تحديات الثقافة المؤاتية للديموقراطية Previous item لا أحد ينام في الإسكندرية... Next item كتاب"الثقافة وانتاج...

تحديات الثقافة المؤاتية للديموقراطية

“ومن التحديات أيضاً إمعان السياسي “في تهميش الثقافة لا من خلال موقعه في السلطة فحسب، وإنما من خلال موقعه المعارض والمختلف أيضاً، وقد اشتغل الخطاب السياسي  للتنظيمات السياسية والاجتماعية بمفردات الخطاب السياسي المفرغة من بعدها الثقافي، ولم ينظر السياسيون إلى المثقفين إلا بوصفهم أرقاماً في صفوف القاعدة العريضة للنخبة المنتمية، وهذا يفسر أسباب الفجوة بين عدد كبير من المثقفين والسياسة”.

 

*حسن مدن

كتاب “الديموقراطية وإنتاج الثقافة” للدكتور إبراهيم غلوم أستاذ النقد الأدبي الحديث بجامعة البحرين، ليس قراءة في تاريخنا الثقافي فحسب، وإنما هو قراءة في التحديات التي تواجهها الثقافة في مجتمعات الخليج العربي اليوم، وهو يرى أن بعض هذه التحديات آت من حقيقة أننا “لم ندرك مفهوم الثقافة من خلال حكمة الانثروبولوجيا إلا في وقت متأخر، ويمكن ملاحظة أن تاريخنا الثقافي الحديث يفتقر إلى الاهتمام بعلم الانثروبولوجيا إلى حد البؤس، بينما الجميع يدرك أن الامبراطوريات الاستعمارية والدول الحديثة والمتقدمة تأسست في هدي من الكشوف والإستطلاعات المتقصية للثقافة والتي قام بها الرحالة وعلماء الإنثروبولوجيا”.

ومن تجليات ذلك أننا “فرطنا كثيراً في المعنى الحيادي المطلق الذي ينطوي عليه مصطلح الثقافة وأغلقنا عليه دوائر النخب لأسباب سياسية وفي ظل صراعات مختلفة اجتماعية ودينية وقومية.. الخ، وأكسبنا الثقافة تاريخاً موازياً أو هامشيا (تاريخ المعارضة والاختلاف فقط) وأصبحت بذلك مصطلحا غامضاً قلقا ومثيرا للتوتر والشك”.

أقصينا كل ما هو هامشي في الثقافة بما يعنيه من اعتراف بالتباين والاختلاف والتغير والتنوع وأمعنا في هاجس الانتماء للمركزيات المحلية بصورة جعلت من الهوية العربية والقومية والتاريخية مجرد شعارات لا تلامس شيئاً من واقع السياسات الراهنة.

ومن التحديات أيضاً إمعان السياسي “في تهميش الثقافة لا من خلال موقعه في السلطة فحسب، وإنما من خلال موقعه المعارض والمختلف أيضاً، وقد اشتغل الخطاب السياسي  للتنظيمات السياسية والاجتماعية بمفردات الخطاب السياسي المفرغة من بعدها الثقافي، ولم ينظر السياسيون إلى المثقفين إلا بوصفهم أرقاماً في صفوف القاعدة العريضة للنخبة المنتمية، وهذا يفسر أسباب الفجوة بين عدد كبير من المثقفين والسياسة.

تحد آخر تواجهه الثقافة في بلداننا أحب أن أطلق عليه تحدي الاستهلاك، فالمؤلف يري أنه “قد يكون من المناسب تصور مضاعفات الصورة التي تغترب بالثقافة وسط أسواق الاقتصاد المحمومة في مجتمعاتنا، ففي الوقت الذي ينعزل فيه هذا الوسط عبر الأخذ بالجزئي من مفاهيم التكنوقراط الليبرالية وخاصة تلك التي تربط السوق بالربح المتسارع الذي وصل إليه في مراحل الستينات  والسبعينات إلى حد الطفرة (سوق  المقاولات، أسواق المناخ، الأسواق الحرة) تتباعد آمال تمويل الثقافة أو استثمارها مرتين: الأولى بفعل أن اقتصادنا هامشي لا يرتبط بقاعدة معرفية موصولة بالقرار السياسي والتخطيط الاستراتيجي للواقع والمستقبل وهو بذلك لا يمكن أن يعترف بالمثقف، بل أنه يواصل عزله بمسافات التأثيم متعددالصين الأشكال. والثانية بفعل غياب القرار السياسي المساند للحضور الثقافي، وكلا الأمرين يمدان في مسافات الهوه وعمقها”.

