لا أجد في العودة العلمانيّة إلى “الصوفيّة” أفقاً يمكن أن
يمنحنا نماذج سلميّة مشعّة أو تصوّراً أفضل لحاضرنا
ضمن التفاعل مع الملف الذي نشرناه حول الجذب الصوفي خصوصا توجه العلمانيين نحو الصوفية، يعلق الكاتب والصحافي البحريني حسين مرهون بهذا المقال الذي يرى فيه ان توجه العلمانيين نحو الصوفية أمر غير مجد.
*حسين مرهون
يعود الفضل إلى عادل ضاهر في تعريفنا بمصطلحَيّ “العلمانيّة الصّلبة” و”العلمانيّة الليّنة[1]“. وباختصار، العلمانية الصّلبة هي التي ينبع أساسها من الفلسفة ويُستدلُّ عليها بالفلسفة وفيها أنّ العلاقة بين الروحي والدنيويّ، هي علاقة ممكنة. وقد شهد تاريخ المجتمعات فعلاً قيام دول دينيّة كالدول التي أقامها أنبياء أو خلفاء أو أئمة، لكنّ هذه العلاقة ليست ضروريّة أو واجبة لكي ينشأ عندنا “اجتماع”. بمعنى أنّ الإنسان قادر على توليد نظم ملائمة لإدارة الدّولة وتدبير شؤون المجتمع عبر الإستناد إلى العقلين العلميّ والفلسفي وحدهما. إن هذا أمر ممكن.
ماذا عن العلمانيّة الليّنة؟ هي أدنى درجة، إذ تقوم على اعتبارات تاريخية أو اجتماعية أو دينيّة. نعم دينيّة. إنّ المناقشات التي يقودها علمانيّون ويرجعون فيها إلى نصوص الدين بحثاً عن بذور للعلمانية (كتاب الإسلام وأصول الحكملعلي عبدالرّازق[2] مثالاً) أو التي تفتّش عن نماذج مشرقة في التاريخ الدّيني للقول إن هناك أساساً للعلمانيّة في تراثنا (كتاب العلمنة المعاصرة بين ديننا ودنيانا، سهيل فرح[3] مثالاً) أو الّتي تستند إلى الظروف القائمة وأنّ الصراعات الإجتماعية الحديثة معقّدة ولا يمكن أن تجد لها حلاً إلا في قيام حكم علمانيّ (كتاب العلمانية كإشكالية إسلامية إسلامية، جورج طرابيشي[4] مثالاً)، كل هذه العلمانيّات هي علمانيّات “ليّنة” وهي قابلة لأن تتهاوى وتنهدّ مع تغيّر الظروف.
أما العلمانية الصّلبة فهي غير خاضعة للظروف المؤقتة ولا للفكر التوفيقي القائم على المزاوجة بين العقل والنقل. إنّ مرجعيّتها هي الفلسفة وأداتها هو العقل وحده. “العقل أسبق من الوحي” في العلمانية الصلبة، لا يجاوره ولا يحوم حوله. على ذلك فهي لا تلعب على أرض الدّين أو نصوصه أو نماذجه أو تأويلاته من قريب أو بعيد، حتى تلك التأويلات التنويريّة أو العصريّة. هي قادرة على إبداع تصورات مستقلة للأشياء والعالم؛ بما في ذلك الأخلاق.
هذه خلاصة كتاب عادل ضاهر المهم “الأسس الفلسفيّة للعلمانيّة“. وهذا جانب مما أراه اختلافا بيني وبين الصديق علي الدّيري. ويترتّب عليه كثير من الاختلافات الثقافية الأخرى بيننا.
قبل عشر سنوات تطرّق كلانا في إشارتين عابرتين إلى هذا الموضوع من زاويتيْن مختلفتين في ملف عن العلمانيّة نُشر في صحيفة “الوقت” البحرينية. فقد كتب هو ضدّاً على العلمانية الصّلبة وأنا كتبتُ ضدّاً على العلمانيّة اللّيّنة. فقد رأى ـــ إن لم تخنّي الذاكرة ـــ أنّ علمانية عادل ضاهر، هي علمانيّة جافّة أو جلْفة بلا روح. وكيف أنّ “الروحانيّة” يمكن أن تمنح لها هذه الروح المفقودة. (يرى الدّيري أنّ تعبيريّ العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة عند عبدالوهاب المسيري هما أكثر قرباً مما كان يؤمن به وقتذاك[5]..).
وأنا رأيت من جهتي أنّ العلمانيّة الليّنة، هي علمانيّة رطْبة أو خفيفة بلا أصل قويّ[6]. ودعوتُ من يتبنّاها؛ خاصة اليسار البحريني، إلى أن يُسقط مصطلح العلمانيّة من دفتره ويتبنّى موقف محمد عابد الجابريّ الذي أسقط العلمانيّة بدوره ودعا لتعويضها بمصطلح “العقلانية” لاعتبارات من المُهم أن يطّلعوا عليها لأنها تفيدهم[7]خاصّة مع كونهم يعملون في السّياسة ويهمهم تشكيل الرأي العام وسط مجتمعات لعب الدّين في تاريخها وحضارتها اللعبة الأهم والأبرز، اللهم إلا باستثناء فواصل تاريخية بسيطة ليست ذات شأن وبينها “الفاصلة السبعينيّة” الّتي يشدهم حنين أسطوريّ مستمرّ لها ويكاد يقتلهم.
