لا أحد ينام في الإسكندرية أم المنامة؟ Previous item لماذا يطالب الإسلاميون... Next item تحديات الثقافة المؤاتية...

لا أحد ينام في الإسكندرية أم المنامة؟

 

“هذه المدينة ستكون للبشر من كل الدنيا”

من رواية “الإسكندرية في غيمة” لإبراهيم عبد المجيد

 

  *نادر كاظم

 بعد أسابيع قليلة سيصدر كتابي الجديد “لا أحد ينام في المنامة”عن (دار سؤال للنشر – بيروت). وهذا الكتاب ليس رواية، لكنه، مع ذلك، ليس بعيداً عن الرواية؛ فعنوانه سيذكركم، بلا شك، برواية إبراهيم عبدالمجيدلا أحد ينام في الإسكندرية”، الرواية الشهيرة التي صدرت طبعتها الأولى في العام 1996، ووضعتهاList Muse في قائمة أفضل مائة رواية في تاريخ البشرية.

وعلى الرغم من قناعتي بأن المنامة أولى بمثل هذا العنوان، وأنه يكون أوقع حين يقترن بالمنامة بحكم المفارقة الصارخة بين (لا أحد ينام) و(المنامة). فهذه المدينة التي اشتق اسمها من النوم على أمل أن تكون مكاناً للنوم، أو مدينة النوم، أقول بأنه على الرغم من هذه القناعة، إلا أن هذا التناصّ مع عنوان رواية إبراهيم عبد المجيد لم يأتِ اعتباطاً، بل كان مقصوداً منذ البداية، لا بحكم التشابه الكبير بين الإسكندرية والمنامة كمدينتين شرقيتين وساحليتين وتجاريتين ومتنوعتين إثنياً ودينياً فحسب، بل بحكم ذلك التشابه الكبير والمذهل في المسار التاريخي للمدينتين. وهنا تكتسب ثلاثية إبراهيم عبد المجيد عن الإسكندرية أهمية كبيرة؛ لأن إبراهيم عبد المجيد يرصد ببراعة، في ثلاثيته عن الإسكندرية، التحولات الكبيرة التي طرأت على الإسكندرية منذ العام 1939 فور اندلاع الحرب العالمية الثانية إلى حرب السويس والعدوان الثلاثي على مصر في العام 1956، إلى العام 1975 الذي غيّر وجه الإسكندرية كلياً.

 

الإسكندرية والمنامة: المدينة الكوزموبوليتانية حين تغيّر جلدها

تبدأ ثلاثية الإسكندرية برواية “لا أحد ينام في الإسكندرية” التي تدور أحداثها في السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، حيث كانت الإسكندرية مدينة كوزموبوليتانية (عالمية)، وفضاء ثرياً تعايشت فيه أجناس وأديان متنوعة من اليونانيين والإيطاليين والقبرصيين والأرمن واليهود والشوام وجنسيات أوروبية أخرى إضافة إلى المصريين الموسرين والأقباط والإسكندريين الأصليين أنفسهم. كان جميع هؤلاء مصريين وإسكندرانيين يوم كانت الإسكندرية مدينة العالم. ثم يبدأ وجه المدينة في التغير، مع الجزء الثاني من الثلاثية أي مع رواية “طيور العنبر” (2000) التي تبدأ مع تأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر، وتتواصل إلى الستينات مع سياسات تأميم المصانع والبنوك الأجنبية، وقرار الرئيس جمال عبد الناصر بمجانية التعليم في العام 1961 حيث تزايد عدد الوافدين من الأرياف إلى المدينة؛ لتنتهي أحداث الرواية بخروج الكثير من الأجانب والإثنيات من المدينة. فقد هرب اليهود مع أموالهم إبان حرب السويس مع تصاعد الأجواء العدائية التي كانت تحوم فوق رؤوسهم، وتلاهم اليونانيون والإيطاليون والفرنسيون وبقية الجاليات، لتتحول الإسكندرية الكوزموبوليتانية إلى مدينة مصرية خالصة بحيث لم يبق من اليونانيين في الجزء الثالث من الرواية، “الإسكندرية في غيمة” (2012)، سوى خريستو، المصور اليوناني، وسوى مقابرهم وبصماتهم على ما بقي من العمارة الإسكندرانية. تدور أحداث الرواية الأخيرة خلال السبعينات التي شهدت ملاحقة اليساريين أمنياً مع عصر السادات، وبداية مرحلة ما سمي بالانفتاح الاقتصادي وخصخصة شركات القطاع العام، وتشجيع تيارات الإسلاميين لمواجهة التيارات الشيوعية، وتنتهي الرواية نهاية حزينة مع تغيّر المدينة وتفرّق شمل سكانها وعشاقها وأسلمتها مع تمدد الإسلاميين الملحتين الذين راحوا يتمددون سياسياً وفي الحياة العامة، ويوزعون المنشورات التي تدعو للحجاب، وينددون بالسفور، ويذكّرون الجميع بالصلاة وأن الاحتفال برأس السنة ليس سوى “عادة من عادات الكفار!”.