يقف الكتاب عند ما يدعوه المؤلف: “الثغرة الثقافية في المؤسسات الثقافية”، حيث “يتغافل كثيرون عن التحول الذي طرأ على مفهوم المؤسسة في الثقافة المحلية فهو لا يعني مجرد الجهاز الذي يقف على قمة الثقافة الرسمية، وإنما يعني خطوطاً موازية أو هامشية، تمنح لها تلك المؤسسة صلاحية الحضور والممارسة لأنشطتها في حدود لا تخترق محاذير السياسة والأمن والدين كما نصّت بذلك القوانين الأساسية المكونة للأندية والجمعيات الثقافية والفنية، وقد كانت هذه الصلاحيات تُقرب المسافة الفاصلة بين الثقافة الرسمية والثقافة الهامشية وتُذوب الفوارق التي تحول دون استحالة الإقامة على أرضية الشراكة التي يفترضها مصطلح الثقافة كما شهدت على ذلك مراحل ازدهار المؤسسات الأهلية في معظم سنوات الفترة من 1960 – 1980 وخاصة في الكويت والبحرين.

 

استشراف يتلمس المخاطر المقبلة

يصحّ لي أن أصف هذا الكتاب بالاستشرافي، حتى وإن جاء هذا الاستشراف على شكل تلمس للمخاطر القادمة، إنطلاقاً من رصد مقدماتها، وسأعطي على ذلك مثالين، الأول ما جاء في الفصل المكرس للتحديات التي تواجهها الثقافة في بلدان الخليج، حين وقف أمام ثغرات الهوية الثقافية، وخاصة أمام الهويات المحلية وكذلك الهويات الماضوية، داعياً للانتباه إلى المسألة المتصلة بمصادر التكوين الديمغرافي والثقافي لسكان المنطقة. فمن الناحية الديمغرافية تتكون المنطقة من حركة هجرات واسعة ومتصلة منذ الفتوحات الإسلامية مروراً بمراحل الصراعات السياسية المتمفصلة وخاصة في العصر العباسي،  أو مراحل التغير الطبيعية والاركيولوجية التي مرت بها الجزيرة العربية (حوادث الطبيعة والجفاف) التي اقترنت بها هجرات القبائل الكبيرة الى شرقي الجزيرة العربية طوال فترة تزيد على ثلاثة قرون وحتى بدايات القرن العشرين.

 وقد تفاعلت هذه الهجرات بهويات ثقافية محلية قبلية ودينية مستقرة في بعض الحواضر القديمة في عُمان وامتداد شرق الجزيرة العربية مما جعلها تمر بمراحل طويلة من عدم الإستقرار كما تفاعلت مع عوامل الصراع الدولي على النفوذ. فكانت لذلك مشدودة إلى الهجرة أو إلى اقتسام النفوذ والمكان. ولم ينحل هذا الوضع إلا بالخضوع لسلسلة من المعاهدات والإتفاقيات التي أبرمتها بريطانيا ووضعت من خلالها حجر الأساس للتقسيم الإقليمي في المنطقة، وبهذا لم يدخل القرن العشرون إلا وقد استقرت مجتمعات الخليج على تقسيمات بدعاوى الحرية ومصفوفات موروثة من حراك الهجرات المتصلة وملابساتها السوسيولوجية مع ما تتصل به من امكنة وثقافات.

“والعودة إلى تاريخنا الثقافي الحديث، يقول المؤلف، يثبت الآن انه كلما تمّ التنكّر لواحد من هذه المصادر تمت حوادث الإنغلاق وانغرست جذور العصبيات التي لا تضع مسافة بين ثقافة وأخرى فحسب، وإنما تقيم عليها حدود الإلغاء (الإحتكام إلى العصبيات القبيلية أو المذهبية أو الطائفية او الفروق اللهجية، الأمر الذي يشكل مجموعة من الهويات”.

أما فيما يتصل بالهويات الماضوية، فالمؤلف يؤكد أن الماضي حليف الثقافات الهامشية تماما كما أنه حليف الثقافة المركزية (السلطة)، لأنها تؤسس ثباتها منه وتمكين خطابها من بلاغته وهيمنته الماثلة في التقاليد والعادات والدين والمعتقدات وغيرها مما يمّد الخطاب السياسي عادة بمفاهيم العصبية والوحدة وسلطة النص وقيم الولاء والأبوة والأكثرية.

