مغازي البدراوي*
اعتاد العالم منذ زمن الحرب الباردة على قمم موسكو وواشنطن التي كانت دائما محددة القضايا والأحداث التي ستناقشها وبدقة ووضوح للجميع، لكن على ما يبدو أن هذه القاعدة سيتم كسرها، حيث يتسم لقاء الرئيسين الروسي فلاديمير بوتينوالأمريكي دونالد ترامبفي هلسنكي اليوم الاثنين 16 يوليو/تموز، بالغموض الذي يدور حوله جدل كبير، لدرجة أن البعض، خاصة في واشنطن يشكك في إمكانية معرفة ما سيدور من حديث بين الزعيمين في اللقاء، وأنهما سيخرجان من اللقاء ويقولان للصحفيين أشياء غير التي ناقشوها داخل القاعة المغلقة. هذا بالتحديد ما يشيعه الديمقراطيون في واشنطن الذين مازالوا يتحدثون عن وجود علاقات خاصة بين بوتين وترامب من قبل انتخابات الرئاسة الأمريكية، وأن موسكو ساعدت ترامب في الفوز في الانتخابات، وغير ذلك من الحديث الذي لم يتوقف في واشنطن منذ فوز ترامب بالرئاسة حتى الآن.
اختيار هلسنكي عاصمة فنلندا للقاء القمة الأمريكية الروسية له أسباب ومدلولات كثيرة، رغم ترحيب العديد من الدول لاستضافة اللقاء، فقد شهدت هلسنكي أشهر لقاءات القمة بين البلدين من قبل، أولهما لقاء الزعيمين الأمريكي جيرالد فوردوالسوفييتي ليونيد بريجنيفعام 1975، ولقاء جورج بوشالأب مع ميخائيل غورباتشوفعام 1990، ولقاء الرئيس بيل كلينتونوالرئيس بوريس يلتسينعام 1997. واذا ما أضيف الى ذلك حقيقة أن فنلندا التي كانت جزءا من الإمبراطورية الروسية في زمن القياصرة ومنحتها الثورة البلشفية استقلالها عام 1917، تعتبر أرضاً محايدة لأنها ليست عضواً في حلف الناتو وتبعد عن موسكو بالطائرة مسافة ساعة ونصف فقط، لهذا فهي مريحة للرئيس بوتين المنهك من احتفالات نهائي مونديال 2018 يوم 15 يوليو.
قضايا كثيرة ومتعددة قيل أن لقاء الزعيمان سيناقشهم، منها سوريا وأوكرانيا والنشاط العسكري الأمريكي بمشاركة حلف الناتو في شرق أوروبا واتهامات التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وعودة روسيا لمجموعة الثمانية الكبار والعلاقات الثنائية بين البلدين بشكل عام، وغير ذلك من القضايا التي تحتاج كل واحدة منها لقمة مستقلة.
وقد أكد الرئيس ترامب على بعضها، بينما تحدث مستشاره للأمن القومي جون بولتونعن البعض الأخر مؤكدا أنه سيناقش في القمة، وسبب هذا التعدد والتشتت هو أنها القمة الأولى المتكاملة بين الزعيمين اللذين التقيا من قبل مرتين.وهذا اللقاء، يعد أول قمة كاملة بين الزعيمين، حيث عقدا سابقا لقاءين على هامش فعاليات دولية الأول في 7 يوليو/ تموز 2017 خلال قمة مجموعة العشرين في هامبورغواستمر أكثر من ساعتين، وقيل أن الرئيس ترامب اقتنع في هذا اللقاء بعدم تدخل موسكو في شؤون الولايات المتحدة الداخلية.
وعقد اللقاء الثاني مشياً “على الأقدام” في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2017، على هامش قمة التعاون الاقتصادي لآسيا والمحيط الهادئ “آبيك” في فيتنام. واللقاء جرى على عجل وتم خلاله فقط التقاط الصور وتبادل الأمنيات بالتوفيق. وبعد القمة في فيتنام، تحدث الرئيسان عدة مرات بالهاتف.