بالطبع، لا وجه للمقارنة بين الإسكندرية والمنامة من حيث المساحة وعدد السكان وطبيعة المناخ، ولا من حيث العراقة والامتداد المتطاول في التاريخ، فالأولى مدينة أسسها الإسكندر الأكبر كما يُعتقد في العام 332 ق. م، وهندس خططها وعمارتها المهندس المعماري اليوناني دينوكراتيس، فجاءت، كما وصفها إبراهيم عبدالمجيد في رواية “لا أحد ينام في الإسكندرية”، مدينة منظمّة هندسياً وأشبه بلوح الشطرنج، حيث تقطعها الشوارع من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب. كما أن الإسكندرية كانت، في يوم من الأيام، ثاني أكبر مدينة في العالم بعد روما، العاصمة الإمبراطورية. أما المنامة فهي مدينة حديثة النشأة، وتاريخها يتضاءل كطفل صغير إذا ما قورن بتاريخ الإسكندرية، المدينة العجوز؛ إذ يبلغ الفرق الزمني بينهما ستة عشر قرناً بالتمام والكمال؛ لأن أقدم إشارة إلى المنامة كميناء رئيسي لجزيرة البحرين تعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وتقريباً إلى ثلاثينات القرن الرابع عشر، كما أن المنامة لم يجرِ تخطيط مكانها من قبل عقل هندسي مفرد إبان نشأتها، بل نشأت وتطورت في سياق التفاعل الطبيعي بين السكان والمكان، بين سكانها الذين نزحوا إليها من أكثر من مكان، من القرى والبلدات في الداخل، ومن ساحل فارس والهند وساحل أفريقيا الشرقية والعراق وبلدان الخليج وشبه الجزيرة العربية، بما في ذلك كثير من الأجانب من إثنيات وديانات متنوعة من الذين كانوا يفدون إليها للتجارة، أول الأمر، ليستقروا فيها، ويندمجوا في حياتها مشكلين جزءاً لا يتجزأ من تاريخها وتكوينها.

كما لا ينبغي أن نغفل عن التفاعل الثري بين كل هؤلاء مجتمعين وبين الميناء والسوق، عصب الحياة والحيوية في تلك القرية الصغيرة التي سرعان ما تطورت لتصبح مدينة العالم، مدينة عالمية (كوزموبوليتانية)، “مدينة ستكون للبشر من كل الدنيا”، بكل ما يعنيه ذلك من فضاءات التنوع وأجواء التسامح والحرية والانفتاح، وهي الأجواء التي ذكّرت الرحالة والمبشر والجاسوس الإنجليزي وليام جيفورد بلغريف في العام 1862/1863، بأجواء الانفتاح والحرية والتسامح والازدهار التي كانت تميّز المدن الساحلية في الشرق آنذاك، في كلٍ من يافا والبصرة ومدن ساحل فارس. بلغريف هذا هو الذي وصف تجار المنامة بأنهم “رجال العالم الذين يعرفون العالم بوصفهم رجالاً”.