لكن لا يستتب هذا الخطاب مع مفاهيم الاقتصاد الحر ومناخ العصر، ومن هنا تعيش الثقافة عندنا في وسط هجين وتتعايش مع بعض المفارقات التاريخية  فتلجأ الى استخدام الماضي أحيانا بنبرة عالية وخاصة عبر الإعلام، لكنها تضطر أحيانا للنكوص عليه. تتقرب من الدين وتتذرع ببراهينه لكنها تنكص عليه. تتخوف من العصبيات ولكنها تعمل بها. وتنطق وسائل الاعلام في بعض مجتمعات الخليج  بدعاوى الحرية والديمقراطية والحوار مع الآخر، دون أن تتيح لهذه الدعاوى العمل ثقافياً ومعرفياً داخل المجتمع. وهناك بون شاسع مثلاً بين دعاوى الحوار مع الآخر والصمم الذي لا حدود له في مسالة الحوار بين الثقافات الهامشية داخل مجتمعات الخليج وإمكانية تعايشها وسط مبدأ الشراكة. وكل ذلك لا يستتب مع مناخ الأزمات ويجعل مجتمعاتنا مجردة من أسلحة الثقافة.

يخلص الباحث إلى أنه لا يمكن ان نتصور مستقبل الثقافة في الخليج والبلاد العربية في معزل عن الاعتراف بالعقلانية النقدية والشراكة القائمة على الإعتراف بالتعددية والنهوض الثقافي الشامل في مجتمع مدني يتألف من جدل الأخذ والنفي وفق منطق عقلاني.

هذا النهوض وذلك الاعتراف كفيلان بتغيير المعطيات الواقعية ومواجهة التحديات، ولعله من الطبيعي انه كلما تمّ العمل على الحد من تاثير تلك الثغرات والتحديات في واقعنا وثقافتنا أمكن لنا توفير شروط جديدة قادرة على صياغة مجتمع جديد في المستقبل وقادرة على تفعيل مفهوم الثقافة بوصفها انتاجا للديمقراطية.

 

الثقافة المؤاتية للديموقراطية

المثل الثاني على الرؤية الاستشرافية وجدته في الفصل السادس المعنون ب”الثقافة المؤاتية للديمقراطية”، في ما وصفه المؤلف ب “القراءة الأولى لتداعيات الحدث الديمقراطي في البحرين”، في تناوله المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، حيث يشير الكاتب إلى مكمنين للتغيرات التي حدثت في البحرين.

الأول يعود إلى الربع الاول من القرن الماضي، الذي كان “مرحلة مخاض لتجربة ديمقراطية وطنية تبرهن بشكل معاكس على الصورة البدائية التي رسمها الانجليز للمنطقة، والثاني يشير إلى أن الوعي بخصوصية التنوع الثقافي في مجتمع البحرين محك اساسي في تطور مفهوم السلطة أو الدولة”.

“لقد ظلّ المهاد القبلي والديني لهذا المفهوم يشكل إرثا طبيعياً منغلقا يتصف بمقاومة التغيير والرغبة في الإبقاء على العوامل الثقافية الطبيعية التي قد لا تستجيب لحركة التاريخ أحيانا كثيرة. لكن الخصائص الثقافية لمجتمع البحرين تتجاوز التحالفات القبلية والدينية المحدودة وتتقاطع مع تشكيلات حضرية وتجارية مستقرة في المدن وتشكيلات ريفية وتشكيلات مهاجرة متنوعة الانتماء، ولذا يصبح تكوين علاقة متوازنة مع هذه التشكيلات جميعها وفق القوانين والتشريعات هو محك صيرورة التقدم الذي تسعى له الدولة الحديثة وهذا المحك هو الذي يبشر ميثاق العمل الوطنيبالعمل من أجل بلورته”.

تجربة السبعينات الديمقراطية، وفق ما يشخّصها الكتاب، كانت وريثة لمتغيرين مشبعين بانحيازات ثقافية مضادة؛ الأول صنيع الاستقلال الذي دفع الحكومة إلى الاشتغال بالتكوين الإداري للدولة والثاني صنيع السياسة الموازية التي حملت معها تركة جيلين تقريبا من الثقافة السياسية المثقلة بسنوات الإحباط والتراجع. جيل الخمسينات وكان من بينه أسماء سياسية تعتبر من الرموز الوطنية والثقافية لتلك الفترة: عبدالعزيز الشملان، حسن جواد الجشيوإبراهيم العريضوغيرهم، وجيل الستينات، وكان من بينه أسماء سياسية خرجت في التو من معارك تحمل شعارات الإلغاء والتصفيات وعدم الاعتراف بالتباين الذي هو أحد أهم شروط الثقافة المدنية.

