مغازي البدراوي
عندما فازت روسيا في قرعة استضافة كأس العالم لكرة القدم 2018 في ديسمبر /كانون الأول عام 2010، لم تكن تفكر في فوز منتخبها بالبطولة، بل كانت تعلم أن مستواه لا يسمح له بالمنافسة، وهو ما اعترف به الرئيس الروسي بوتين أكثر من مرة.
لكن روسيا كانت تفكر في أشياء وأهداف أخرى من وراء المونديال، وهي أهداف غير مسبوقة ولم تفكر فيها دولة أخرى من الذين استضافوا المونديال من قبل. ذلك أن روسيا تمر بظروف سياسية خاصة للغاية وسط حملات هجومية متتالية من الغرب، خاصة من واشنطن ولندن تستهدف النيل من سمعتها على الساحة الدولية ومسلسل عقوبات مستمر ضدها، وادعاءات واتهامات مستمرة. ورغم أن كل هذا لم يحد من الصعود الروسي واستعادة روسيا لمكانتها على الساحة الدولية، ولم يحد من شعبية رئيسها بوتين داخل روسيا وخارجها، إلا أن مونديال 2018 كان هاماً للغاية بالنسبة لروسيا، وربما أهم بكثير من أولمبياد الألعاب الشتوية عام 2014 في مدينة سوتشي الروسية التي أبهرت بها العالم، ذلك أن مونديال كرة القدم يحظى بشعبية عالمية لا تقارن، وأعدت روسيا العدة على مدى ثمانية أعوام في الإعداد للمونديال لترد على كل الحملات الهجومية والدعاية السيئة التي تسعى للنيل من سمعتها والحد من صعودها وجاذبيتها على الساحة الدولية.
وبعيداً عن التنافس على الفوز بالكأس ونتائج المباريات، وما حققه المنتخب الروسي من إنجازات غير متوقعة، وخروجه أمام منتخب كرواتيا، والذي تقبله الشعب الروسي بصدر رحب بعد العرض الرائع للمنتخب الروسي. والسبب في تقبل الهزيمة من كرواتيا سياسي أيضاً كما كتبت الصحف الروسية، حيث أن روسيا ورئيسها بوتين خاصة، يخشى الهزيمة من إنجلترا التي تقود الحملات الهجومية السياسية الشرسة ضد روسيا طيلة السنوات الماضية وحتى أثناء المونديال، ولهذا جاء الخروج على يد كرواتيا ليفوت الفرصة على لندن في الشماتة بروسيا.
رغم هذا كله، فإن مونديال 2018 بجميع المقاييس وبشهادة الجميع بلا استثناء، يعد انتصاراً سياسياً كبيراً لروسيا، حيث جاء في توقيت غير عادي والحرب الباردة الجديدة مشتعلة بين روسيا والغرب، حتى أن البعض قرر أن يقاطع المونديال “سياسيا” وحث آخرين على ذلك. وأعلنت بريطانيا أنها ستقاطع المونديال، لكنها تراجعت لأنها لم تجد من يؤيدها في ذلك، وكذلك خشية غضب الشارع الإنجليزي العاشق لكرة القدم، فقررت أن تقاطعه سياسياً بألا ترسل أي مسؤولين من الحكومة لحضوره.
لكن مع انطلاق المونديال لم يلاحظ أحد غياب أحد، بل تسابق كبار قادة الدول والمسئولين السياسيين على حضور المباريات، سواء الإفتتاحية أو غيرها، وبعضهم حضر بدون دعوة رسمية وجلس وسط الجماهير، وهو أمر غير مسبوق، حيث إعتاد القادة والرؤساء على الحضور الرسمي في المباراتين الافتتاحية والنهائية فقط. ونجحت روسيا باستعداداتها الهائلة والجبارة في إستضافة وجذب الملايين من المشجعين من مختلف أنحاء العالم، واستطاعت بنجاح غير عادي إعداد إحدى عشرة مدينة من كبريات مدنها لإستضافة المباريات والجماهير، كما إستطاعت في زمن قياسي وبتكلفة عالية للغاية، بناء ثمانية ملاعب جديدة على أعلى المستويات العالمية، خصيصاً للمونديال. واستعدت بكم غير عادي من الفنادق، من جميع المستويات، لإستقبال الجمهور، وأعدت للجماهير كافة وسائل المواصلات الجوية والبرية لتنقلهم بين مدن المباريات التي تبعد عن بعضها آلاف الكيلومترات. ولم تشكل هذه المسافات البعيدة أية مشاكل للجماهير التي استمتعت بمشاهدة أعرق وأكبر المدن الروسية ومعالمها.