ومع هذا، فإن التشابه بين المدينتين، الإسكندرية والمنامة، كبير جداً، فكلتاهما تمثلان نموذجاً للمدينة الساحلية التي مثّلت الميناء الرئيسي للبلاد، كما أن المدينتين اكتسبتا أهمية تجارية لافتة منذ أواخر القرن التاسع عشر بعد افتتاح قناة السويس في العام 1869، حيث أصبحت المدينتان مواقع أساسية في شبكة الرأسمالية الكولونيالية الآخذة في التوسّع آنذاك بين أوروبا والهند والجزيرة العربية وساحل فارس وسواحل أفريقيا الشرقية، حيث كانت الإسكندرية حلقة ربط أساسية بين بلدان أوروبا المتوسطية والهند وسواحل أفريقيا، فيما كانت المنامة حلقة ربط أساسية بين الهند والبصرة وساحل فارس والجزيرة العربية.

غير أن الأهم من كل هذا، أن المسار التاريخي الحديث للمدينتين يكاد يكون متطابقاً بالرغم من بعض الفروقات الطفيفة. فقد مرّت المنامة بالتحولات الكبيرة التي مرّت بها الإسكندرية، حيث كانت، إبان حقبة اللؤلؤ، مدينة كوزموبوليتانية كالإسكندرية نوعاً ما، وتعايش في حدودها الضيّقة جداً العديد من الإثنيات والديانات والمذاهب من العرب والمسلمين (شيعة وسنة)، والهولة (عرب الساحل)، والنجادة والإحسائيين والعمانيين، والهنود الهندوس (البانيان) والبوذيين والمسلمين والسنديين (الباكستانيين) والبهرة (إسماعيليين من أصول هندية)، واليهود، والمسيحيين، وذوي الأصول الفارسية (شيعة وسنة)، والأفارقة، والبلوش، والبهائيين، وأقليّة قليلة من الصابئة كان أفرادها يعملون في صياغة الفضة، إضافة إلى العديد من الجنسيات الأوروبية، ويأتي البريطانيون – ولاحقاً الأمريكيون بعد اكتشاف النفط وتأسيس شركة نفط البحرين (بابكو) – على رأس القائمة.

وعلى الرغم من أن المنامة لم تكن في قلب المعارك التي طالت الإسكندرية في الحرب العالمية الثانية، إلا أنها لم تكن بمنأى عن الشرارات المتطايرة من هذه الحرب بحكم وجود القاعدة العسكرية البريطانية على أراضيها آنذاك، كما أنها كانت في قلب البروباغندا الإعلامية البريطانية عن الحرب، ويشتمل الإرشيف البريطاني على ملفات تربو على الـ 1700 صفحة كلها تدور حول بروباغندا الحرب وكيفية التأثير في الرأي العام المحلي في البحرين. كما قامت القوات البريطانية في يوليو 1940 بتكوين متطوعين من الأجانب في قوات الدفاع المحلية التي سرعان ما حُلّت في نوفمبر 1941. وأكثر من هذا، فقد وصلت حدود المغامرة الجوية الإيطالية إلى حدّ التفكير بقصف البحرين، وذلك عندما قامت ثلاث طائرات حربية إيطالية بقطع مسافة 4000 كيلومتر من جزيرة رودس في البحر الأبيض المتوسط لتصل سماء البحرين في تمام الساعة 3:15 من فجر يوم 19 أكتوبر 1940 (الموافق لـ 17 رمضان 1359هـ)؛ بهدف قصف مصفاة التكرير التابعة لشركة نفط البحرين (بابكو)؛ لوقف إمدادات الوقود عن القوات البريطانية. وقد ألقت هذه الطائرات المهاجمة، من علو 3000 قدم، عشرات القنابل (قدّرت بين 50 و80 قنبلة صغيرة) على البحرين. وعلى الرغم من أن هذه القنابل لم تتسبب بأية أضرار، إلا أن هذه الغارة دفعت شركة نفط البحرين (بابكو) إلى ترحيل النساء والأطفال الأمريكيين والبريطانيين إلى ديارهم، كما دفعت حكومة البحرين إلى تعميم إشعارات عديدة تقضي بمنع الاستماع للبرامج الإذاعية اليابانية ابتداءً من تاريخ 8 ديسمبر 1941، وذلك بعد قرار منع الاستماع إلى البرامج الإذاعية الألمانية والإيطالية بتاريخ 16 يونيو 1940. وصدر قرار بإبعاد قسّ كاثوليكي إيطالي إلى الهند اسمه إرزيو لويجي مجلياكاني بتاريخ 13 نوفمبر 1940 في أعقاب الغارة الإيطالية. وبتاريخ 16 أبريل 1942، صدر إعلان بإطفاء الأنوار ليلاً في المنامة والمحرق وعوالي، وتخفيف أنوار السيارات الأمامية، وحتى طلائها باللون الأسود أو الأزرق! وفي هذا اليوم ذاته، 16 أبريل 1942، نشرت جريدة “البحرين” تصريحاً حول دخول جُزر البحرين في “منطقة عمليات” الحرب العالمية الثانية.

