لماذا يطالب الإسلاميون اليمنيون بالعلمانية ويرفضها اليساريون؟ Previous item الجمهور الهنغاري والأوروبي... Next item لا أحد ينام في الإسكندرية...

لماذا يطالب الإسلاميون اليمنيون بالعلمانية ويرفضها اليساريون؟

*حسين الوادعي

في العام 2012 كانت اليمن أول دولة عربية تنقل النقاش حول العلمانية إلى المداولات الرسمية لمؤتمر الحوار الوطني الذي كلف باعداد الدستور الجديد والمخرجات الجديدة ليمن ما بعد صالح.

وكان طبيعيا أن تطالب القوى اليسارية والليبرالية بدستور علماني لا ينص على دين للدولة ولا على الشريعة الإسلامية كمصدر وحيد للتشريع. لكن غير المتوقع أن تنظم حركة دينية مذهبيه مثل الحركة الحوثية التي ستطلق على نفسها اسما دينيا قارحا هو “أنصار الله” إلى صف المطالبين بالعلمانية.

لكن الظواهر السياسية ليست عصية على التحليل اذا عرفت خلفياتها.

غالباً ما تطالب الأقليات الدينية بالعلمانية عندما تكون في وضع لا يسمح لها بممارسة مذهبيتها الخاصة دون إقرار حرية التدين.

هذا هو حال الأقليات المسلمة في الغرب مثلاً التي تتمسك بمنجزات العلمانية في حرية التدين والحريات الشخصية وحقوق المواطنة المتساوية التي تضمن لها التدين والعمل والجنسية في بلدان ذات أغلبية مسيحية. لكنهم يرفضون تطبيق العلمانية في بلدانهم التي يشكلون أغلبية فيها ، ويتحفظون جدا على منح حرية التدين والمواطنة الكاملة للأقليات الدينية الاخرى في بلدانها.

عام 2012 كان الحوثيون أقلية محصورة في محافظة صعده لهم مفهومهم الخاص عن الزيدية الذي يختلف حتى مع اعتقادات الزيدية التقليدية. وحتى المناطق الزيدية كانت قد “تسننت” نتيجة جهود التبشير والدعوة الإخوانية والسلفية في معظم مناطق اليمن، حتى أن اغلب قادة الإخوان والسلفيين في اليمن كانوا زيديين سابقيين.

هذا الاحساس بالاقلوية والتهميش جعل الحركة الحوثية تتخوف من أي صبغة دينية للدستور القادم لانه سيعني ببساطة سيطرة المكون السني والمضمون السني على الدستور والتشريعات.

لهذا رفع فريق الحوثيين في مؤتمر الحوار الوطني سقف المطالبة بالعلمانية واشتهرت تصريحات الخبير القانوني واحد القيادات المقربة من الحوثيين الدكتور أحمد شرف الدين التي قال فيها إن الاسلام “دين الشعب وليس دين الدولة أما الدولة فدينها القانون”.

وكان متوقعا ان يرفض المكون السني (الإخوان والسلفيون) مطلب العلمانية لنفس السبب معكوساً، وهو أنه سيحرمها من قطف ثمرة ناضجة لإضفاء صبغة دينية كثيفة على الدستور والتشريعات. لكن موقف القوى اليسارية والقومية والليبرالية لم يكن موحداً. فقد سكت أغلبها أو رفض مطلب العلمانية لأسباب عديدة بعضها يتعلق بنظرتها للتغيير المجتمعي (تغيير البنية التحتية سابق على تغيير الافكار)، وبعضها مرتبط بنظرة اليسار العربي إلى الدين كقوة للحشد والتثوير لا بد من استغلالها بدلاً من علمنتها.

ومن طرائف السياسة اليمنية أنه حين كانت الحركة الدينية المذهبية الحوثية تطالب بالعلمانية، كان الحزب الاشتراكي اليمني التقدمي يطالب في أروقة مؤتمر الحوار بتطبيق الشريعة.

