عندما كان العالم يلهث لمتابعة تحولات روسيا بعد تفكك
الاتحاد السوفيتي كان التاريخ مشهدا متواصلاً من الخداع البصري
محمد فاضل العبيدلي
يقال أن دمية “الماتريوشكا” هي أفضل تعبير عن الشخصية الروسية، شخصية تخفي بداخلها أخرى وهكذا، لكن قراءة كتاب “ألغاز بوتين” للكاتب الأردني ياسر قبيلات لا تؤكد هذا القول فحسب بل توسع نطاقه الى أقصى حد ليشمل البلد وتاريخه أيضاً.
يبدأ هذا الكتاب المكرس لسيرة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بتوثيق إعتيادي لسيرته، لكن لا شيء إعتيادي عندما يتعلق الأمر بزعيم روسي. فالغموض يرافق بوتين منذ صغره مع تعدد الروايات حول عائلته وأصولها. فالرواية الاعتيادية حول ميلاد ونشـأة “فولوديا[1]” الصغير تضع القارئ أمام روايات متعددة حول الموطن الأصلي للعائلة في احدى القرى المحيطة بمدنية سانت بطرسبورغ أو لينينغراد لتصل الى اسطورة الأم الجورجية فيرا نيكولايفنا بوتينا(اوسبيشفيلي بعد الزواج).
تدعي هذه العجوز الجورجية باكية أمام صحافيين زاروها للتأكد من هذه الرواية، ان إبنها الصغير الذي أخذ عنوة عنها عندما هجرها أبوه هو نفسه الذي أصبح رئيساً لروسيا. لكن إشاعة الأقارب الجورجيين هذه ظهرت حسب المؤلف في وقت حرج ومهم بالنسبة لبوتين وهو العام 2000 عندما كان يستعد للترشح لرئاسة روسيا وبقيت تتكرر مع كل انتخابات. لكن حتى في أكثر المحاولات الجادة التي قام بها صحافيون للتحقق من هذه القصة، لم تتمكن الصحافية الروسية إيرينا بوبروفا التي اوفدتها صحيفة “موسكوفسكي كومسموليتس” بعد ست سنوات على ظهور تلك القصة منذ البداية اثبات القصة بشكل نهائي وقاطع، بل انها تقر في النهاية أن انتشار قصة الأقارب الجورجيين لفلاديمير بوتين “عائد لخصائص ثقافية متعلقة بجورجيا”، أي التعبير المهذب للقول أن “من الشائع في جورجيا إختلاق الأساطير والإيمان بها بعمق وصدق حقيقيين تماما كما يحب الأطفال أن يؤمنوا بالمعجزات”.
إنعطافة الـ”كي جي بي”
ليست هناك أسرار كبرى حتى دخول بوتين الى الجامعة عدا تلك السنوات الأولى قبل الدخول للمدرسة التي ليس لها أي ذكر في حياة بوتين. وتبدو الفصول اللاحقة للفصل الخاص بالأقارب الجورجيين اعتيادية وهي تسرد سيرة شاب يعيش في احدى القرى القريبة من لينينغراد (سانت بطرسبورغ) في ستينيات القرن الماضي إبان الحقبة السوفيتية. لكن الإنعطافة الأهم تبدأ مع دخول بوتين سلك الخدمة في جهاز الـــ”كي جي بي – KJB” وتحديداً منذ تعيينه للعمل في مكتب للجهاز بمدينة دريسدن في ألمانيا الشرقية وقتذاك.
لكن ما يتعين تذكره دوما عند الحديث عن بوتين وهذا الجهاز هو ان الشاب بوتين هو من طرق أبواب ال”كي جي بي” ولم يتم تجنيده من قبل مكتشفي المواهب في هذا الجهاز. يبدو الأمر بالنسبة لبوتين مثل التقدم لأي وظيفة اعتيادية، عدا أنه في عالم الاستخبارات لا يتم قبول من يبادرون من تلقاء أنفسهم بتقديم طلب للعمل في جهاز استخبارات، بل أولئك الذين تختارهم الأجهزة.
لقد واجه بوتين هذا الجواب صراحة عندما طرق أبواب الــ”كي جي بي”، لكن وعلى ما يبدو فإن مسؤولي الجهاز أبقوه تحت المراقبة والتقييم ومن الواضح أيضاً ان ذلك الشاب العابس، ترك أثراً من نوع ما دفع مسؤولي هذا الجهاز لأن يأخذوه على محمل الجد ويقبلوه في الخدمة في وقت لاحق.