وأعدت روسيا كل الإمكانيات الإعلامية والفنية والرياضية على أحدث مستوى عالمي، كل هذه أشياء أبهرت العالم كله، لكن ما زاد من الإبهار والروعة أشياء أخرى جذبت اهتمام الكثيرين وباتت حديث العالم كله، على رأسها “الأمن”. فقد شهد مونديال روسيا 2018 مستوى غير عادي من الأمن لم يكن يتوقعه الكثيرون، بل أن “الفيفا” نفسها أقرت أن مستوى الأمن في المونديال في روسيا من أفضل ما شهد المونديال في تاريخه على الرغم من توقعات، وأيضاً تهديدات بعض الجهات، بحوادث إرهابية لإفساد المونديال. وهذا أيضاً على الرغم من التساهل غير المسبوق في روسيا للحصول على تأشيرة الدخول للأجانب الذين حصلوا عليها بسرعة بموجب اقتنائهم لبطاقة مباراة واحدة في المونديال. لقد اندهش البعض كثيراً من التساهل الروسي في منح التأشيرات وهي المعروفة بصعوبتها، وخشي البعض من تدفق إرهابيين ومجرمين وغيرهم ضمن الضيوف القادمين، لكن مستوى الأمن الذي شهده المونديال وصفه بعض الخبراء السياسيين بأنه انتصار كبير لروسيا في الحرب الباردة الجديدة التي تخوضها مع الغرب.
وإلى جانب الأمن وضع الخبراء عوامل أخرى ميزت مونديال روسيا وجعلته أشبه بعرس عالمي جذب العالم كله، من هذه العوامل التي ذكرها الخبراء “الروح الروسية” والفعاليات والاحتفالات التي أقيمت على هامش المباريات في المدن المستضيفة، حيث فوجئ العالم بروح الشعب الروسي التي كانت تطمسها وتشوهها الدعاية السياسية المضادة في الحرب الباردة السابقة والحالية، والتي كانت تتعمد تصوير الروس بأنهم قوم عنيفون يتميزون بالفظاظة ولا يحبون الغرباء ولا يفهمون في الذوق والاتيكيت والكرم، حتى أن أحد كهنة اليمين المحافظ الأميركي جون ماكين المعروف بكراهيته لروسيا صرح للإعلاميين بأن “الإنسان الروسي شرير بطبعه”. لكن ما شاهده العالم في المونديال في شوارع المدن الروسية شعب أخر غير ما يتحدثون عنه، شعب يبتسم للغرباء بحب ومودة وترحاب فائق، وشاهد أجمل فتيات روسيا وشبابها يهرولون نحو الضيوف لمساعدتهم ومرافقتهم والمرح والرقص معهم في الشوارع والميادين. وعكس اختلاط الجمهور والزائرين بالشعب الروسي مدى الأمن والاطمئنان الذي عكسته أيضاً الفعاليات والاحتفالات المكشوفة في الشوارع، خاصة الاحتفالات التي شهدتها الساحة الحمراء في موسكو، والتي حضرها الرئيس بوتين وضيوفه من القادة والمسؤولين الدوليين، وكانت كلها في أماكن مكشوفة ومفتوحة للجمهور، ولم يعكر صفوها وروعتها أي حادث أمني من بعيد أو قريب، ولم يظهر أي أثر لاحتجاجات المعارضة الروسية التي يروجون لها في الغرب.
انهالت التهاني والإشادات لروسيا وللرئيس بوتين على النجاح المبهر للمونديال، وقال الرئيس الأميركي ترامب “أعتقد أن روسيا تنظم بشكل رائع بطولة كأس العالم. لقد قامت روسيا بعمل رائع من أجل تنظيمها. إنها بطولة مثيرة، حتى بالنسبة لأولئك الذين لا يتابعون عادة كرة القدم”.
الخبراء والمراقبون يرون أنه رغم المليارات التي أنفقتها روسيا للإعداد للمونديال على مدى الأعوام الماضية، إلا أنها ستجني أرباحاً كبيرة من نجاحها المبهر وستجذب الاستثمارات والسياحة من كل أنحاء العالم، وفوق كل هذا، المكاسب السياسية الكبيرة التي حققتها روسيا، والتي ستزيد من مستوى مكانتها على الساحة الدولية وستمنحها قوة ضد كل حملات الدعاية المضادة لها.
*الدكتور مغازي البدراوي خبير قانون دولي ومتخصص في شؤون روسيا وآسيا الوسطى. صدر له “روسيا وايران، تعاون أم تحالف”. كما قام بترجمة عدد من الكتب من الروسية الى العربية أهمها “رهائن الكريملين”، “الأب الروحي للكريملين”، “ملفات المخابرات الروسية” و”الدبلوماسية السوفيتية والروسية”.