الرئيس الروسي لم يصرح بأي تصريح حول مواضيع اللقاء في هلسنكي، بينما أعلن الكرملين أن اللقاء مفتوح على كل القضايا الموضوعات وبدون تحديد. إلا أن الكرملين نفى تماماً ما أشيع من احتمال مناقشة صفقة بين موسكو وواشنطن في سوريا وإن كان احتمال عرض الرئيس ترامب انسحاب القوات الأمريكية من سوريا أمر وارد ومتوقع، لكن الجدل حول المقابل الروسي لذلك، حيث يرى البعض أن المقابل هو سعي روسيا لإخراج إيران من سوريا، وهو الأمر الذي نفته موسكو تماماً وقالت أن هذا الأمر ليس محل نقاش مع أية جهة، بينما يرى البعض الأخر أن خروج القوات الأمريكية من سوريا مع السماح للسلطات السورية بإستعادة السيطرة على الأراضي في مناطق الحدود مع الأردن سيكون مقابل ضمانات روسية بعدم ملاحقة دمشق للمسلحين الموجودين هناك والسماح لهم بمغادرة المنطقة بسلام، وهذا أمر وارد ومحتمل مناقشته خاصة وأن موسكو وواشنطن سبق أن اتفقتا على مناطق خفض التوتر والتزما بإتفاقاتهما.
أياً كانت القضايا المحتمل مناقشتها في قمة هلسنكي، فإن هذه القمة تثير مخاوف كثيرة لدى دوائر عديدة في الغرب وواشنطن، ويخشى قطاع كبير من الساسة الأمريكيين أن يكون الرئيس ترامب فريسة سهلة لـ”الدب الروسي” صاحب الخبرة والدهاء الاستخباراتي العالي.
وقد بعث 16 وزيراً من وزراء الخارجية السابقين من دول غربية مختلفة، برسالة إلى الرئيس الأمريكي عشية قمته المنتظرة في هلسنكي مع نظيره الروسي. ونقلت محطة آر تي الروسية عن موقع “بوليتيكو” الالكتروني، أن من بين الموقعين، على هذه الرسالة المفتوحة مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية الأمريكية السابقة ونظيريها البريطاني ديفيد ميليباند والألماني يوشكا فيشر. وقالت أولبرايت في تصريح للصحيفة، إنها نصحت دونالد ترامب بتوخي اليقظة والحذر الشديد خلال المباحثات مع الزعيم الروسي، الذي وصفته أولبرايت بأنه شديد الذكاء وعظيم الانضباط. ودعا أصحاب الرسالة الرئيس الأمريكي، إلى تعزيز “العلاقات المتدهورة” بين أمريكا وحلفائها الغربيين، وحذروا ترامب، من ارتكاب الغلط وتجاهل “الخطر الصادر عن روسيا البوتينية[1]“.
ويرى موقع “بوليتيكو” أن الرسالة بحد ذاتها، تبيّن بشكل واضح “عمق القلق على جانبي الأطلسي” بسبب سلوك ترامب ومزاجه المتقلب، فهو “ليس فقط يهين الحلفاء الأوروبيين، بل ويسعى لنيل مودة بوتين”. تصريحات ترامب قبل لقاء هلسنكي حول القضايا التي ينوي مناقشتها مع الرئيس الروسي بوتين زادت من قلق الغرب عموما من أن الرئيس ترامب سيقدم الكثير من التنازلات للرئيس بوتين، خاصة في أوكرانيا، حيث رفض ترامب صراحة مناقشة مسألة شبه جزيرة القرم مع الرئيس بوتين، معتبراً أنه لن يصحح أخطاء سلفه أوباما الذي عاد القرم إلى روسيا في عهده، ومن الواضح أن ترامب يبتعد عن أي قضية ممكن تعكر صفو اللقاء مع الرئيس بوتين، وصرح ترامب أنه يعتبر نظيره الروسي فلاديمير بوتين منافسا لا عدوا، موضحا أن بوتين يمكن أن يصبح صديقا له فيما بعد[2].