من مدينة دريسدن في المانيا الشرقية، ستبدأ نجاحات بوتين المحاطة بالـغموض اللازم أيضاً، فالكتاب ليس سيرة اعتيادية لموظف نشط ومجتهد في مكان ما من العالم، بل سيرة ضابط روسي في أكثر أجهزة الاستخبارات احترافاً ورهبة وفعالية على مستوى العالم.
إن أول ما يستوقف المتتبع لسيرة بوتين في هذه الفصول من الكتاب التي تتحدث عن سنوات الخدمة في المانيا الشرقية هو ان بوتين تمت ترقيته مرتين وهو في الخدمة في المانيا. لماذا يبدو هذا لافتاً؟
حسب المؤلف وحسب تاريخ هذا الجهاز أو القدر المعروف عنه، فان الترقية لابد ان تكون نظير جهد أو انجاز كبير، وان تتم ترقية ضابط مرتين في سنوات معدودة، فإن الأمر لابد ان يتعلق بإنجازات كبيرة مؤكدة. ترى ما هو الإنجاز الذي حققه بوتين لكي يستحق عليه ترقيتين في سنوات معدودة؟
في محطة دريسدن يعرج الكاتب على واحدة من أهم الألغاز التي ارتبطت بسيرة بوتين، اللغز المتعلق بذلك النوع من العمليات المعقدة لصنع أصدقاء للمستقبل. يتعلق الأمر هنا باستقراء المستقبل واتجاهاته من قبل أجهزة الاستخبارات عالية الاحتراف مثل الـ”كي جي بي” وتالياً وضع خطط للمستقبل. لا يبدو الأمر بمثل هذه البساطة، فالكتاب يقودنا الى الحديث عن عملية معقدة لصنع حزب معارض في المانيا الشرقية التي تعيش إرهاصات تغيير لن يتأخر كثيراً في العام الأخير من عقد الثمانينيات من القرن الماضي. فبوتين بدأ خدمته في المانيا الشرقية عام 1985 واستمر هناك حتى 1989 وفي روايات أخرى حتى 1990، فما هو الإنجاز الاستثنائي الذي يمكن ان يقف وراء نيله ترقيتين خلال هذه السنوات المعدودة؟
وعلى غرار كل الألغاز الأخرى التي يعرضها الكتاب، يعرض المؤلف لكل الحجج المتضادة حول ما اذا كان بوتين وراء انشاء حزب معارض. لكن كل التفاصيل المتعلقة بهذا الحزب الذي عرف في البداية بإسم “حركة الصحوة الديموقراطية”، لن يكون لها أي أهمية الا عندما نعرف ان المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل كانت أحد أعضائه المؤسسين.
هل من الممكن أن يفسر هذا، البرود الذي يكتنف علاقات ميركل مع الولايات المتحدة في مقابل الدفء الذي يميز علاقاتها مع روسيا ودعواتها المستمرة لعلاقات طبيعية بين أوروبا وروسيا؟
هنا يتعين العودة لما أورده المؤلف في كتابه وهو يشرح عملية تسلل بالغة التعقيد. فالمستشارة الألمانية خريجة جامعة كارل ماركس “بدأت حياتها السياسية في حركة الصحوة الديموقراطية التي نشأت كحركة سياسية معارضة في المانيا الشرقية في أكتوبر عام 1989وتحولت الى حزب سياسي في ديسمبر من نفس العام”.
وفي أغسطس 1990، اندمج هذا الحزب مع حزب الاتحاد الديموقراطي المسيحي في المانيا الشرقية الذي اندمج بدوره في أكتوبر من نفس العام مع نظيره في المانيا الغربية. يتوقف المؤلف هنا ليتساءل: “ألا يشبه هذا عملية تسلل تقليدية؟”.
وبعد استعراض لأهم محطات مسيرة ميركل وصولا الى انتخابها مستشارة عام 2005، يعود للتذكير بمعلومة صغيرة حول “حركة الصحوة الديموقراطية” حيث يشير الى انها كانت برئاسة محام اسمه ولفجانج شنور[2] كان معروفاً بتوليه قضايا المعارضين والمنشقين في المانيا الشرقية طوال فترة الثمانينيات وهو صديق شخصي لوالد ميركل وراعي بداياتها السياسية. لقد قدم شنور استقالته خلال اقل من ثلاثة أشهر من توليه رئاسة الحزب إثر اضطراره للاعتراف بأنه مخبر لوزارة أمن الدولة.
