البهيموت القديم: الوحش الذي إبتلع المجتمع Previous item قصة جيدة أكثر من اللازم... Next item اللوياثان الجديد: الانحدار...

البهيموت القديم: الوحش الذي إبتلع المجتمع

قراءة في “كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد” لفالح عبد الجبار (2-2)

 

د. نادر كاظم

يمثل كتاب “كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد[1]” لفالح عبد الجبار محاولة رصينة لقراءة التاريخ الحديث للعراق، تاريخ تشكل الدولة تمهيداً لقراءة مسار انهيارها وحالة اللادولة فيما بعد حرب 2003. ويشتمل الكتاب على سبعة أجزاء تدور كلها حول القضية المحورية والأساسية في مشروع فالح عبد الجبار: بناء الدولة وبناء الأمة ثم انهيارهما. فعلى مدى 430 صفحة يعيد فالح عبد الجبار تركيب مسار هذه العمليات الكبرى خلال قرن من تاريخ العراق الحديث منذ حركة الانتقال من الدولة السلالية (العثمانية) اللامركزية القائمة على الدين إلى الدولة الدستورية الملكية، إلى الجمهورية العسكرية الوسطية، إلى الجمهورية التسلطية العسكرية، إلى الدولة التوتاليتارية القرابية التي زرعت نظام الحزب الواحد، ودمجت الدولة بالحزب، والدولة والحزب معاً بالتنظيمات القرابية الأسرية، واستمرت في التضخم والتوحش، مما أدى إلى تفتت المجتمع، وانهيار الكيانات الفردية أمام جبروتها، وذلك قبل أن تبدأ في مسار الانحدار المتسارع نحو اللادولة في العام 2003.

 

توقفنا في الحلقة الأولى من قراءتنا لكتاب فالح عبد الجبار عند الحيرة التي يمكن أن تنتاب أي باحث يسعى إلى تشخيص نوعية الدولة التوتاليتارية التي شكلها حزب البعث في العراق. فهل كانت الدولة البعثية خليطاً مشوهاً من نماذج “السيادة/السيطرة” الثلاثة التي درسها ماكس فيبر؟ أم هي شكل جديد من “لفياثان” توماس هوبز كما يوحي بذلك عنوان كتاب فالح عبد الجبار؟ أم هي شكل من التوتاليتارية كما حلّلتها حنا أرندت؟ أم هي شكل من دولة “البهيموت” النازي كما شرّحها فرانز نويمان؟

والحقيقة أن التشابه المذهل بين النموذج النازي البهيموتي بحسب نويمان، وبين نموذج الدولة البعثية اللفياثانية بحسب فالح عبد الجبار، جعل قراءة فالح عبد الجبار، في هذه المرحلة من تقدمها، مشدودة، بقوة وبصورة حرفية أحياناً، إلى قراءة فرانز نويمان حتى في المعجم الإصطلاحي والجهازي المفاهيمي. لقد سعى فالح عبد الجبار إلى إعادة تركيب نموذج الدولة البعثية بصورة وفية طريقة نويمان وهو يحلّل النموذج النازي، وحتى من حيث قراءة المآلات التي انتهى إليها هذا النموذج، حيث يسعى فالح عبد الجبار إلى قراءة تاريخ الدولة العراقية “تمهيداً لقراءة دولة اللادولة لما بعد حرب 2003″، تماماً كتلك القناعة التي توصّل إليها نويمان في العام 1944، حين جزم بأن الدولة النازية – وإذا استعيض عنها بالدولة البعثية فلن يتغير المعنى كثيراً- “في سبيلها لأن تصير لا دولة عماءً، وحالاً من انعدام القوانين والاضطراب والفوضى، تبتلع حقوق الإنسان وكرامته[3]“.