إلا أن الزمن الذي غيّر الإسكندرية غيّر المنامة أيضاً، والأحداث والظروف التي تسببت في هذا التغيير متقاربة جداً: قرار تقسيم فلسطين في العام 1947، ونكبة فلسطين وإعلان قيام إسرائيل في العام 1948، وتأميم قناة السويس والعدوان الثلاثي على مصر في العام 1956. وإذا كانت الإسكندرية قد تخلت عن روحها الكوزموبوليتانية على وقع هذه الأحداث المتتابعة لتتحول إلى مدينة مصرية عربية خالصة، فإن المنامة مرّت بالظروف ذاتها، فقرار تقسيم فلسطين ونكبتها وحرب السويس أحداث مثّلت علامات فارقة في تاريخ المنامة، كما مثّلت انتكاسة كبيرة لروحها الكوزموبوليتانية في سبيل تحويلها إلى مدينة العرب، مدينة القومية العربية، مدينة الهيئة، هيئة الاتحاد الوطني (1954-1956) بتوجهاتها الناصرية البارزة، حيث بدأ كثير من اليهود بمغادرة المنامة والبحرين بعد العام 1947، وبعد أن كان عددهم يتراوح بين (300 – 400) بتقدير تشارلز بلغريف، مستشار حكومة البحرين (1926-1957)، أصبح العدد (291)، وبينهم (149) يهودياً بحرينياً فقط بحسب إحصاء العام 1959، فيما لا يتجاوز عددهم الآن (36) شخصاً.

يتطلب تحويل المنامة إلى مدينة عروبية ملتزمة أمرين متشابكين: الأول يتصل بمواجهة الحياة الصاخبة وصناعة الترفيه والتسلية الشبابية التي كانت تميّز منامة الخمسينات والستينات بمقاهيها، وسينماتها، والنزعة الاستهلاكية المتصاعدة آنذاك. أما الأمر الثاني فيتصل بتسوية التنوعات الإثنية والدينية العريقة في المدينة. فقد كانت الأجواء العدائية تجاه اليهود، والعجم (بحرينيون من أصول فارسية)، والهنود، والمبشرين الأمريكيين، وعموم الأجانب، وطبعاً الإنجليز الاستعماريين، تخيّم على المنامة منذ أواخر الثلاثينات، وتواصلت حتى مطلع السبعينات. وخلال هذه السنوات كانت المدينة تتغير، وتتغيّر معها الأمكنة، وعادات أهلها، وأجواء التسامح والحرية والانفتاح التي ميّزتها تاريخياً.

إلا أن موجة التحرر العالمية التي اجتاحت العالم خلال الستينات والسبعينات، وصلت إلى المنامة، وانتشرت، آنذاك، بين الشباب والشابات الكثير من مظاهر الجرأة والتمرد والتحرر في كل شيء، في الميني جوب minijupeالجريء، وحتى المايكروجوب المتحرر microjupe، والشوارب الكثيفة، والشعور الطويلة تقليداً لفرقة البيتلز TheBeatles(الخنافس)، والملابس الضيّقة التي كانت تلتصق بالجلد، والبنطلونات واسعة الأرجل، والسلاسل الذهبية المدلاة حول الرقبة، والتسكع في الطرقات، والهوس بفرق الروك أند رول rock-‘n’-rollوالريغي reggaeومختلف موسيقى البوب التي كانت تغزو العالم آنذاك.وقد عرفت المنامة، خلال الستينات والسبعينات وحتى الثمانينات، الكثير من الفرق الموسيقية الشبابية المتأثرة بموسيقى الروك أند رول ومختلف موسيقى البوب العالمية الغربية أو حتى الفارسية. وقد تسمّت كل هذه الفرق بأسماء أجنبية غريبة وغير مألوفة، وبعضها كان بأسماء حيوانات على طريقة البيتلز كالنحل وأسماك القرش والثعالب والنسور، ومن أشهر هذه الفرق آنذاك: (Beez)، و(ElToros)، و(Zulus)، و(Jackles)، و(Strangers)، و(PatientStone)، و(Vultures)، و(Sharks)، و(Osiris). وقد تكاثر العدد إلى درجة أن البحرين كان بها، خلال الثمانينات، أكثر من 20 فرقة موسيقية مثل أنغام الخليج، والأخوة، والأصدقاء، والسيكس بويز، والثلاثي البحريني، وسلطانيز، والجذور، والغروب، والنجوم، والشموع، والوعد، والكواكب، والشروق، وقائمة من الأسماء التي تذكّرك بأسماء الفرق الرياضية آنذاك.

