كاظم: نوازعنا العدوانية أعمق تجذراً مما توهمنا Previous item أولويات بوتين في الولاية... Next item المحيط الانجليزي: سؤال...

كاظم: نوازعنا العدوانية أعمق تجذراً مما توهمنا

مع صدور كتابه الجديد “لماذا نكره”، طلبنا من الدكتور نادر كاظم أستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين ان يعرض لنا مضمون هذا الكتاب الجديد وموضوعه والافكار التي يناقشها. آثر كاظم الذي يمثل تاريخ الكراهيات اهتماما بحثيا لديه، ان يخص موقعنا بهذا المقال عن كتابه الجديد  الذي يمثل حسب كاظم امتدادا لكتابه السابق “كراهيات منفلتة”.

 

نادر كاظم

يدور الكتاب حول الكراهيات، وتحديداً حول الكراهيات الجماعية الصادمة والمنفلتة من كل قيد أخلاقي أو قانوني، كما هو الحال في تلك الكراهيات الطائفية والعنصرية والشوفينية والتي عادة ما تكون مدفوعة بحقد دفين (وغير واع ومن الصعب تفسيره في غالب الأحيان) تجاه الآخر الطائفي أو الديني أو الإثني، وهي كراهيات كثيراً ما اقترنت برغبة مبيتة أو مشهرة في محو الآخر وإبادته، هكذا وكأن الدنيا ستكون أجمل، وكأننا سنعيش في سلام هادئ حين يختفي المختلفون البغيضون ونبقى وحدنا! كان يمكن لمثل هذه الكراهيات أن تكون محتملة وغير مدمرة لو كان البشر يعيشون في عزلة كاملة وجزر معزولة كما كان الحال مع أسلافنا في الماضي البعيد والوسيط، لكن نعيش في عصر معولم جمع المختلفون من كل أنحاء المعمورة في مكان واحد افتراضي كما في مواقع التواصل الاجتماعي أو واقعي كما في المدن الحديثة.

وهذه مفارقة غريبة، ففي الوقت الذي أفسحت العولمة المجال لحراك بشري هائل وغير مسبوق في كل التاريخ البشري بحيث صارت المجتمعات المتقدمة تعتمد على تدفّق عمالة أجنبية عابرة للحدود، وتضم جماعات مختلفة دينياً وإثنياً وفي أساليب حياتها المختلفة، في هذا الوقت يزداد التعصب بين الناس، وتنتزع الحياة اليومية منهم مهاراتهم الاجتماعية التي تؤهلهم للتعاون والتواصل مع الآخرين المختلفين مثل مهارة الإصغاء الجيد للآخرين، والتصرّف بلباقة معهم، وإيجاد نقاط الاتفاق، وإدارة الاختلاف، والتعاون معهم، واحترامهم ومراعاتهم وتجنب جرح مشاعرهم.

الكتاب معني بهذه المفارقة، ومعني، كذلك، بالحفر في تاريخ الكراهيات في محاولة لإعادة تركيب سيرة تكونها، ولوضعها في سياقها التاريخي الذس تشكلت فيه، ومنه اكتسبت الكثير من معناها ومبرر وجودها. كما أنه معني بتفكيك نوع آخر من الكراهيات أسميها “الكراهيات المصطنعة” أي الكراهيات غير الحقيقية والتي يقف وراءها جهات أو افراد يصنعونها صنعة لمآرب شتى من التربح منها إلى إثارة الانقسامات والفتن والاضطرابات داخل هذا المجتمع أو في تلك الدولة.

يضعنا هذا كله أمام هذه الحقيقة المزعجة، وهي أن نوازعنا العدوانية أعمق تجذراً مما توهمنا، ومما توهم كثير من الحالمين، بنوايا نبيلة، من بعض الحداثيين ودعاة التحديث وكثير من الشيوعيين اليوتوبيين، أولئك الذين حلموا، فيما مضى، بعالم بلا طبقات وبلا عداوات وبلا صراعات وبلا كراهيات. لقد راهن بعض الحداثيين على أن التقدم المطرد في التحديث وقيمه مثل الفردانية والعقلانية سوف يُتوّج، في نهاية المطاف، بـ”ثقافة كونية” تنسحب، من على مسرحها، كل القوميات والطوائف، وتتراجع، على إثر ذلك، كل العداوات والكراهيات العريقة التي ارتبط وجودها بوجود هذه القوميات والطوائف. وفي نسخة أخرى مختلفة من هذه اليوتوبيا الحداثية، كان اليسار الماركسي التقليدي قد راهن على أن “موقف العداء بين الأمم” سيزول مع إلغاء الملكية الخاصة وزوال الطبقات. لقد مهّدت البورجوازية، من هذا المنظور، الطريق لتراجع “التعصّب والتقوقع القوميين”، ولزوال “الفواصل القومية والتناقضات بين الشعوب”، ولإرغام “البرابرة الأكثر حقداً وتعنتاً تجاه الأجانب على الاستسلام”، إلا أن هذا لن يكون سوى فاتحة وتمهيد لمسار ينتهي، لا محالة، بانتصار البروليتاريا. وسيضع هذا الانتصار حداً نهائياً لهذه العداوات والتناقضات بين البشر.