 

البهيموت النازي والبهيموت البعثي

 كما أن دولة البهيموت النازي عرفت، تماماً كدولة البهيموت البعثي، كثيراً من التصادمات الجليّة بين مطالب الحزب ومطالب الدولة التوتاليتارية، إلى أن “أضحى الحزب مستقلاً تماماً عن الدولة، لا بل منتصباً فوقها[4]“. والحقيقة أن التشابهات مذهلة بين النموذجين إلى الحد الذي جعل قراءة فالح عبد الجبار أشبه بمحاولة لمحاكاة نموذج نويمان. ولنلاحظ هذه التشابهات حتى نتحقق من ذلك: تتبنى الدولة النازية، تماماً كالدولة البعثية (التي سحقت الأكراد والإسلاميين الشيعة، وناصبت العداء الشوفيني للإيرانيين)، أيديولوجيا عرقية عنصرية وعدائية تجاه الآخرين، وهي أيديولوجيا تقوم على “سيادة الشعب العرقي” التي تتجسد في “الزعيم الفوهرر[5]” أو “الرفيق القائد” في حالة صدام. كما أن تماسك النظام النازي شبيه بصلابة الدولة البعثية التي يسميها فالح عبد الجبار بـ”الدولة الصوانية”. ترتكز هذه الصلابة، في الحالتين، على “اقتصاد احتكاري أوامري[6]“، حيث تتدخل الدولة التوتاليتارية لتفرض التنظيم الاقتصادي الصارم والخاضع كلياً لتحكم الدولة والحزب في الأسعار والأرباح والاستثمارات والتجارة الخارجية والقوى العاملة، والأجور فيه ليست سوى وسيلة أخرى من “وسائل التحكم في الجماهير[7]. كما عرف الحزب النازي، تماماً كما حزب البعث (بلغ عدد أعضائه 1.8 مليون)، تضخماً هائلاً في حجمه الذي بلغ في العام 1943 ما يزيد عن عشرة ملايين عضو. وكذلك شهد الجهاز الإداري البيروقراطي للدولة، في الحالتين، تضخماً كبيراً، حيث “ازداد العدد الإجمالي لموظفي الإدارات العامة زيادة كبيرة في ظل تظام الحكم النازي[8]“. ثم سرعان ما تسّرب أعضاء الحزب داخل هذا الجهاز تماماً كما فعل البعثيون، وأصبح الحزب، النازي كما البعثي، “يمسك بالتراتبيات الهرمية الوسطى والدنيا، بينما يتم ترهيب الأكثرية غير الحزبية من موظفي الإدارات الحكومية أو تلقينها عبر الخلايا. وللحزب سيطرة لا شك فيها على الترقيات وهو يملأ المناصب الجديدة من صفوف أعضائه الموثوق بهم، ويتم إغراق الإدارات الحكومية بالحزبيين بأقصى سرعة[9]“.

وقد تعامل النظام البعثي مع المجتمع الذي يحكمه والمنظمات المستقلة والأفراد بطريقة اجترّ فيها النموذج النازي اجتراراً حرفياً. لم يكن هذا الأخير ليثق في المجتمع ولا منظماته المستقلة التي كان يراها “بؤراً للإستياء والمقاومة”، مما يبرر للنازية أن تطوي جميع المنظمات “تحت جناحيها وتحولها إلى هيئات إدارية رسمية[10]“. هذا هو المبدأ الأول للتحكم النازي في المجتمع، أما المبدأ الثاني فهو “تذرير الفرد[11]” أي تحويل الأفراد إلى ذرات مفردة ومعزولة، وذلك من خلال التقويض العمدي للجماعات من الأسرة إلى المؤسسات الدينية إلى منظمات المجتمع المستقلة (المجتمع المدني) التي ينبغي أن تعمل كمنظمات وسيطة توفّر الحماية للأفراد في مواجهة الدولة.