ليس من الضروريّ أن يقول اليساري البحريني إنه يتبنّى علمانية ليّنة؛ لكن يكفي فحص استشهاداته وتوظيفاته لها لاكتشاف ذلك.
في مآلات هذا الاختلاف، يتّجه علي الديريأكثر فأكثر إلى استدعاء “رؤية صوفيّة” لدى تأمّله مشكلات مجتمعنا المعاصرة. ويجد في نصوص ابن عربينسخة إنسيّة تسترعي الانتباه في التاريخ الإسلامي؛ ليس كنسخة فيها الحل إنما باعتبارها نسخة قدّمت تأويلاً رحْباً للسنة النبويّة في مقابل النسخ الأخرى الضيّقة التي قدّمت تأويليّات متوحشة. وحول ذلك يصدر له كتاب قريباً[8]
في المقابل، تزداد قناعتي يوماً بعد يوم حول لا جدوى هذه المقاربات. لا أجد في العودة العلمانيّة إلى “الصوفيّة” أفقاً يمكن أن يمنحنا نماذج سلميّة مشعّة أو تصوّراً أفضل لحاضرنا أو يمكن أن يفضي إلى إصلاح دينيّ مثلما قد يرى البعض ذلك، ليس بين هؤلاء الديري طبعاً فنوعيّة معالجته مختلفة وأدعو لانتظار كتابه والاطلاع على موقفه في هذا الصّدد.
الأفكار العظيمة المضيئة لم تُولد مرّة واحدة أو في الماضي وحده ثم أُغلق الباب. ينبغي الدّفاع عن الحاضر. على العلمانيّ أن لا يلعب على أرض الدّين ونماذجه أو تعريف المتدين بدينه كيف يكون، أو تسويغ مواقفه انطلاقاً من نصوص دينيّة. ليس هذا ملعبه. ليترك لحملة الرؤى الدينية أن يلعبوا هذه اللعبة وأن يحلّوا مشكلاتهم الداخليّة بأنفسهم. الإصلاح الدّيني لن يأتي إلا بـ”مارتن لوثر” داخليّ، ليس من الخارج. ملعب العلمانيّ في مكان آخر ومرجعيّته ينبغي أن تكون مرجعيّة أخرى، أو هكذا ـــ بتواضع كثير ـــ أتصوّر.
*حسين مرهون صحافي وكاتب بحريني مقيم في نيويورك. عمل محرراً ثقافياً في صحيفتي “الأيام” و”الوقت” في البحرين.
[1] للمزيد حول ذلك يمكن الرجوع إلى كتاب “الأسس الفلسفية للعلمانية”، عادل ضاهر، دار الساقي، 1998.
[2] الإسلام وأصول الحكم، علي عبدالرازق، مكتبة الأسرة، 1925، ط 2007.
[3] العلمنة المعاصرة بين ديننا ودنيانا، سهيل فرح، المركز الثقافي العربي، ط1، 1996.
[4] هرطقات 2: عن العلمانية كإشكالية إسلامية – إسلامية، جورج طرابيشي، دار الساقي، 2008.
[5] انظر: العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة، عبدالوهاب المسيري، دار الشروق، القاهرة، 2002.
[6] انظر حول ذلك مقالا سابقاً لكاتب هذا المقال تحت عنوان “العلمانية المهتوف بموتها، الدّين المهتوف بتفديته”، انظر: صحيفة “الوقت”، أغسطس 2007.
[7] حول موقف محمد عابد الجابري، انظر:سلسلة الثقافة القومية، العدد 29، ط 1996.
[8]لماذا نكفّر؟ أسماء الله ووحدة الوجود بين ابن عربي وخصومه، علي الديري، مخطوطة كتاب يصدر قريباً عن مركز أوال للدراسات.
1 تعليق
يصعب علي تصور المعرفة كقطع صلبة منفصلة إنفصال تاما عن التاريخ المادي وصيرورتها في سياق مجتعي ثقافي متداخل متعالق. فلا أقدر أن أرى علمانيا خالصا نقيا كما إني لا أستطيع أن أرى دينيا خالصا نقيا من عوالق معرفية غير علمانية/ غير دينية. فمثلا “العلماني” قبل أن يختار الإنخراط في “علمانيته” كان طفلا سار في سيرة إجتماعية قادته إلى التعرف على عدة مقالات وأفكار تتكثف مرجعياتها في خانات معرفية دينية / أيدلوجية / ابستمولوجية / أنطولوجية. وبعد أن يتخذ موقف من أطروحاتها يتشكل عنده وعي ما ثم يعلن عن نفسه بأنها ذات معرفية بهوية (مثلا) ا “علمانية”. تسمية هويته بشيء هذا أمر ولكن لا يمكن له من التخلص من عوالق المعارف الأخرى التي علقت به خلال رحلته الفكرية. لا أريد أن أخوض صراع تسميات ولكن العوالق حتما تمنعنا من عزو النقاء المعرفي للذات. شكرا سيدي لقد إستمتعت بقرآءة أطروحتك واستمتعت بما أثارته من أفكار لدي. ه”