعبيراً عن الروح الوظيفية للثقافة. وكل ما يختمر في هذا الكتاب من أفكار مؤصلة لكيفية انتاج “الثقافة/ الديمقراطية / المجتمع” انما هو ات من معايشة وهم ّ ثقافي متصل.
وفي هذا المجال فإن الكاتب يرى “أن دور الدولة يتلخص في ضرورة الوعي بحركة التاريخ مما يعني ضرورة تنظيمها مبادىء الحرية والمساواة والعدالة واخذها بالشروط العقلانية في تنمية المجتمع وخلقها المناخ الاجتماعي الملائم لظهور بيئة ثقافية لا يكاد يتحد المواطن بمرافقها واجهزتها وانتاجها حتى يصبح كائنا ثقافيا منتجا لقيم الشراكة والتعددية”.
ثانياً:النقطة التالية وثيقة الارتباط بما سبقها، فالكتاب هو أيضاً انتصار للديمقراطية، فهو ينطلق من الموقع أو الأرضية التي يقف عليها الكاتب نفسه في انتصاره لهذه الديمقراطية، وهو من هنا يدعو إلى إعادة المضمون الحيوي للثقافة والنظر اليها بوصفها انتاجاً للديمقراطية ولمختلف الأفكار والأشكال والصور التي تستدعيها المنظومة القادرة على ترسيخ مبادىء الحرية والعقلانية والشراكة الفعلية لكل أطياف الاختلاف والتنوع تحت سقف واحد يحمي جميع قوانين الإستثمار للأفكار والمفاهيم ويحقق توزيعاً عادلاً لجميع الأرباح والخسائر على السواء.
يتطلب هذا، بتقدير المؤلف، الكشف عن القوى المهيمنة على ما يصفه ب”النسق الاستبدادي في الثقافة العربية، فبدون ذلك يغدو السياق الثقافي غير منتج لأي تغيير أو نمو فعلي، بل أنه سيبدو مكتظاً بحلقات متكررة ودورات حتمية تتكرر فيها البدايات والنهايات بشكلٍ متقطع يجعلنا مرشحين دوماً للوقوف في آخر الصف، بل أنه يسبغ علينا شعوراً بالتراجع، وأننا نتحرك في الاتجاه المعاكس. ومن آيات ذلك قول المؤلف إن “الإسلام الاصلاحي في نهاية القرن التاسع عشر أكثر تنويراً وعقلانية من الإسلام في مرحلة ما بعد الحداثة وبدايات الألفية الثالثة، والفكر القومي في النصف الأول من القرن العشرين أكثر التصاقاً بالخطاب النهضوي منه في العقود الأخيرة من ذات القرن، ومشروع الحداثة خلال العقود الأخيرة يتراجع أمام صدمة الواقع وهزائم الدول العربية أمام اسرائيل من ناحية وكشوف العقلانية الليبرالية وثوراتها المعرفية من ناحية أخرى”.
ثالثاً:هذا كتاب يجب أن نقرأه ونقف ملياً أمام ما يتضمنه لتحاشي الوقوع فيما حذَّر منه الكاتب في أكثر من موضع من مواضع كتابه من ألا نقع في تكرار البدايات والإنكسارات التي انتهت إليها مشاريع التحديث والنهضة الفكرية في بلدان الخليج، بينها التنبيه الذي أتينا عليه منذ قليل حول تراجع النزعة التجديدية للخطابين الإسلامي والقومي في المنطقة.
والمؤلف إذ يرى بأن “تاريخ الثقافة في مجتمعات الخليج انما هو تاريخ حقيقي للحركة الديمقراطية”، ينبه إلى أن “مشكلة هذا التاريخ أنه متقطع، لا يكاد يضع تأسيساً للأفكار والفنون، حتى ينعزل هذا التأسيس بقطيعة تاريخية موصولة بهزيمة من الهزائم العربية المُقوضة للتراكم على الصعيد الثقافي، أو بأزمة من الأزمات السياسية الطاحنة، التي كثيراً ما تتلقفها شرائح البرجوازية المثقلة بسلسلة من ردود الفعل المتفاوتة بين النكوص والخيانة والصمت، الأمر الذي يعني ضرورة الشروع في تأسيس جديد لبداية جديدة وهكذا”.