 

تقييد تواصل الأفراد

وقد عمد النظامان النازي والبعثي، كلٌ بوسائله الخاصة، إلى تقييد التواصل الاجتماعي بين الأفراد، بحيث “يجب على العمال ألا يتحدثوا فيما بينهم (…) وعلى الآباء والأمهات والأولاد ألا يتناقشوا في الأمور التي تعنيهم أكثر ما تعنيهم (…) ويجب على الموظف الحكومي ألا يتحدث عن وظيفته[12]“. وبهذه الطريقة يتم تفكيك المجتمع ليسهل ابتلاعه، وتجريد الإنسان من إنسانيته، وتركه وحيداً وأعزل ومجرداً من كل أسلحته أمام جبروت آلة الدولة العملاقة، حيث تتصلّت عليه دعايتها السياسية (البروباغندا) الجبارة، وإرهابها وعنفها المتوحش لجعله أطوع انقياداً. ولنختم هذه التشابهات بهذا القاسم المشترك الأخير الذي قادهما إلى الانهيار المحتوم وبأسلوب متقارب، حيث يعاني النموذجان، النازي والبعثي، من التصدعات والشقوق التي لم تقد إلى انهيارهما إلا بعد الهزيمة العسكرية التي مني بها الاثنان من قبل قوى خارجية في العام 1945 مع النظام النازي، وفي العام 2003 مع النظام البعثي.

وختاماً، يحار نويمان، كما حار فالح عبد الجبار مع الدولة البعثية فيما بعد، في تحديد طبيعة الدولة الألمانية، بل إنه يغامر بهذا السؤال: هل ألمانيا دولة؟ وهل يمثّل التظام النازي دولة أصلاً؟ ويجيب نويمان بالنفي. ولكن إذا لم يكن النظام النازي دولة فما هو إذن؟ إنه، كما يكتب نويمان، “شكل من المجتمع تقوم فيه الجماعات الحاكمة بالسيطرة المباشرة على الشعب من دون وساطة ذلك الجهاز العقلاني والقسري المعروف حتى الآن باسم الدولة[13]“، أي أنه شكل مباشر من السيطرة والتحكم يسبق نشوء الدولة كجهاز عقلاني من الحكم يقوم على احتكار العنف المشروع لأغراض المصلحة العامة.

ويبقى أن نشير إلى أن بنية الدولة القرابية الأسرية تبقى هي العلامة البارزة التي تميّز البهيموت البعثي عن سلفه النازي. وهي العلامة التي أكملت هذا المزيج غير المتنجانس، وقوّضت أية حسنة ممكنة لسيادة الدولة البيروقراطية أو التقليدية أو الكاريزماتية، وتسببت في جملة من الاختلالات العميقة بحكم تسلسل “هيكليات السلطة” التي أنشأها هذا النموذج على النحو التالي: “الدولة تتحكم في المجتمع، والحزب يتحكم في الدولة، وجماعات القرابة تتحكم في الحزب، والبطريرك يتحكم في الكل[14]“.

 

دولة “اللفياثان” مزدوجة التركيب

تولّى حزب البعث السلطة منذ 1968، إلا أن التحول الكبير نحو الغول الضخم والمتوحش لم يكتمل إلا مع وصول صدام حسين إلى السلطة في العام 1979. وعندئذٍ تكاملت أركان الدولة-اللفياثان المزدوجة التركيب: دولة حديثة يتحكم فيها حزب سياسي يعتمد على أساليب التعبئة الجماهيرية في عملية “بعثنة” الدولة والمجتمع، دولة تقليدية تتحكم فيها أسرة القائد الزعيم التي تسللت إلى “مراكز الجهاز العصبي” في الدولة، حيث “تسللت عشيرة البيجات من البوناصر إلى مختلف المراكز الرئيسية للسلطة، وأمسكت بالخيوط الاستراتيجية. ومنذ أيلول 1968، كان البيجات وأنسباؤهم يحتلون مواقع قادة القوات الجوية، وقاعدة الحبانية الجوية (وكر العديد من المؤامرات)، والحرس الجمهوري (وهو فرقة مدرعة آنذاك)، وحامية بغداد، وقيادة الأركان[15]“، ووزارة الدفاع (6 وزاء من أصل 11 كانوا من عشيرة البيجات) والمراكز الحساسة فيها.