إلا أن هذا الانتصار لم يتحقق كما بشّرت به هذه اليوتوبيا، والعداوات والتناحرات والكراهيات والأحقاد العنيدة لم تختف، بل مازالت الكراهيات المنفلتة إلى اليوم قادرة على الاستفزاز والجرح والإيذاء، بل إنها ازدادت قدرة على ذلك مع زوال عزلة الجماعات (القوميات والأديان والطوائف)، واهتزاز فضاءاتها الخصوصية المغلقة، وتقدم الاتصالات بحيث صارت أخبار الكراهيات وحوادثها تنتقل بسرعة فائقة، وصارت تستحثّ معها، في كل مرة، انعكاساتها الخطيرة. وكأن “التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات” الذي ابتدعته البورجوازية، وراهن عليه الماركسيون فيما بعد، قد بدأ يفعل فعله ولكن بطريقة عكسية. فالتعصب والتقوقع القوميان لم يتراجعا، وموقف العداء داخل الأمة وبين الأمم لم يختف، والكراهيات بين البشر لم تهتزّ. بل صارت تتغذّى على هذا “التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات” والاتصالات، وتتوسّل به، بل تطوّعه لصالحها.

 

عزلة الجغرافيا ومفارقات التكنلوجيا

يمكننا أن نتجادل، اليوم، حول صحة هذا التحليل أو خطأه، لكن الحاصل أن هذا التحليل لم يكن عقيماً بالكامل، ولعل أهم درس يمكن استخلاصه من هذا التحليل هو أن انتعاش الكراهيات بين البشر إنما كان يستمد قوته من العزلة الجغرافية ومن التقوقع والانكفاء القديمين بين الجماعات. وقد تمكّنت الجماعات، في ظل هذه العزلة، من إنتاج كراهياتها وتداولها دون تكاليف باهظة. والسبب في ذلك أن العزلة كانت تؤمّن الأجواء المناسبة لانتعاش الكراهيات داخل كل جماعة. وبناء على هذا، يمكن أن يستنتج أحدنا بأن زوال العزلة سيكون نتيجة طبيعية لانفتاح حدود الجماعات بفضل “التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات” والاتصالات. وبهذا النوع من التواصل المكثّف ستزول العزلة، وتختفي، على إثر ذلك، الكراهيات العريقة. لكن الذي حصل لم يكن كذلك. فالتواصل المكثّف أصبح حقيقة بفضل التقدم المذهل في وسائل المواصلات والاتصالات والإعلام، إلا أن العزلة مازالت قائمة، والكراهيات العريقة مازالت منتعشة.

في أبريل 2017، نشر تقرير عن “مركز كانتور” كشف أن حالات العداء للسامية وكراهية اليهود في 40 بلداً حول العالم في تزايد، وأنها ساءت، بشكل لافت، في العالم الناطق بالإنجليزية. وعزا التقرير السبب في هذه الزيادة إلى مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت مثل “تويتر” و”فيسبوك” و”يوتيوب”. وكتب ستيفن بولارد، في صحيفة “ديلي تلغراف” بتاريخ 31 يوليو 2016، مقالة حول الدور الذي باتت تلعبه وسائل التواصل الاجتماعي في نشر معاداة السامية. ويعرض الكاتب إحصائيات الشرطة البريطانية لعام 2016، والتي تشير إلى ارتفاع حالات الكراهية المعادية للسامية بنسبة 36% في العام 2016. ويأتي هذا الارتفاع بلا سبب واضح سوى الدور الذي باتت تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي، و”تويتر” و”فيسبوك” على وجه الخصوص، في كشف ما كان مخفياً وما كان من الصعب المجاهرة به بشكل مباشر وواقعي في السابق.

قد يُقرأ هذا التأثير على أنه مفارقة، فبدل أن تكون هذه المواقع مواقع للتواصل الاجتماعي، إذا بها تنقلب إلى مواقع للتنافر واللاتواصل الاجتماعي. وهي مفارقة تضعنا أمام حقيقة مهمة، وهي أن مواقع التواصل ووسائل الاتصال والمواصلات، وسائل مرنة وطيعة ويمكن استخدامها في خدمة الأغراض المختلفة. بمعنى أن الجماعات تستطيع أن تعيد إنتاج عزلتها وكراهياتها بالاستعانة بهذه الوسائل والمواقع. وإذا كان من شبه المستحيل تأمين العزلة المكانية القديمة في عالم جرى عولمته، وأصبح بمثابة “قرية كونية”، ومشبوكاً من أقصاه إلى أقصاه بشبكات اتصال معقدة ومتكاثرة، وبفرص كثيفة للالتقاء بين البشر، أقول إذا كان هذا من شبه المستحيل فإنه من غير المستحيل، في المقابل، أن تقوم الجماعات بإعادة إنتاج عزلتها الافتراضية والمتخيلة والتواصلية، وهي تفعل ذلك، اليوم، وبالتوسّل بشبكات الاتصالات المعقدة والمتكاثرة.