وما كان لهذا أن يستمر طويلاً، فسرعان ما دخلت “المنامة في غيمة” كما الإسكندرية تماماً، حيث بدأت النقلة الثانية والحاسمة في تاريخ المنامة مع التحول الكبير الذي كان يعصف بالإسكندرية، إلا أن الظروف والعوامل كانت مختلفة قليلاً. فقد مثّلت الطفرة النفطية، هنا، عامل التغيير الأكبر، إضافة إلى نمو تيارات الإسلام السياسي، والشيعي تحديداً، وذلك بعد القضاء على هيئة الاتحاد الوطني في العام 1956، وانحسار المدّ القومي بعد هزيمة العام 1967، وإضعاف القوى اليسارية بعد الضربات الموجعة التي قصمت ظهر التنظيمات الأساسية لليسار (جبهة التحرير الوطني البحرانية، والجبهة الشعبية في البحرين)، وخاصة بعد اغتيال عبد الله المدني في العام 1976، رئيس تحرير مجلة “المواقف” وأحد أبرز الأسماء في تيار حزب الدعوة الإسلامية. وقد جاءت كل هذه التطورات في سياق النمو العمراني الكبير والمتسارع الذي خنق المدينة القديمة، وابتلع واجهتها البحرية بالكامل بعد أن تحولت هذه الواجهة إلى منطقة جذب للعديد من الاستثمارات والمشاريع الكبرى من مرفأ البحرين المالي (الذي حل محل فرضة المنامة) إلى خليج البحرين ومجمع الأفنيوز التجاري وجزيرة الريف.

ويبقى أن نشير إلى أن المنامة لم تكن بمنأى عن تأثيرات العولمة التي حرّرت الاستثمارات من الكثير من القيود والحواجز، كما حرّرت سوق العمل بما فتح الباب واسعاً أمام جحافل العمالة الأجنبية غير المدرّبة لتزحف فارضة وجودها المهيمن وهي تتمدد ملء الأعين والأسماع على الجزء الأكبر من المدينة القديمة وضواحيها؛ لتفقد المدينة الكثير من روحها العربية وما بقي فيها من روح كوزموبوليتانية.

 

مدينة النوم أم مدينة النهار؟

والسؤال الذي ينبغي أن يُطرح، هنا، هو لماذا، أصلاً، تُسمّى مدينة بهذا الاسم الغريب: المنامة؟ فالنوم حالة طبيعية واعتيادية مثلها في ذلك مثل الأكل والشرب والمشي والوقوف والقيام والقعود، فلماذا إذن تُسمّى مدينة باسم حالة طبيعية واعتيادية؟ وإلا هل سمع أيٌّ منكم بمدينة اسمها “موقفة” أو “مشربة” أو “مأكلة”؟ ثم إن كل المدن، إذا استثنينا المدن الصناعية عادةً، هي مكان صالح للنوم، تماماً كما هي مكان مناسب للأكل والشرب والمشي والقيام والقعود. فكل المدن تكون، بهذا المعنى، منامات، ولا ميزة لمدينة على أخرى في ذلك. ثم ما القيمة الحقيقية في مدينة لا ميزة فيها سوى أنها مكان للنوم، نوم الحاكم أو نوم الجند أو حتى نوم عامة أهلها؟