ويلاحظ فالح عبد الجبار أن هذا النوع من الاندماج بين الأشكال الحديثة للتعبئة الجماهيرية والعصبيات القرابية، كان له العديد من النتائج السياسية التي كانت لصالح النظام، فقد كان “مصدراً فريداً للتماسك أبقى النخبة الحاكمة على ذلك القدر من الاتحاد المتين نسبياً[16]” بالرغم من الضغوط الداخلية والخارجية، كما أنه أنتج “أدوات تحكم ورقابة أقرب إلى الجملودية في إدارة هيئات الدولة، ووفر قدرة مستقرة نسبياً لحكم مجتمع متمرد، متعدد الثقافات والإثنيات”. إلا أن هذا الاندماج سرعان ما ولّد الكثير من الاختلالات والتبعات السياسية والاجتماعية الكارثية، فقد كانا يتصادمان ومولدين انشقاقاً خطيراً “يصدّع الدولة من حيث هي ممثلة للجماعة الوطنية (أو المجتمع الوطني)، بعبارة أخرى كان يعوّق آليات بناء الأمة[17]“. ويستفيد فالح عبد الجبار من ابن خلدون (العصبية وأطوار الدولة) وإميل دوركهايم (التضامن الآلي والعضوي) في مسعاه لتفسير التصادم المحتوم بين القبيلة والحزب، بين العشيرة والدولة.

ومع هذا، فإن اندماح العشيرة بالحزب والدولة، لم يكن كافياً للتحكم في المجتمع. وإذا صح أن هذا الاندماج كان عاملاً أساسياً في توطيد الدولة التي يسميها فالح بـ”الدولة الصوانية”، أو “الدولة الجلمودية” التي تشبه الصخر في شدة تماسكها وقسوتها، فإن هذا الاندماج لم يكن كافياً للتحكم الكامل في المجتمع. ولهذا “كان لا بد من استخدام ميكانزمات أخرى: الأعطيات، وتوزيع المنافع، مقابل تمتين الرقابة الأمنية، أي وسائل إكراه المجتمع[18]“. والحاصل أن نظام البعث ما كان له أن يكوّن هذه “الدولة الصوانية” التي ستتحكم في المجتمع لولا عوامل بنيوية ورثها جاهزة من أنظمة حكم أو سيرورات تاريخية سابقة، وأبرزها عاملين مهمين ولكل منها تاريخ تطوره الخاص بالرغم من الترابط الوثيق بينهما: الأول هو تاريخ “استقلالية الدولة” عن المجتمع وعن علاقات القوى الناجمة عن الثروة الاجتماعية، وهذا، بحسب فالح عبد الجبار، واحد من من شروط التطور التوتاليتاري الفاشي على طريقة موسوليني: “كل شيء داخل الدولة، لا شيء خارج الدولة، ولا شيء ضد الدولة”. والثاني هو تاريخ “المجتمع المفتت” الذي كان “يمضي، بفعل قوى الحداثة، في مجرى التفتت إلى ذرات، وقد أمعنوا في تفتيته أكثر من أي نظام حكم آخر[19]“.

يضرب تاريخ “استقلالية الدولة” بجذوره في الدول المتعاقبة على العراق منذ الدولة العثمانية إلى دولة الانتداب، إلى الدولة الملكية، حيث أطلق العثمانيون التحول باتجاه تكوين دولة حديثة تتمتع بالمركزية والإدارة البيروقراطية الحديثة. وقد أكملت الدولة الملكية هذا التحول، وأخذت الدولة تكبر شيئاً فشيئاً، وتتوسع وظائفها بصورة مطردة، وتتحول إلى آلة عملاقة تتحكم في موارد وأجهزة ضخمة ومتكاثرة، كما أنها مخوّلة لاستخدام هذه الموارد والأجهزة (احتكار العنف المشروع) ضد مصالح الأفراد والجماعة الخاصة إذا ما تعارضت مع مصالحها، وضد مسببي الفوضى والاضطراب في السلم العام.

إلى هذا الحد والعراق كدولة لا يختلف عن غيره من معظم الدول حول العالم، والشرق الأوسط تحديداً، إلا أن العراق، بحسب فالح عبد الجبار، يمثل حالة خاصة؛ لأن استقلالية دولته لم تكن تصدر عن توسع وظائفها، بل عن عدة مصادر أخرى أسهمت في تعميق هذه الاستقلالية وتغذية الميول الجارفة نحو التوتاليتارية، وأبرزها: ريعية النفط، والاقتصاد الأوامري، والتيارات الشعبوية.