 

الفضاء العام والعزلة الجماعاتية

لا يمكن إنكار الدور الذي لعبه ذلك “التسهيل اللامتناهي للمواصلات” والاتصالات في تقريب البشر، وتقليص المسافات، وتجاوز الحدود الجغرافية التي كانت تفصل بينهم، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، زوال عزلة الجماعات؛ لأن الجماعات قد تتساكن وتتجاور في المكان، إلا أن هذا لا يعني، بالضرورة، أنها تتعايش وتتواصل فيما بينها. وبدل العزلة المكانية سنكون أمام عزلة تواصلية. ويمكن لهذه العزلة التواصلية أن تعيد إنتاج نفسها بالتوسل بتكنولوجيا الاتصال والإعلام، وذلك حين لا يجد أبناء هذه الجماعات حاجة ملحة إلى التواصل إلا مع نظرائهم من أبناء جماعتهم فقط، وحين يتوسّل هؤلاء بأحدث تقنيات الاتصال لا لشيء سوى خدمة التواصل الخصوصي المغلق فيما بينهم، وتعزيز الروابط بين أبناء جماعتهم فقط. وعلى الشاكلة ذاتها، فإن المجال العام الذي نتحدث عنه في هذا الكتاب قد يصبح عديم الأهمية حين يكون مجزّأ بحيث يكون لكل جماعة فضاءاتها وفضائياتها وإذاعاتها وصحفها ومواقعها ومنتدياتها الإلكترونية الخاصة بها. وفي مثل هذه الظروف يمكن لذلك “التسهيل اللامتناهي لوسائل المواصلات” والاتصالات، ولذلك المجال العام المجزّأ أن يؤديا وظيفتهما بطريقة عكسية، فبدل من أن يعززا التواصل والانفتاح والعيش المشترك، بما يؤدي إلى زوال الفواصل وكبت الكراهية، إذا بهما يعمّقان عزلة الجماعات الافتراضية والمتخيلة، ويعيدان إنتاج الفواصل والتنافر والكراهيات والحساسيات المتبادلة.

إن التأمّل في هذه النتائج العكسية مهم جداً؛ لأنه يفرض علينا أن نعيد النقاش مجدداً في علاقة العزلة بالكراهيات، وفي دور تكنولوجيا الاتصال والمواصلات في وضع حد لهذه العزلة ولكراهياتها العريقة. وسوف أبادر إلى القول بأن الاتصال المكثّف لا يهدد العزلة لكونه يسهّل حركة البشر ويحسّن من كفاءة اتصالاتهم، بل إنه يهدّد هذه العزلة حين يتمكن من تجاوز عزلة البشر التواصلية، وحين يضع الآخر أمام الذات على نحو واقعي ومتخيّل، وحين يحمل الجماعات على الالتفات إلى آخريها ومراعاتهم، وأخذهم بعين الاعتبار من أجل التعامل معهم باحترام يليق بهم، الأمر الذي يحفظ للناس كرامتهم الإنسانية ويؤمن لهم العيش المشترك. والثابت أن البشر لا يتورّعون عن التعبير عن كراهياتهم بفظاظة جارحة في ظل غياب الآخرين المستهدفين بالكراهية، إلا أنهم (وهذا مرهون بألا يكونوا وقحين طبعاً) يحسبون ألف حساب حين يقف هؤلاء المكروهون أمامهم وجهاً لوجه على نحو واقعي أو متخيّل. قد لا ينطوي هذا النوع من مراعاة الآخرين على الاحترام الذي يليق بكل البشر والذي ينبغي أن يكون نابعاً من إحساسنا الداخلي بقيمة كل إنسان وبجدارته بالاحترام. وقد يكون هذا النوع من احترام الآخرين مطلباً ثميناً، والطريق إليه طويلاً لكونه يتطلب تهذيباً أخلاقياً داخلياً بحيث نكون – نحن أولاً- أناساً محترمين لنكون، من ثَمَّ، على قناعة تامة بأن الآخرين، مثلنا تماماً، أناس جديرون بالاحترام، وأنهم يستحقون هذا الاحترام، ويستحقونه لا بتفضّل منا. على الإنسان، كما يقول إيمانويل كانط، أن يتمثّل وجوده الخاص من خلال احترام “كرامة الإنسانية في شخصه هو”، الاعتراف، في الوقت ذاته، بـ”كرامة الإنسانية في كل إنسان آخر”.

 

*الدكتور نادر كاظم كاتب وناقد ثقافي بحريني وأستاذ الدراسات الثقافية بجامعة البحرين. صدرت له تسعة كتب في النقد الثقافي والفكر الحديث وقراءة التاريخ مثل: “المقامات والتلقي”، “تمثيلات الآخر”، “الهوية والسرد”، “طبائع الاستملاك“، “استعمالات الذاكرة”، “إنقاذ الأمل”، “كراهيات منفلتة” و”خارج الجماعة”.