وأد التجربة الديمقراطية في بداية السبعينات عنى العودة إلى سياسة الاستعانة بنظرية المستشارين الإنجليز والاعتماد في بناء الجهاز التنفيذي على جيل مخضرم يجمع بين خليط معقد من التكوين القومي والولاء لمفهوم الليبرالية بوصفها علاقة لا انفصام فيها بين السلطة السياسية والحداثة الغربية.

ونحن نتحدث اليوم، في عام 2018، بعد مرور أكثر من خمسة عشر عاماً على إقرار ميثاق العمل الوطني وما تلاه من تحولات إيجابية كبيرة، وأيضاً بعد نحو سبع سنوات على الأزمة التي واجهتها البحرين عام 2011، لم أجد أفضل من التوصيف الذي قدمّه الدكتور إبراهيم غلومفي عام 2002، والذي يمكن القول إنه جاء على تشكيل تحذير ، حين دعا إلى “العمل في ساحة خفية غير منظورة  وأعني بها، والكلام له، ساحة المعركة التي تتصل بداخل أنفسنا ومؤسساتنا المحصنة بالوعي وتراكماته الشعورية واللاشعورية، العقلانية واللاعقلانية. وهذا بدوره يسوق أمامنا قصة التطرف الديني الأصولي اليوم او التطرف السياسي الايديولوجي بالأمس”.

“وعندما أثير – يقول المؤلف، مسألة كبيرة بحجم مسالة التطرف وبعيدة الأثر في سياق ما يمكن عمله من أجل ثقافة مؤاتية للديمقراطية، فذلك لأني أعتقد بأن التطرف بخلفياته الدينية والسياسية والأيديولوجية هو في حقيقته مواقف مكثفة متطورة عن سيكولوجية مقهورة ومكبوتة في أقفاص الوعي بحكم صدامها الأول بعامل دينامي مُكَّون لنسقها وهيمنتها وهو الصدام مع القمع الصارم والمهدد.

“وبهذا المعنى لا يتفق القول بأن التطرف يقترن بالبيئات الريفية أو الرعوية إلا في الحدود التي تكون فيه هذه البيئات تشكل عبئا على سلسلة التنميات المتمفصلة التي أخذت بها دول عربية كثيرة ومنها البحرين وبقية دول الخليج، وهي سلسلة من التنميات اعتمدت اجتزاء النموذج الغربي الليبرالي وانتقاء  آلياته على صعيد السياسة الاقتصادية  في معزل عن أصعدة الثقافة والفكر والعلوم والتكنولوجيا، واندفعت بلهاث نحو اقتصادات السوق المفتوح وحرية الاستثمار وتشجيع رؤوس الأموال وتصعيد مطالب الاستهلاك وقد وضعت لذلك تشريعات وقوانين ليبرالية تحاول مواكبة عنف حركة السوق العالمية لكنها ظلت حتى الآن لا تزيد  عن أن تكون بمجتمعاتها النامية مجرد رقعة استهلاكية يتوسع من خلالها العالمي لا غير”.

ويضيف “قد عملت هذه الآلية المحركة للتنمية على مدى سنوات طويلة وقادت إلى مشروعات ثقافية وسياسية من شأنها أن تحمي التوجه النخبوي والإنتقائي للتنمية، وكانت أكثر آليات الحماية خطورة، هو الاعتقاد بأن الديمقراطية وحريات التعبير تشكل تهديداً مباشرا لذلك التوجه. أما أكثر النتائج خطورة فهو مزيد من التوتر الطبقي ومزيد من التناقض القبلي والطائفي”.

 

 

 

 

الدكتور حسن مدن  كاتب من البحرين نال درجة دكتوراه فلسفة في التاريخ الحديث والمعاصر من معهد الاستشراق التابع لأكاديمية العلوم الروسية عام 1991 . ترأس قسم الدرسات والبحوث في الدائرة الثقفاية في إمارة الشارقة في الفترة  من 1992 – 2002. كما عمل مستشارا ثقافيا في هيئة الثقافة في البحرين في الفترة من 2002- 2015. عمل مديراً لتحرير عدد من الدوريات الأدبية والثقافية في الشارقة والبحرين مثل “الرافد” ودراسات و”البحرين الثقافية” كما يكتب مقالا يوميا في صحيفة الخليج منذ العام 1996 . صدرت له العدد من الكتب ابرزها: خارج السرب، الثقافة في الخليج: أسئلة برسم المستقبل، لا قمر في بغداد – ترميم الذاكرة – الكتابة بحبر أسود – للأشياء أوانها (ما تيسّر من الأهواء والحواس).  رابط لجميع مؤلفات د. حسن مدن: http://altibrah.ae/books/author/824/1