ففيما يتعلق بريعية النفط، يلاحظ فالح عبد الجبار أن الثروة النفطية تسببت في ولادة الدولة الريعية ذات الميول التسلطية مع ما ينجر معها من اختلالات اجتماعية. فاحتكار الدولة للثروة النفطية يعني تحقيق الاكتفاء الذاتي الاقتصادي لها بما يعزز استقلاليتها عن المجتمع وعن القوى المنتجة للثروة، مما “يعني أن الدولة تستغني عن الضرائب وتتمكن من رشوة الطبقات الاجتماعية، وتتسيد السلطة التنفيذية على باقي السلطات وتسيدها على المجتمع[20]“. وقد تشكلت الدولة الريعية في العراق في مسار متصاعد بتدرج، وهو مسار لا ينفصل عن مسار النفط: اكتشافه، واحتكار الدولة له، ووارتفاع أسعاره (زمن الطفرة النفطية). فقد ولد العراق بثروة نفطية محدودة، حيث لم تكن حصة الحكومة العراقية تتجاوز نسبة 20% من عائدات النفط، كما كان إسهام الإيرادات الريعية التي تشمل النفط والخدمات الاجتماعية، في ميزانية الحكومة، هزيل جداً وتراوح بين 4.6% و7.4%، في حين كانت إيرادات الضرائب تتراوح بين 90.9% كحد أعلى و63.7 كحد أدنى طوال الفترة من 1923 حتى 1951، ثم أخذت النسبة في التراجع بصورة متسارعة، حيث بلغت 31.7% في العام 1963، وتدنت حتى كادت تتلاشى كلياً في أواخر السبعينات حيث بلغت 0.5%[21].

وقد تضافر هذا المسار مع مسار اقتصاد أوامري احتكاري سمح للدولة بالتحكم بمعظم القطاعات الاقتصادية، حيث باتت الدولة تتحكم بنسبة 100% من قطاع النفط، و60% من قطاع الصناعة، و52% من قطاع الزراعة، 56% من قطاع التجارة، 24% من قطاع النقل. وبهذه الطريقة أصبحت الدولة البعثية في وضع يسمح لها بالتضخم إدارياً وأمنياً وعسكرياً، فقد تنامى حجم البيروقراطية (بلغ عدد موظفي الحكومة 826000 في العام 1987) والجيش (بلغ عدد القوات المسلحة 430000 في العام 1980) وأجهزة الأمن كمياً ونوعياً، بما حوّل الدولة “من شبح هزيل إلى آلة عملاقة[22]” أخذت تتضخم أكبر وأكبر بقدر ما أخذ المجتمع يتفتت أكثر وأكثر.

 

الفرد المعزول تحت رحمة آلة الدولة العملاقة

هنا يقف فالح عبد الجبار أمام مفارقة مزدوجة، وهي مفارقة منتشرة في معظم بلدان الشرق الأوسط، وهي أن نشوء الدولة والتحديث المتواصل وتقدم وسائل المواصلات والاتصالات الاقتصاد الحديث، كل هذا أفضى إلى تفكك التضامنيات التقليدية والشبكات القرابية الأولية والروابط الاجتماعية القائمة على القبيلة والعشيرة والمحلة. وفي المقابل، كذلك، تولت الدولة التسلطية عملية تقويض المؤسسات الاجتماعية المدنية الوسيطة (المجتمع المدني) التي كان يمكن لها أن “تحتضن الأفراد المخلوعين من الشبكات القرابية الأولية، وتمنحهم روابط مدينية/مدنية جديدة، تعمل عمل وسادة واقية تحمي الفرد وتخفف التصادم مع القوى العاتية للدولة[23]“.