لا تبدو مثل هذه العملية غريبة طالما تعلق الأمر بجهاز مثل جهاز “كي جي بي”، فهي تذكرنا بقصص مماثلة تقوم على ذلك النوع من الخداع والتمويه طويل الأمد الذي برع فيه هذا الجهاز في ذروة الحرب الباردة.
فعلى نحو ما تذكرنا قصة حزب “الصحوة الديموقراطية” بتلك القصة التي تظهر كيف تمكن الروس في ثلاثينيات القرن الماضي من تجنيد شبان جامعيين انجليز يملكون روحا قلقة متوقدة بحثا عن العدالة الاجتماعية واسئلة حائرة من تلك التي واجهت مثقفي أوروبا في فترة ما بين الحربين العالميتين، ليصنعوا منهم جواسيس تمكنوا عن طريقهم من اختراق أجهزة الاستخبارات البريطانية منذ ثلاثينيات وحتى سبعينيات القرن الماضي. انهم شبكة الخمسة الشهيرة التي ضمت دونالد ماكلين وغي بيرغيس وانتوني بلانت وكيم فيلبيوالخامس الذي كشف النقاب عنه بعد نهاية الحرب الباردة في تسعينيات القرن الماضي وهو فيكتور روتشيلد سليل عائلة روتشيلد الشهيرة.
عودة الى وطن يتغير
عودة فلاديمير بوتين الى الوطن بعد خدمته في دريسدن بألمانيا الشرقية واقفال محطة الـ”كي جي بي” في تلك المدنية بعد توحيد شطري المانيا، تبدو وفقا للكتاب جزءاً من قصة روسيا التي لم ترو بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 26ديسمبر من عام 1991. القصة التي لم يجلو غبارها أحد حتى الآن.
كانت روسيا في ذلك الوقت تعيش في أتون إرهاصات تغيير كبرى منذ أن أطلق ميخائيل سيرغيفيتش غورباتشوف إصلاحاته التي عرفت بـــ”البيروسترويكا” و”الغلاسنسوت” أي الإصلاح والمكاشفة. كان كل شيء يجري سريعاً منذ ان بدأت التغييرات التي ادخلها غورباتشوف ومعها بدا ان الدولة السوفيتية العتيقة التي اعتادت الرتابة والثبات الى حد الجمود، لم تكن لتستطيع ان تجاري ما كان يفكر به غورباتشوف او ان تستوعب الغاية النهائية لكل ما يجري.
ومثل فصول عديدة من التاريخ السوفيتي، كان مشهد التحولات يبدو من بعض الغرف والمكاتب في لينينغراد (سانت بطرسبورغ) اقرب الى مشهد خداع بصري رغم استغراق الروس في هذه التحولات بلهفة إستثنائية أحياناً.
لقد بيعت أصول الدولة وشركاتها الكبرى برخص التراب لمستثمرين روس لا أحد يعرف من أين جاؤوا وكيف راكموا ثرواتهم وبدأت الصحافة الدولية تكتب عشرات القصص عن هؤلاء الأثرياء الجدد وكيف أصبحوا يستحوذون على مفاتيح الإقتصاد الروسي من الشركات العملاقة للصناعات الثقيلة ومصانع السيارات واحواض بناء السفن وغيرها حتى بدا وكأن تلك الدولة السوفيتية القوية التي بنيت بالتضحيات الجسام والملايين من الضحايا أصبحت نهباً لأصحاب الأموال من الروس الذين راكموا ثرواتهم بكل وسائل الاحتيال في ظل النظام الاشتراكي.