ربما يعود هذا إلى ان الحركة الاشتراكية العربية لم تكن علمانية لانها اعتمدت على الخطاب الديني لتعزيز شرعيتها، كما أنها نظرت للدين كقوة للحشد والتغيير تأثراً بالثورات القديمة في التاريخ الإسلامي للخوارج والمستضعفين والقرامطة.

وساهمت الثورة الإيرانية التي سيطرت عليها العمائم في هوس اليساريين بالدين كوقود للثورة الاجتماعية بعد فشل طروحات الاشتراكية والحداثة. لهذا لم يكن موقف اليساريين من الاستخدام السياسي للدين مختلفا عن موقف الإسلاميين. فكلا الفريقين مع استخدام الدين لخدمة أهدافهما السياسية الخاصة.

لكن هناك سبب خاص دفع الحزب الاشتراكي اليمني لرفع شعار تطبيق الشريعة في لحظة كان الجو العام فيها يطالب بالديمقراطية ومدنية الدولة. فقد كان الاشتراكي يحاول تجاوز حملات التكفير والتفسيق التي تعرضها لها من رفاقه واعدائه من أحزاب السلطة والمعارضة.

وموقف اليساريين والقوميين العرب من العلمانية شبيه بموقفهم من الديمقراطية فهو موقف براغماتي غير مبدئي. على سبيل المثال كان الحزب الاشتراكي هو الذي اصر على الديمقراطية والتعددية السياسية في مفاوضات الوحدة عام 1990. ولم يكن الاشتراكي قد تخلى تماما عن نظرته للديمقراطية السياسية كوسيلة منخفضة الجدوى اذا لم يسبقها ديمقراطية اجتماعية. لكن خوفهم من الذوبان في حزب المؤتمر الأكثر عدداً والاغنى موارداً جعل الديمقراطية وسيلة للحفاظ على استقلالية الحزب قبل ان تكون وسيلة لإدارة الخلافات السياسية سلميا.

لهذا كان مفهوماً ان يتحفظ الحزب الاشتراكي نتائج اول انتخابات نيابية عام 1993 تراجع فيها إلى المركز الثالث للبرلمان بعد الحزب الحاكم والإسلاميين. كما أن الحزبين الكبيرين المنافسين “المؤتمر” و”الإصلاح” كانا يحملان نفس الإيمان البراغماتي المؤقت بالديمقراطية.

وكان هذا سبب فشل الديمقراطية الناشئة في اليمن لانها ديمقراطية بلا ديمقراطيين.

فشلت علمانية مؤتمر الحوار اليمنية لانها كانت أيضا علمانية بلا علمانيين ولم يسبقها توعية شعبية مجتمعية بالعلمانية وضرورتها.

 

من العلمانية الى فرض التشيع

بعدها فشلت العملية السياسية في اليمن واجتاحت الحركة الحوثية محافظات اليمن وصولاً إلى العاصمة صنعاء ونسيت كل مطالباتها بالعلمانية وإندفعت لفرض تشيعها الخاص ونسختها المتطرفة من الدولة الدينية حتى حكم ولاية الإمام العلم.

في طريقها الى صنعاء نكلت الحركة الحوثية بخصمها المذهبي ممثلا بالسلفيين الذين هجرتهم من معاقلهم الدينية في محافظة صعده، ثم نكلت بالخصم الاهم التجمع اليمني للإصلاح (الاخوان).

كانت صدمة الإصلاحيين ليست فقط انهم تحولوا من حزب “شبه حاكم ” إلى حزب مطارد، ولكن هذا حصل لهم على يد حركة دينية تحمل نفس شعاراتهم تقريبا من مرجعية القرآن إلى أولوية الجهاد والموت في سبيل الله إلى تكفير وتفسيق المعارضين لهم بحجة معاداة الإسلام.

رفع الاصلاحيون طول تاريخهم شعار حكم البلد بالإسلام والقرآن وجاء من يقتلعهم ويشردهم باسم الاسلام والقرآن.