ويستنتج الدكتور ابراهيم من ذلك أن المثقف في مجتمعاتنا عضو شرعي في حركة جيله فقط، لكنه بعد أدنى مظهر من مظاهر الصدام مع السلطة الرسمية، أو بعد أي شكل من اشكال القطيعة القهرية يصبح مغترباً عن الثقافة والمثقفين، ويجد نفسه في عزلة اختيارية، وأعمق تأثيرات هذه الظاهرة تنعكس في تأسيس الوعي بالحرية والعمل بالعقل، ذلك أن تكرار صور الإنقطاع وتعدد أمثلتها يرسخ انطباعاً سائداً بعدم جدوى شعارات العمل الثقافي حول حتمية الحرية والعقل وحركة التاريخ وهو الأمر الذي يهيء المناخ لظهور الكثير من الصدمات ومشاعر الخيبة سواء بين المثقف والمجتمع أو بين المثقف والمثقف”.
من الأمثلة التي يسوقها الكاتب: “إن جيلا كاملاً ينتمي إلى حركة الربع الأول من القرن العشرين على سبيل المثال ينقطع عن العمل الثقافي إما بالنفي أو المحاصرة والتضييق، الشيخ عبدالعزيز الرشيد ورفاق جيله في الكويت والشيخ عبدالوهاب الزياني ورفاق جيله في البحرين، ثم تتسع قائمة أسماء المثقفين الذين انقطعوا عن العمل الثقافي بعد الأحداث السياسية في الخمسينات لتشمل ابرز قادة الحركة الوطنية والثقافية في منطقة الخليج، ثم ياتي جيل الستينات ليتعرض عدد كبير منه لمصائر مختلفة من الانقطاع.
رابعاً:هذا الكتاب هو قراءة في التاريخ الثقافي في البحرين وفي بلدان المنطقة الخليجية عامة، من موقع الإنحياز لتراث التنوير والتطلع للحداثة في هذا التاريخ، وهذا أمر نعثر عليه في فصول مختلفة من الكتاب، سنأتي على ذكر بعضها، لكننا لن نتمكن من الإحاطة الكاملة بها في الحيز المتاح لهذه القراءة.
تحكم الكتابة رؤية مبنية على الإيمان بوحدة الثقافة في مجتمعات الخليج العربي، وهي وحدة تمتد عميقاً في التاريخ، وهي ما زالت تغتني بروافد الثقافة العربية الأخرى، إما بحكم تواصلنا وعيشنا المشترك مع أشقائنا العرب، أو بما تحمله وسائل المعرفة إلينا من إبداعهم، وغني عن القول إننا، بدورنا، نقدم مساهمتنا في هذه الثقافة العربية، كوننا أحد روافدها.
وبشيء من الإبحار في التاريخ الثقافي القريب سنقف على سيرة عدد من الأدباء والمبدعين الخليجيين الذين يصعب نسبتهم إلى بلد خليجي بعينه، وفي بواكيره البحثية التفت الدكتور محمد جابر الأنصاري في كتابه: «لمحات من الخليج العربي» إلى هذه الحقيقة مُقرراً أنه “من المستحيل تجزئة دراسة الحركات الأدبية في الخليج من دون الالتفات، التفاتاً قوياً ومُركزاً، إلى أمثالها من الحركات في الأجزاء الأخرى، ومن لا يفعل ذلك لن يخرج بدراسة منهجية متكاملة سليمة”.
والأمثلة على ذلك تترى فالشاعر ابن المقرب العيوني ولد في الإحساء وأقام في البحرين فترات طويلة، وولد خالد الفرج في الكويت لكنه عاش، طويلاً، في البحرين، ومثله فعل البحريني عبد الرحمن المعاودة الذي عاش فترة في الشارقة قبل أن يستقر في قطر، وعاش وعمل الأديب العماني عبدالله الطائي في البحرين والكويت والإمارات قبل أن يعود ليستقر في مسقط رأسه عمان.