هل كان الأمر كذلك فعلاً؟ لماذا عادت الدولة الروسية الى سابق عهدها دولة قوية بالمقياس الاقتصادي والعسكري اذا في عهد فلاديمير بوتين؟ لا يتعلق الأمر بسحر خاص يتمتع به بوتين بل بلغز آخر من الألغاز المحيطة بهذا الرجل. فحسب الكتاب، فان الإصلاحات التي دشنها غورباتشوف لم تكن من أفكاره وهو ما يفسر حسب الكتاب أيضا كيف كان ميخائييل سيرغييفتش يبدو أحيانا كمن لا يملك أجوبة او تفسيراً لما يقدم عليه سوى تكرار جمل حفظها جيداً من مقابلاته الصحافية. فتلك الإصلاحات -حسب الكتاب- كانت خلاصة جهد بحثي طويل قام به المئات من المتخصصين في مراكز ابحاث في شتى المجالات تحت اشراف الـــــ “كي جي بي” في ظل رئاسة يوري اندروبوف للجهاز قبل أن يعتلي سدة الرئاسة خلفاً للزعيم الراحل ليونيد بريجنيف. قد يفسر هذا جزئياً أسباب تفاؤل الروس عند تسلم أندروبوف السلطة خلفا لبريجنيف وترقبهم لإصلاحات كان يتعين ان يبدأ بها إثر توليه رئاسة البلاد، لكن الموت لم يمهله اذا رحل بعد عامين فقط من توليه الرئاسة.
لكن هذا يبقى جانباً واحداً من صورة ماتزال أسيرة الغموض لعملية تفكك الاتحاد السوفيتي وتفكيك دعاماته الاقتصادية. فالشركات الحكومية الكبرى التي تمثل دعامات الاقتصاد الروسي بيعت لأشخاص محددين لا يعرف من سيرتهم سوى انهم شباب تلقوا تعليمهم في الجامعات الروسية. وفيما قدمتهم الصحافة الغربية على انهم من جيل تربى كارهاً للدولة السوفيتية، أي التعبير الملطف احيانا لكلمة “منشقين”، يتم المرور سريعا على معلومة صغيرة في سجلهم هي انهم كانوا أثناء دراستهم الجامعية أعضاء وقياديين في “الكوموسمول” أي منظمة الشبيبة السوفيتية. قد تعزز خلفية كهذه الفرضية التي يتناولها الكتاب حول بيع أصول الدولة الى مليونيرات جدد هم في الواقع أبناء نجباء للنظام السابق، ولتأكيد فرضيته هذه يعرض الكتاب لتلك الحجج التي يتساءل أصحابها عن مصير أولئك المليونيرات الذين ظهروا فجأة واختفوا بعد حين، أي بعبارة أخرى بعد انجاز المطلوب منهم.
لكن السؤال الأهم الذي سيلي هنا هو: من سيقوم بهذا كله؟ من سيشرف على عملية مموهة لبيع أصول الدولة على هذا النحو الذي خدع به العالم كله؟
ليس هناك من جهة على قدر عالٍ من التماسك في روسيا سوى الجيش والـــ”كي جي بي”. واذا كان الجيش بعيداً منذ عقود عن السياسة، فان الــ”كي جي بي” وحده من يستطيع ان يتدبر عملية غاية في التعقيد ومموهة الى هذا الحد. لكن الكتاب لا يتحدث عن جهاز كامل منسجم مع بعضه، بل عن احد فروعه الأساسية وهو فرع لينينغراد.
فرع لينيغراد الذي ينتمي له فلاديمير بوتين وظيفياً حسب الكتاب هو “الدولة الروسية العميقة” التي حافظت على روسيا في فترة التحولات الكبرى التي عاشتها منذ نهاية التسعينيات وفلاديمير بوتين بكل ألغازه المحيطة به هو ابن هذه الدولة. لغر مفتوح آخر.
الكتاب………………………………………………………………….. ألغاز بوتين.
المؤلف………………………………………………………………….ياسر قبيلات.
الناشر………………………………………………….دار الآن، ناشرون وموزعون.
عن المؤلف ياسر قبيلات: كاتب وصحافي أردني يعمل في صحيفة “البيان” الإماراتية. هو أيضا روائي وكاتب سيناريو وناقد ودرس في معهد السينما في موسكو. له عدد من الأعمال الأدبية منها: خلاف عائلي، حانة الحي القريبة، كتابك الذي بيميني. إنقر إسم ياسر قبيلات لمشاهدة قائمة مؤلفاته.
[1] التصغير الروسي المحبب لإسم فلاديمير.
[2] لم نعثر على مواد بالعربية عن شنور ولا بالانجليزية. جميع المواد المتوفرة على الانترنت عنه باللغة الألمانية