ولكن، هل كان هذا هو الاسم الأصلي للمدينة؟ أم إن اسمها كان (منعمة)، فجرى تحريفه على يد الأعاجم إلى (منامة)، تماماً كما يحرّفون اسم (عليّ) إلى (أليّ) لصعوبة نطق العين على ألسنتهم؟ أم “كان فيها قصر لمنام أحد ملوكها السابقين فسميت به”؟ أم إنها سميت بذلك لكونها كانت منامة للجيش الهرمزي بقيادة توران شاه عندما عَسْكَر فيها في القرن الرابع عشر؟ أم إنها كانت تحريفاً لكلمة (ميناوة) المشتقة من (ميناء)؟ والحقيقة أن كل هذه الاختلافات لا تعنينا هنا؛ لا لأنه لم يعد من الممكن الحسم فيها اليوم لضياع سياق التسمية الأصلي، بل لأني أراني أكثر ميلاً إلى الاعتقاد بأن المنامة إنما سميت بهذا الاسم من باب تسمية الأشياء بأضدادها؛ لأن هذه المدينة كانت، وبخلاف بقية بلدات البحرين وقراها تاريخياً، مدينة صاخبة ويعج ميناؤها بالحركة التي لم تكن تهدأ، كما كانت ملتقى التجار والأجانب من كل الدنيا. كانت المنامة مدينة العالم التي كان يقصدها “البشر من كل الدنيا” للتجارة والمعاملات لا للنوم والخلود إلى الراحة، فلا أحد من التجار كان يسافر، آنذاك، إلى المنامة لينام، بل إن أقصى ما كان يفكّر فيه هو النوم الذي يتحوّل، عنده، إلى مطلب صعب المنال في مدينة لا تعرف النوم. فهل سميت هذه المدينة منامة تفاؤلاً بنيل قسط من النوم في ظل تعذّره؟ تماماً كما تسمي مدينة لم تعرف غير الحروب باسم “مدينة السلام”، وسنة أبادت الكثير من البشر بمرض الطاعون باسم “سنة الرحمة”. والذي نعرفه أن العرب كانت تسمى الأشياء بأضدادها، حيث سمّوا الصحراء المهلكة “مفازة”، كما سموا القافلة بهذا الاسم تفاؤلاً بقفولها (رجوعها)، وسموا الملدوغ بالأفعى سليماً أملاً بشفائه.

ولكن من ينام، اليوم، في المنامة؟ لقد كانت المنامة، منذ خمسينات القرن العشرين، مدينة صاخبة وساهرة، مدينة الليل بامتياز، حيث الجميع، في النهار، في حركة دائمة بين السوق والميناء والأعمال والمعاملات، وفي الليل ينفلت الصخب من عقاله، حيث الحفلات التي تستمر حتى ما بعد منتصف الليل، وبريق السينمات الذي كان يتلألأ كل ليلة بصخب مجلجل، كما كانت المطاعم تتفنّن في تقديم أشهى مأكولاتها المتنوعة، أما المقاهي فكانت مكان السمر الأثير. يقول أحدهم، في محاضرة ألقاه في منتصف الخمسينات في “نادي البحرين”، وبعد أن شنّ هجومه على المقاهي وروادها الجهلة البلداء الكسولين: “وإن تعجب فالعجب أن يقضي فرسان الكسل هؤلاء نصف النهار ومعظم الليل في هذه المقاهي كأنما سمروا على كراسيها أو خيطوا عليها”. إنها مدينة الليل بامتياز، المنامة – مكان النوم كما يشير اسمها- التي لم يعد أحد ينام فيها!

يذكر رودريك أوين، الكاتب الإنجليزي الذي زار المنامة في العام 1955، أنه شاهد أعداداً كبيرة من شباب المنامة يحتشدون حول سينمات ومقاهي القضيبية، وكان صخب أفلام السينما يصل إلى مسافة نصف ميل، فيما كان صوت الغراموفون أو الراديو عالياً ومضبوطاً على حده الأقصى، حيث كانت المقاهي تتنافس في الصوت العالي للموسيقى العربية برنينها الذي كان يسمع على طول الطريق. يذكر أون، كذلك، أنه شاهد، بعد عودته إلى “فندق البحرين” بعد مشاهدة فيلم عربي لم ينته إلا بعد منتصف الليل، بعض الناس ينامون على الطرقات[1]. كما لا يغفل جيمس بلغريف، (ابن مستشار حكومة البحرين تشارلز بلغريف) وهو يروّج للبحرين في العام 1953، عن الإشارة إلى أن سكان المنامة، بعد حلول الليل، لا يذهبون إلى النوم، بل تراهم “يتنزهون على طول الشارع الممتد إلى الجفير، أو يجلسون على المقاعد الموضوعة على الرصيف، ولاحقاً يعودون إلى السينمات والمقاهي!”.