تفنيد مقولة “المركز” و”الأطراف”
ليس بعيداً عن هذا، فيما أرى أنا على الأقل، تأتي مقاربة د. ابراهيم غلوم لظاهرة “الحراك الثقافي بين دول الخليج ودول المغرب العربي”، التي أعدَّها مقاربة متميزة ومختلفة تفند الرأي الشائع في الثقافة والأدب العربيين عما يوصفان بــ”المركز” و”الأطراف”. ففي الدراسة التي يتضمنها الكتاب تحت هذا العنوان نقع على بحث معمق في دور ما وصفه الباحث بــ “قالب الرحلة”، منطلقاً من الصعوبة التي تحيط بعملية تحديد عمليات الحراك الثقافي في الثقافات والبيئات العربية وترسيم ملامحها الدقيقة، “فهي أحياناً لا تدرك وإنما تلمس آثارها بصورة غير مباشرة في أفعال وعمليات انتاجية طويلة الأمد، قد لا تبدو ذات علاقة مباشرة بعملية التفاعل . إن هناك الكثير من المصنفات العلمية الضخمة التي وضعها مغاربة جاءت نتيجة تفاعل مع ثقافة المشرق والعكس أيضاً، لكن دون أن يدرك أحد كيف تمت عمليات التفاعل أو التداخل أو المثاقفة”.
لماذا قالب الرحلة تحديداً كأداة من أدوات التثاقف والتفاعل في إطار الثقافة العربية نفسها؟
يرد المؤلف ذلك إلى “تجذر حياة الرحلة في الثقافة العربية وفي طبيعة التداخل الثقافي بين الجزيرة العربية والمغرب العربي، فالرحلة حركة في الزمان والمكان ومعاينة مباشرة لما ينتجه المكان والانسان في آن واحد ومغامرة مجهولة للوقائع وللطبيعة والأشياء ولم تتعرض الجزيرة العربية لهذا النمط من التثاقف والتداخل والاكتشاف إلا في حدودها الداخلية (حركة القبائل ورحلاتها الداخلية في فترة العصر الجاهلي والإسلامي أو في حدود ما انتهت إليه قصص الرحالة الاوروبيين والمستشرقين).
أما فيما تلا مرحلة الفتوح الاسلامية فقد تحوّلت الجزيرة العربية إلى بيئة ثقافية طاردة لأسباب مختلفة أهمها كوارث الطبيعة والجفاف وكوارث الفتن والتناحرات العصبية والسياسية، ولذا انطلقت الرحلة منها إلى الآخر. ربما كانت هناك رحلات ذات طبيعة عسكرية خرجت مع خروج تتابعة اليمن وملوكهم في العهود القديمة، إنما تبدأ من عرب الفتح وعرب الرحلة الهلالية التي تجمع بين التاريخ والمثيولوجيا برأي المؤلف.
رحلة بني سليم خرجت من نجد بنمط حياتها الرعوي ودخلت أقاليم حضرية واندمجت في حركات سياسية متحالفة أولاً، ثم مشاركة في الدعوة السياسية الدينية للقرامطة ثم مدفوعة للخروج من ثقافة المكان الجديد إلى ثقافة مكان اخر (افريقية) وقد أورثت هذه الرحلات وغيرها جيوثقافية نجد ملامحها مثلاً في شتات الجماعات العربية بين اطراف الخليج والمغرب العربي.
“ولقد تأسست حركة الرحلة في المكان أكثر وأكثر بعد تقدم الفتوح أو استقرارها على الأقل بصورة مغايرة. لقد انتقلت من نمط الهجرة الجماعية المتطلعة فطرياً لنمط عيش أفضل إلى نمط رحلة التثاقف أو التفاعل الثقافي، وقاد ذلك مجموعة كبيرة من العلماء في فترات متصلة تقدمت مع رحلاتهم فتوح الثقافة وتخومها من أجل محايثة المكان ومعرفة الذات والتعمق في الوعي بالهوية مكاناً وزماناً. وتأتي حركة ارتحال العلماء وفتوحاتهم ومثاقفاتهم المتصلة رداً مباشراً على واقع الانقسام المأساوي الذي آل إليه مصير الأمة بعد أن وهنت الخلافة وضعفت الحكومات المركزية. إن السياسات هنا تضع التخوم والحدود لكن الثقافة تخترقها عبر فتوحات العلماء وما ينتجونه من مصنفات موسوعية تعطي الانطباع بوحدة الثقافة العربية والمكان العربي”.