كرد فعل معاكس بدأ “الجناح المنفتح” في الحزب يرفع شعار العلمانية ويراجع شعاراته حول الإسلام هو الحل وتطبيق الشريعة ليقدم خطاباً مدنياً شبه علماني يبعد الدين عن السياسة قدر الإمكان. هذا الجناح العلماني ليس الأقوى داخل الحزب، فالجناح السلفي صاحب السلطة والتأثير الحقيقي على الشارع، لكن قوة هذا الجناح المنفتح يكمن في قدرته على مخاطبة جماهير عريضة عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

صدمة طرد الإسلامي للاسلامي صعدت الخطاب حول العلمانية عند اسلاميي اليمن إلى درجة أن الكتب الثلاثة المؤلفة عن العلمانية في اليمن ألفها إسلاميون وليس علمانيين. لكن مرة أخرى يطغى التعامل البراغماتي على الطرح الاسلامي للعلمانية خاصة وأن أغلبهم يتحدثون عن علمانية إسلامية لا تفصل الدين عن السياسة ولكنها تفصل الدين عن السلطان دون أن يوضحوا كيف يمكن أن يتم تحقيق هذا دون ذلك، وكيف يمكن الحديث عن علمانية لا تفصل الدين عن السياسة.

نتيجة حالة التشيع الإجباري التي حاولت سلطة الأمر الواقع الطائفية فرضها على الناس تحولت العلمانية إلى ساحة نقاش شعبي واسع اجتذب أنصار كثر في صفوف الشباب والمواطنين والكتاب والمثقفين والسياسيين. واتذكر انني حضرت أربع ندوات عن العلمانية في صنعاء وحدها خلال شهر واحد فقط نهأية عام 2016. إضافة إلى نقاش يومي محتدم على صفحات وسائل التواصل خاصة “فيس بوك” و”واتس اب”.

ثم عاد النقاش العلماني في اليمن ليبلغ ذروة جديدة بعد مطالبة الحائزة على نوبل “توكل كرمان” وهي إحدى قيادات حزب الإصلاح الإسلامي بتطبيق نظام علماني في اليمن بعد انتهاء الحرب.

ها هي جماعة دينية تطالب بالعلمانية، في ظل تحفظ اليساريين والقوميين والليبراليين الذين يرون أن العلمانية قضية مبكرة لا يمكن نقاشها قبل نهاية الحرب، أو أنها قضية زائفة لا حاجة لليمنيين بها. كان إسلاميو حزب الإصلاح يواجهون خصمهم السياسي المذهبي (الحوثي) بشعار العلمانية وهو تصرف فائق الذكاء. لكن هناك خصم داخلي أراد الجناح المدني لحزب الصلاح تهميش سلطته باسم العلمانية وهو الجناح السلفي الذي يقوده الزنداني وكتبيته من مدرسي وطلبة جامعة الإيمان.

يبدو موقف القوميين السلبي من العلمانية مفهوماً في ضوء تلك الثنائية التي بني عليها الفكر القومي الحديث (الاسلام والعروبة)، لهذا رفض القوميون اي فصل بين الدين والدولة واعتبروا الاسلام جوهر الحضارة العربية مثلما اعتبروا ان العروبة هي جوهر الاسلام وحامله، ووظفت أغلب الانظمة القومية (ناصريين وبعث) الدين من اجل تثبيت شرعيتها السياسية، ومن المفيد التذكير هنا ان حركة “اسلمة” التاريخ والهوية بدات في فترة المد القومي على يد القوميين أنفسهم.

بقيت نقطة أخيرة حول موقف الليبراليين اليمنيين من المعركة الجدالية حول العلمانية. فقد انقسموا أيضا بين مؤيد ومعارض. واعتقد ان السبب هو ربطهم العلمانية بالأنظمة القمعية التي رفعت الشعار العلماني لقمع خصومها وخاصة تركيا وسوريا ومصر، ونسوا أنه لا يمكن أن يكون هناك ديمقراطية أو ليبرالية دون علمانية.

في مثل هذا الجو  المرتبك يدور النقاش اليمني الطويل حول العلمانية التي يرفضها العلمانيون ويرفع لواءها الاسلاميون دون ان يعني هذا اتفاق الشعارات مع القناعات الحقيقية.