وقال ترامب للصحفيين قبل لقاء هلسنكي: “الرئيس بوتين منافس لي. كان لطيفا معي أثناء لقائنا. وأنا كنت كذلك. وآمل بأن نصل إلى اتفاق. إنه يمثل المصالح الروسية وأنا أمثل مصالح بلادي وهذه هي المنافسة وليست مسألة صداقة أو عداء”.
قمة هلسنكي بين بوتين وترامب، كما قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، “لن تناقش مسائل محدد مسبقاً، بل مفتوحة على كل المواضيع ولا يحكمها أي إطار معين، والرئيسان وحدهما هما اللذان يحددان موضوعات النقاش”.
هذا التصريح هو الأكثر واقعية لهذه القمة التي يخشى حلفاء واشنطن في الغرب أن تكون الطاولة التي سيبيع عليها الرئيس الأمريكي ترامب حلفاء أميركا لروسيا، حيث يسود داخل أروقة حلف الناتو قلقا إزاء احتمال توصل الرئيسين الروسي والأمريكي خلال قمتهما إلى اتفاقات لا تأخذ مصالح الحلف في الاعتبار، كما يسود في العاصمة البريطانية قلقاً ملحوظاً إزاء هذه القمة.
وكتبت صحيفة “التايمز” البريطانية تقول “أي اتفاق مفترض بين موسكو وواشنطن هو غير ملائم لمنظمة حلف شمال الأطلسي” وأضافت الصحيفة قائلة: “تعتقد لندن أنه خلال المحادثات، سيتمكن بوتين من إقناع ترامب بعدم المشاركة في المناورات العسكرية الخريفية للناتو في النرويج وأنه سيتم الاتفاق على روسية شبه جزيرة القرم وتغيير نظام العقوبات مقابل وقف إطلاق النار في شرق أوكرانيا[3]“.
قلق في الغرب وأوروبا وفي واشنطن يقابله ارتياح في باقي أرجاء العالم تجاه لقاء القمة الروسي الأمريكي واحتمالات انفراج العلاقات وتحسنها بين البلدين، وتظل علاقة “بوتين وترامب” محل جدل وشكوك لدى البعض.
*الدكتور مغازي البدراوي خبير قانون دولي ومتخصص في شؤون روسيا وآسيا الوسطى. صدر له كتاب “روسيا وايران، تعاون أم تحالف”. كما قام بترجمة عدد من الكتب من الروسية الى العربية أهمها “رهائن الكرملين”، “لأب الروحي للكرملين”، “ملفات المخابرات الروسية” و”الدبلوماسية السوفيتية والروسية”.
[1] انظر: https://arabic.rt.com/world/956406-ترامب-وزراء-خارجية-سابقون-رسالة-تحذير/. أيضا:/www.politico.eu/article/donald-trump-vladimir-putin-german-foreign-minister-warns-meeting
[2] راجع: https://www.annahar.com/article/441147-العلاقة-المشبوهة-بين-بوتين-وترامب-قصة-غرام-وانتقام-ومال-وسلطة
[3] راجع:- http://aliwaa.com.lb/صحافة-أجنبية/تايمز-هلسنكي-ترعب-حلفاء-الناتو-ترامب-سيرضخ-لأوامر-بوتين/
1 تعليق
تناول المقال موضوع مهم وكنا نامل إلقاء الضوء بشكل أوسع على الموقف من الاتحاد الاوروبي وخاصة حكومة المستشارة الألمانية ميركل كما ان بيان من حذروا ترامب من لقاء بوتين هم من المؤيدين للكيان الصهيوني مما يعني ان النتائج قد تحمل جانب إيجابي للعرب