إلا أن هذا ليس سوى المعنى المجازي للمنامة التي لا تنام ولا ينام فيها أحد، أما المعنى الحقيقي فإن المنامة أصبحت مدينة النهار بامتياز، لا للتسوق والتجول بين ممرات سوقها القديم فحسب، بل لأن الكثير من سكان المنامة لم يعد، بالفعل، ينام في المنامة، لم تعد المنامة، بالنسبة إليهم، مدينة النوم. تأملوا معي هذه الحالات الأربع[2]:

فوزي حامد شاب في الخمسينيات من عمره الآن، وهو ابن عائلة منامية عريقة ارتبط اسمها بتاريخ اللؤلؤ وتجارته، وسكنت حيّ الحمّام. غادر فوزي مع أسرته التي نزحت عن المنامة إلى الرفاع الشرقي في العام 1975. ويتذكر فوزي جيداً أن الرفاع الشرقي لم تكن، بالنسبة له ولأفراد أسرته، سوى مكان للنوم؛ لأنهم كانوا يقضون معظم النهار في المنامة، وحين يحلّ الظلام يبدأ هو وأفراد أسرته في رحلة عودتهم إلى مكان النوم، إلى مدينة الرفاع الشرقي. استمر هو على هذه الحال لسنوات طويلة، فيما تكيّف بعض أفراد أسرته الذين اندمجوا في حياة الرفاع الشرقي قبل أن تتوزّع الأسرة على أماكن مختلفة في البحرين. أليست هذه مفارقة؟ وإلا كيف تحولت المنامة، مكان النوم كما يشير اسمها، إلى مدينة النهار، فيما تحولت الرفاع الشرقي إلى مدينة النوم، إلى منامة أخرى! نحن أمام مفارقة صارخة، حيث تكتسب المدن والأماكن مدلولات متناقضة مع معناها الأصلي.

هادي غلوم شاب بحريني ومنامي آخر، وحكايته لا تختلف عن حكاية فوزي حامد سوى في بعض التفاصيل، هو الآن في أواخر الأربعينيات من عمره. وهادي بحريني من أصول إيرانية، استقرت أسرته خلال الأربعينات في المنامة، وفي حيّ “المشبر” تحديداً. ثم ما لبثت الأسرة أن نزحت، مع موسم الهجرة إلى خارج المنامة، لتستقر في مدينة عيسى في العام 1981. ثم تبدأ أحداث حكاية هادي تتطابق مع أحداث حكاية فوزي السابقة، حيث تحولت المنامة، بالنسبة إليه، إلى مدينة نهارية بامتياز، فيما تحولت مدينة عيسى إلى منامة أخرى، مدينة للنوم فقط، فيما كان يقضي هو ومعظم أفراد أسرته بقية النهار في المنامة.

ولا تختلف حكاية خليل يوسف عن الحكايتين السابقتين. فخليل شاب في الثلاثينيات من عمره، وهو من أسرة منامية عريقة وثرية تخصصت، في وقت مبكر، في تجارة الاستيراد والتصدير. خليل لم يعرف المنامة فعلاً كمنامة، كمدينة للنوم أو كمدينة طبيعية يقضي فيها ليله ونهاره مثل فوزي وهادي وبقية أهل المنامة الآخرين؛ لأنه وُلد خارج المنامة بعد أن نزحت أسرته عن حيّ الفاضل في المنامة لتستقر في منطقة العدلية في العام 1976. وتحوّلت المنامة بالنسبة إليه ولأفراد أسرته، كما هو الحال مع فوزي وهادي، إلى مدينة النهار، فيما أصبحت العدلية هي المنامة، مدينة الليل والنوم.