 

 

 

*حسين الوادعي كاتب من اليمن مهتم بقضايا الشباب والعلمانية والديمقراطية وحقوق الإنسان. ينشر مقالاته في عدة مواقع وصحف مثل: “النهار”، “ارفع صوتك“، “هنا صوتك” و”درج“. مدرب ومشرف في شبكة اعلاميون من اجل صحافة استقصائية عربية (اريج).  يعمل مستشاراً إعلاميا مستقلا لعدد من المنظمات الدولية. لمزيد من الاطلاع على كتابات الوادعي بامكانكم زيارة حسابه على فيسبوك https://www.facebook.com/alwaday .

1 تعليق

  • أمين اليافعي Posted أكتوبر 1, 2018 1:52 م

    أنا فهمت استراتيجتك من أول لحظة، محاولة دؤوبة لنفي أن يكون في جنوب ما قبل الوحدة تجربة علمانية، وحقيقة لا أدري ما الدافع وراء كل هذا التلفيق في التحليل لإثبات ذلك، وبكل السُبل المتاحة. لهذا سميت تنظيرك عن العلمانية بـ”العلمانية الوادعية”، باعتبارها نسخة مبتكرة وفريدة لم يسمع بها أحد من العالمين، ولا يوجد لها مثيل.
    ثم عندما يتحدث المرء في مثل هذه المواضيع الحساسة فإن من الضروري كأمانة مهنية وعلمية وكذلك علمانية في المقام الأول (:، الإشارة إلى المصادر التي استقى منها معلوماته: وثائق، بيانات، خطابات، منشورات، لهذه الجهة أو تلك.
    لكن أغرب ما في الأمر أن تحاول تفسير موقف نخب الحزب الاشتراكي في صنعاء عام 2012-2014، وهي مواقف ـ إن ثبت صحتها بالفعل – تخضع لاعتبارات عدّة: الشراكة المُهيمن عليها كلياً من قبل حزب ديني متطرف (الإصلاح)، وهو الحزب الذي بات بمثابة الظهر الحامي للإشتراكيين في صنعاء. حادثة اغتيال القائد الاشتراكي البارز جار الله عمر في احتفالية إصلاحية وامام الملأ والتلفزيون اليمني يبث العلمية على الهواء، وبنفس الدعاوى، وما أثارته من ألتباسات وما بعثت به من رسائل. القطيعة التامة مع تجربة الجنوب الاجتماعية، التي كانت علمانية تماماً.. ثم وفي حركة فهلوية رائعة بجد تحاول أن تستخلص من تجربة الاشتراكيين في صنعاء الدينية التقليدية حكما قاطعاً لتنفي أي وجود للعلمانية في جنوب ما قبل الوحدة، والمشكلة الكبيرة أنك تعرّف نفسك بـ”باحث”، وأول بديهيات البحث أنك تذهب إلى التجربة نفسها، تجربة الثمانينات في الجنوب، وتدرس أدبياتها وواقعها، ثم تستخلص وبطريقة موضوعية منهجية على ضوء هذه النتائج أحكامك عن هذه التجربة، وليس محاكمتها على تجربة تختلف كل الاختلاف زمنياً ومكانياً وفكرياً وممارسةً وشروطاً. ربما ليس لديك الوقت الكافي للقيام بهذه المهمة البحثية الشاقة، وأنت في عجلة من أمرك لتسلق احكامك على وجهة السرعة، في هذه الحالة فقط أنت معذور تماما.
    أما أكثر شيء يضحكني، فهو أنك تحاول وكأنك تقدّم نفسك “المرشد الأعلى” للعلمانية العربية، واليمنية على وجه الخصوص، ومع إن الإمكانيات النظرية اضعف من أن تقوم بهذا الدور الكبير، لكن ما يُضحكني كيف لـ”المرشد الأعلى” للعلمانية اليمنية والعربية أن لا يجرؤ على الظهور بجانب زوجته في الفضاء العام؟
    هذه مسألة ستُحير كل شياطين الإنس والجن 😉😉😉