الثعالبي: من المغرب الى الخليج
أما الرحلة المعاكسة من المغرب العربي نحو الخليج، فيجد المؤلف نموذجاً لها في القرن العشرين في رحلة الزعيم التونسي عبدالعزيز الثعالبي إلى الكويت والبحرين مرتين متتاليتين وفي فترتين متقاربتين 1924 – 1925. لقد جاء هذا الزعيم إلى دول الخليج يجرّ وراءه تاريخاً من النضال السياسي والعمل الوطني. لم يأت مستكشفاً، مستعرضاً أحداثاً ماضية وإنما جاء ملهماً يسقي الأرض العطشى ويستخلص الدروس الوطنية والقومية في بيئة عربية خالصة الوفاء لامتدادها في المغرب العربي”.
وليس مبالغة القول، حسب المؤلف، إن رحلة الثعالبي إلى الكويت والبحرين، “قد صقلت الدروس وألهمت الأفكار فهو واحد من أقطاب مدرسة محمد عبده ورشيد رضا في الاصلاح التي حاولت أن ترى إلى التخلف والاستعمار والاستبداد من وجهة إسلامية نقية تجمع بين الإلتزام الإسلامي والإستنارة الحديثة”. ولم يكن غريباً بسبب ذلك أن تطلق احلامها في التغيير عبر مشروعات متقدمة كالدستور ومجالس الشورى والإصلاح الإداري ومواجهة التخلف والجمود ومكافحة الوجود الأجنبي بكافة وسائل السلم والمقاومة”.
جاء الثعالبي إلى الكويت والبحرين ناقلاً تجارب عملية لمثل هذه الأفكار وحين استقبله الوطنيون وزعماء الإصلاح لم يكونوا يجهلون ذلك، وكانوا يعرفون تاريخه، ويرون فيه مرآة أحلامهم الوطنية ورغم اتفاق ممثلي دور الإصلاح في الكويت والبحرين على احترام تجربة الثعالبي وضرورة الأخذ منها إلا ان تفاعلات المثاقفة بينه وبينهم قد تشكلت في ثلاثة خطوط تدل جميعها على حيوية حضور الثعالبي فكراً ونضالاّ.
وقد تجسّد ذلك في ثلاثة خطوط: الأول يتضح في انكشاف تيار التعصب الديني الذي وصل حد الإنغلاق المطلق وكانت زيارة الثعالبي كفيلة بإضرام نار المواجهة مع الإسلام المتعصب وخاصة في الكويت التي تواجد فيها عدد من الدعاة المتزمتين، وعانى منهم مصلحو الكويت وأدباؤها أمثال يوسف بن عيسي القناعي والشيخ عبدالعزيز الرشيد صاحب مجلة الكويت والشاعر صقر سالم الشبيب.
الخط الثاني ترسخت في الكويت أرضية مدرسة الإصلاح الديني والفكري السياسي والاجتماعي التي تزعمها في البلاد العربية أمثال الثعالبي نفسه ومحمد عبده ورشيد رضا لعاملين اساسيين: أولهما أن الثعالبي يبلور تجربة عملية لتلك المدرسة التي خضعت لسلسة متصلة من المواجهة مع الفرنسيين وتعرضت للامتحان على أرض الواقع حيث صمود هذا الرجل والحزب الذي أسسه (الحزب الدستوري)، والعامل الثاني أن تربة الثقافة في الكويت مهياة أكثر من البحرين للتقاطع مع تجربة الثعالبي، فقد عرفت الكويت طوال العقود الأربعة الأولى من هذا القرن مدرسة فكرية متصلة الأجيال تؤسس مرجعيتها من تراث الفكر النهضوي الإسلامي الذي أسسه الافغاني ومحمد عبده ورضا رشيد. وبرزت أسر كويتية عرفت بالمكانة الاقتصادية والنفوذ الاجتماعي وهي أسر صقلتها أفكار الاصلاح ودفعها العمل التجاري نحو الانفتاح.