جعل هذا الفرد المعزول والمخلوع تحت رحمة آلة الدولة العملاقة والمتوحشة. ونتج عن ذلك، كما يلاحظ فالح عبد الجبار، أربعة تغيرات اجتماعية كبرى ذات عواقب بعيدة المدى: 1- تقويض أسس النفوذ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لطبقات أصحاب الممتلكات التي تشكلت مع الدولة الملكية، وإزالتها كان يعني “إزالة الطبقة الاجتماعية التي كانت تشكل بعض الضوابط والكوابح والتوازنات على الدولة[24]“، كما يعني خلق فراغ اجتماعي وسياسي بحاجة إلى من يملأه، و”ومع انعدام عامل الطبقة الوسطى قفز الجيش ليملأ الفراغ”. 2- تقليص طبقات المقاولين والرأسماليين وأصحاب العقارات ورجال الأعمال، وذلك بفعل تزايد ريعية الدولة التي جعلت الدولة في حل من أية تسويات مع هذه الطبقات. وينبي فالح عبد الجبار رهانه على هذه الطبقات على اعتبار أن هذه الطبقات “تشكل نواة الطبقات الوسطى الحديثة التي لا ينبغي أن يخلط بينها وبين الشرائح الوسطى من المهنيين الذين كانوا في معظمهم ممن يتقاضون الرواتب من الوظائف الحكومية[25]“. 3- نمو المدن الكبرى المكتظة بمجتمع جماهيري مفتت، حيث “لا توتاليتارية من دون مدن ضخمة نسبياً[26]” تتفكك، معها، الروابط القرابية، ويتحول المجتمع، فيها، إلى جماهير من الذرات المعزولة. وهذه مسألة سبق لحنا أرندت أن تنبهت إليها، وذلك حين قارنت بين الحركات التوتاليتارية والأحزاب السياسية القديمة التي كانت تقوم على مصالح محددة وتهتم بطبقات بعينها، وهذا على الضد من الحركات التوتاليتارية التي تسعى إلى تنظيم الجماهير و”تتبع قوة الأعداد وحدها، بحيث تبدو الأنظمة التوتاليتارية محالة في بلدان ذات تعداد سكاني محدود نسبياً[27]“. تفسر حنا أرندت هذا الارتباط بمنطق يمكن أن نسميه بالاقتصاد الديموغرافي في الأنظمة التوتاليتارية، وهذا يعني أن الهدر والتبذير السكانيين في مجتمع جماهيري ضخم أمر ممكن لأن مواد التبذير متوافرة وفائضة (السكان)، وتبذيرها بالأساليب الدموية العنيفة لن يؤدي إلى تناقص أعدادها إلى الحد الحرج بحيث يفقد الحكام رعيتهم محدودة العدد. وبحسب أرندت، كذلك، فإن ما يشكل تهديداً جدياً للاستبداد التوتاليتاري التام هو “النقص الفادح في السكان[28]“. 4- النمو الهائل لطبقة أصحاب الرواتب، وهي من شرائح الطبقات الوسطى الجديدة ذات التعليم الحديث، إلا أنها خاضعة للدولة بوصفها الزبون والمالك ورب العمل. وبحكم أن هذه الطبقة تعتمد على رواتب الحكومة اعتماد شبه عبودي، فقد كانت خاضعة كلياً للدولة، هي ومؤسساتها واتحاداتها ونقاباتها وجمعياتها ونواديها التي تحولت كلها إلى امتداد هزيل للدولة، بل إلى واحدة من أذرعها الغليظة التي تراقب وتتحكم وتعاقب.

وينبغي أن نضيف إلى هذه التغيرات تغيراً خامساً، وهو التغير الذي يتمثل في الحروب والمغامرات العسكرية[29] التي دمّرت العراق كدولة، وعمّقت فقره كاقتصاد، وتخلخله كمجتمع، ثم جاء الحصار بعد 1991، وبرنامج النفط مقابل الغذاء، والغزو الأمريكي وانهيار النظام في العام 2003، والاقتتال الأهلي والعنف الطائفي، والجماعات الإرهابية التي تكاثرت كالسكاكين بعد الإطاحة بـ”جَمَل” الدولة الضخم.  وأخيراً، تولّد، كما ينبثق الفطر السام، ذلك المخلوق الغريب و”الكائن المشوّه” المنبعث من أقاصي الجحيم ليعلن قيام “دولة الخلافة[30]” المستندة على ما يسميه فالح عبد الجبار بـ”فقه التوحش والدماء”؛ ولتكمل، بذلك، دورة الانهيارات المتسلسلة، ومسارات الانحدار المتسارع نحو حالة اللادولة وهي تتقدم باتجاه الماضي بلا هوادة.