وأخيراً، يذكر مجيد حميد أنه انتقل مع والده عن حي “المخارقة” بالمنامة في العام 1980 إلى منطقة “السقيّة”. كان عمر والده، آنذاك، قد تجاوز السبعين، الأمر الذي جعل تكيّفه مع السقية وناسها مهمة أشبه بالمستحيلة، وهو ما جعله يقضي النهار كله في المنامة التي تحولّت، بالنسبة إليه، إلى مدينة النهار؛ لأنه لم يكن يعود إلى السقية إلا من أجل النوم تماماً مثل أي فندق بالنسبة إلى المسافر والسائح. وقد استمرّ والد مجيد على هذه الحال حتى توفاه الله في العام 1991.

ليست هذه، في الحقيقة، حكايات شخصية لأربعة أشخاص بعينهم، بل هي حكايات عامة تلتقي مع سير العديد من عائلات المنامة من التجار والوجهاء وأبناء الطبقة الوسطى، حيث شهدت المنامة حركة نزوح واسعة إلى الخارج، وباتجاه الضواحي الجنوبية الجديدة آنذاك (القضيبية والسلمانية والسقية والقفول والعدلية والماحوز وأبو غزال وأبو عشيرة وأم الحصم والجفير)، ثم راحت حركة النزوح تتمدد في كل الاتجاهات من الرفاع الشرقي ومدينة عيسى إلى طشان وسنابس والسهلة الشمالية وسار وسند وجرداب وجنوسان.

تلتقي كل هذه الحكايات والسير للأفراد والعائلات في المفارقة ذاتها، أي في قلب الدلالة الأصلية لمعنى اسم المدينة: المنامة التي لم يعد أحد ينام فيها سوى البقية الباقية القليلة والصامدة من أهلها، والجاليات الآسيوية التي حلّت محل أهل المنامة بعد نزوحهم، وبعد أن تحوّلت المنامة إلى مدينة عتيقة، وبدت عليها الكثير من ملامح التقادم والشيخوخة، مدينة تكافح من أجل البقاء بعد أن أصبحت مركزاً للعديد من القوى والفعاليات، بعضها رسمي ويرمي إلى بعث الحياة في سوقها القديم وتحويله إلى منطقة جذب سياحي، وبعضها شعبي يتجسّد في الطقوس السنوية الحاشدة المصاحبة للشعائر الدينية (الشيعية) في شهر محرم والمناسبات الدينية الأخرى، وبين الرسمي والشعبي يبرز الوجود الآسيوي الكبير الذي كان يتمدد على كامل المدينة القديمة وضواحيها. وبين هذه وتلك تبقى المدينة التي كانت، في يوم من الأيام، مدينة العالم التي كانت “للبشر من كل الدنيا”، تكافح من أجل البقاء و”الحياة حتى آخر قطرة” من بحرها الخرافي الذي “ما تاب وما خاف الله[3]“.

 

 

 

*الدكتور نادر كاظم كاتب وناقد ثقافي بحريني وأستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين. صدرت له عدة كتب في النقد الثقافي والفكر الحديث وقراءة التاريخ آخرها “لماذا نكره”و”المقامات والتلقي”، “تمثيلات الآخر”، “الهوية والسرد”، “طبائع الاستملاك“، “استعمالات الذاكرة”، “إنقاذ الأمل”، “كراهيات منفلتة” و”خارج الجماعة”. رابط لمؤلفات الدكتور نادر كاظم:https://www.goodreads.com/author/show/3158160._

 

 [1]رودريك أوين كاتب ورحالة بريطاني ولد في لندن في 27 مارس 1921 وتوفي في فيها في 21 فبراير 2011. ألف عددا من الكتب عن الجزيرة العربية وفي ابوظبي التي عاش فيها سنوات والمقتطف اعلاه من كتابه “الفقاعة الذهبية”.  رابط لمؤلفاته:  www.amazon.com/s/ref=dp_byline_sr_book_1?ie=UTF8&text=Roderic+Owen&search-alias=books&field-author=Roderic+Owen&sort=relevancerank

[2]غيّرنا أسماء الشخصيات وبعض التفاصيل حفاظا على خصوصية الأشخاص

[3] إشارة إلى الأهزوجة الخليجية التي كانت تغنيها النساء في موسم القفال (عودة) الغواصين: “توب توب يا بحر.. ما تخاف من الله يا بحر”.