الخط الثالث: وجد الثعالبي في الكويت بيئة ثقافية منقسمة بين التزمت الشديد والإصلاح المحافظ بينما لم يجد ذلك في البحرين . لقد وجد في البحرين جيلاً أكثر شباباً وأكثر تنوراً مما وجد في الكويت كما وجد توثباً فكرياً متقدماً حتى بالقياس إلى مرجعياته هو. فمزية تفاعل الثعالبي مع ثقافة الكويت تكمن في اتصاله القوي برجالات يملكون النفوذ التجاري والاجتماعي وامكانيات التاثير على الحاكم، ولذلك سلكت افكار الثعالبي طريقها في التبلور داخل ثقافة الكويت فكانت استجابتها المباشرة في الدعوة إلى اصلاح الحكم والإدارة وانشاء المجلس النيابي، أما في البحرين فالمزية مختلفة فقد جاء إليها في اعقاب أحداث مؤسفة انتهت بتدخل اللانجليز المباشر وخلع الحاكم الشيخ عيسى بن علي وتشتيت عدد من زعماء الحركة الاصلاحية المحافظة التي نعتبرها امتداداً لذات الحركة في الكويت.
في بحث المثاقفة بين المغرب العربي والخليج العربي يستنتنج الباحث “أن ما يعتبر هامشاً أو طرفاً يمكن أن يكون ملهماً وباعثاً ومبهراً . لقد صاغت ذلك رحلات العلماء المغاربة واستطلاعاتهم لأماكن وأقاليم مجهولة من الشرق العربي.
كما يستنتج أيضاً أن أكثر محاذير الواقع الذي تصل إليه نماذج الثقافات الوطنية التي كوّنتها السياسات الراهنة تتصل بعزلة العامل الثقافي أو تأجيله وترهين اشتغاله وفق المصالح السياسية الطارئة غالباً. هذا من جانب ومن جانب آخر فإن استقرار ثقافة النماذج الثقافية الراهنة (الثقافة المقترنة بالحدود السياسية للدول العربية) يستفرز آلة الانقسام ويحث عليها او يؤجل اشتغالها الى حين من الزمن بينما يسكن تحت رماد الظرف الثقافي مزيد من الشتات والانقسام.
“واذا كنا نريد دفع ذلك كله وانتزاع تلك المخاوف فليس لنا إلا أن نضع الحساب الأول للعمل الثقافي المشترك بين البلاد العربية . فإذا كانت بدايات تأسيس كيان الدول العربية الحديثة قد أهملت تماماً اعتبارات العامل الثقافي فذلك لارتباطها، أي البدايات، بحراك السكان والقبائل والجماعات وهجراتها وتمفصلاتها وسط ظروف التخلف وهيمنة النفوذ الاجنبي، أما الآن فإن أي نموذج للسياسة العربية لا يمكن له التحرك خطوة واحدة في خضم الصراع السياسي والمصالح الاقتصادية دون استثمار العامل الثقافي والحضاري المشترك بين الدول العربية.
*الدكتور حسن مدن كاتب من البحرين نال درجة دكتوراه فلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية عام 1991. ترأس قسم الدرسات والبحوث في الدائرة الثقافية في إمارة الشارقة في الفترة من 1992 – 2002. كما عمل مستشارا ثقافيا في هيئة الثقافة في البحرين في الفترة من 2002- 2015. عمل مديراً لتحرير عدد من الدوريات الأدبية والثقافية في الشارقة والبحرين مثل “الرافد” ودراسات و”البحرين الثقافية” كما يكتب مقالا يوميا في صحيفة الخليج منذ العام 1996. صدرت له العدد من الكتب ابرزها: خارج السرب، الثقافة في الخليج: أسئلة برسم المستقبل، لا قمر في بغداد – ترميم الذاكرة – الكتابة بحبر أسود – للأشياء أوانها (ما تيسّر من الأهواء والحواس). رابط لجميع مؤلفات د. حسن مدن: http://altibrah.ae/books/author/824/1