 

 

 

 

الدكتور نادر كاظم كاتب وناقد ثقافي بحريني وأستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين. صدرت له عدة كتب في النقد الثقافي والفكر الحديث وقراءة التاريخ آخرها “لماذا نكره” و”المقامات والتلقي”، “تمثيلات الآخر”، “الهوية والسرد”، “طبائع الاستملاك“، “استعمالات الذاكرة”، “إنقاذ الأمل”، “كراهيات منفلتة” و”خارج الجماعة”. رابط لمؤلفات الددكتور نادر كاظم: https://www.goodreads.com/author/show/3158160._ 

 

 

[1] – فالح عبد الجبار، كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد، ترجمة: فريق ترجمة، (بيروت/بغداد: منشورات دار الجمل، ط:1، 2017). وتجدر الإشارة إلى أن فريق ترجمة كتاب فالح عبد الجبار قد عرّب اسم الوحش التوراتي Leviathan بـ”اللوياثان”، وقد ارتأينا اعتماد التعريب الأصح والشائع عربياً له وهو “اللفياثان”.

[2] – كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد، ص13. ويشير فالح عبد الجبار إلى أن هذا الكتاب هو مجلد أول، والمجلد الثاني سيكون بعنوان “كتاب اللادولة”، وسيغطي الفترة منذ 2003 وما تلاها.

[3] – فرانز نويمان، البهيموت: بنية الاشتراكية القومية (النازية) وممارساتها، ترجمة: حسني زينة، (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط:1، 2017)، ص12

[4] – المرجع نفسه، ص105

[5] – المرجع نفسه، ص308

[6] – المرجع نفسه، ص354

[7] – المرجع نفسه، ص574

[8] – المرجع نفسه، ص494

[9] – المرجع نفسه، ص512

[10] – المرجع نفسه، ص535

[11] – المرجع نفسه، ص536

[12] – المرجع نفسه، ص537

[13] – المرجع نفسه، ص624

[14]– كتاب الدولة أو اللوياثان الجديد، ص178

[15] – المرجع نفسه، ص225

[16] – المرجع نفسه، ص229

[17] – المرجع نفسه، ص230

[18] – المرجع نفسه، ص237

[19] – المرجع نفسه، ص237-238

[20] – المرجع نفسه، ص243

[21] – انظر: المرجع نفسه، ص244، وص248

[22] – المرجع نفسه، ص252

[23] – المرجع نفسه، ص265

[24] – المرجع نفسه، ص275

[25] – المرجع نفسه، ص276

[26] – المرجع نفسه، ص298

[27] – حنا أرندت، أسس التوتاليتارية، ترجمة: أنطوان أبو زيد، (بيروت: دار الساقي، ط:1، 1993)، ص34

[28] – المرجع نفسه، ص36

[29] – تنقل حنا أرندت عن مونتسكيو أنه كان يميّز بين أنظمة الاستبداد وجميع الأنظمة الأخرى من حيث إن الأولى “معرّضة للانهيار من الداخل، ومحمومة بتوليد زوالها بنفسها، في حين أن جميع الأنظمة الأخرى لا تسقط إلا بفعل عوامل خارجية”، اسس التوتاليتارية، ص256. والحاصل أن نظام البعث سقط بعوامل خارجية وداخلية معاً، وكأنه نمط فريد من بين أنظمة الاستبداد!

[30] – فالح عبد الجبار، دولة الخلافة: التقدم إلى الماضي (داعش والمجتمع المحلي في العراق)، (قطر: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط:1، 2017).