ما “بعد بوتين”.. من المبكر وضع علامات استفهام بعد Previous item التوقعات الاقتصادية لروسيا... Next item أولويات بوتين في الولاية...

ما “بعد بوتين”.. من المبكر وضع علامات استفهام بعد

ياسر قبيلات

أثارت إشارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى أنه، على الأغلب، لن يترشح لدورة رئاسية تالية أسئلة حول ما سيفعله الرجل بعد انتهاء ولايته الحالية؛ وأغلب المهتمين بهذه القضية تحدثوا عن سيناريو «حكم بالوكالة». أي، الحكم عبر تنصيب شخص آخر يكون واجهة رئاسية صورية. البعض الآخر تحدث عن استخلاف شخصية مقربة، تحظى بثقة بوتين. بعض ثالث إلتقط اقتراح رئيس الحزب الليبرالي الروسي، ومرشح الرئاسة، فلاديمير جيرونوفسكي، الذي قال أنه طرح على الرئيس الروسي دراسة اقتراح إلغاء الرئاسة وتشكيل هيئة قيادية موسعة.

وبالإجمال، فإن أغلب من اهتموا بطرح هذا السؤال أو الاجابة عليه، كانوا ينطلقون من قناعة راسخة أن الرئيس الروسي لن يتخلى عن الحكم، حتى وإن زهد بالرئاسة، وأنه سيلجأ إلى «حيلة» ما لمواصلة قيادة روسيا، والسيطرة على مقاليد الحكم في البلاد. أو أنه سيتراجع ببساطة عن كلامه، ويترشح لفترة رئاسية تالية. ولكن، هل قال بوتين، فعلاً، أنه لن يترشح في الانتخابات المقبلة؟

في الواقع، جاءت الإشارة حول ذلك حينما رد الرئيس الروسي ساخرا من سؤال عما إذا كان سيترشح لفترة رئاسية أخرى العام 2024، فقال إنه يعتبر السؤال «مضحكاً»، وأضاف موضحاً للصحافي: «دعنا نحسبها. هل تعتقد أنني سأظل في السلطة حتى أبلغ من العمر مئة عام؟ لا». إذن، لم يقل، فعلاً، أنه لن يترشح في الانتخابات المقبلة.

وفي الحقيقة، فإن الرئيس المعروفة عنه دقته في اختيار كلماته، وحرصه على عدم التورط بوعود ليس على ثقة من قدرته الالتزام بها، قال أنه لن يبقى في السلطة إلى أن يبلغ المئة عام. وهو سيبلغ هذه المئة عام في العام 2052.

ولكن هذا ليس كل شيء.. هناك، في هذا السياق، شخصية بوتين نفسه؛ من المؤكد أن بوتين ليس بالشخص الذي يستنكف ببساطة عن القيام بأي دور مناط به، إن كان يشعر أن لديه القدرة على القيام بأعباء ذلك الدور. ولكنه، في نفس الوقت، وعلى خلاف ما تروج الدعاية الغربية حوله، ليس من النوع الذي يمكن أن يتورط بالتشبث بـ«الكرسي»، وذلك لسبب بسيط: إنه أذكى من ذلك.

 

الحكم والسلطة

هو أولاً وقبل كل شيء يفرق على نحو جيد للغاية بين الحكم والسلطة، ويدرك أن الحكم هو أعباء مرتبطة بالمنصب الرسمي، بينما السلطة قوة يمكن أن تأتي من مراكز كثيرة غير كرسي الرئاسة، أو المناصب السياسية.

ويعرف، تماماً، أن من يشغل المنصب قد لا يحكم في واقع الأمر، بينما من يملك السلطة، يحكم ويقرر شؤون الحكم دون منصب؛ ويمكن هنا استحضار تجربة عمله رئيساً للوزراء في ظل رئاسة ديمتري ميدفيديف. كما يمكن أن نذهب أبعد من ذلك ونتأمل تجربة المهاتما غاندي ونلسون مانديلا، اللذين يحكمان لليوم في بلديهما، حتى بعد وفاتهما. والمهاتما غاندي   ومانديلا حاضران في تأملات الرئيس الروسي.

وهناك، أيضاً، تجربة بوتين في الوصول إلى الحكم، وفي الحكم نفسه. وهي تجربة خاضها متمسكاً بثقافته القانونية، التي ألهمته أن مفتاح نجاحه بقيادة روسيا يمر عبر إحياء المؤسسات الدستورية، وإعادة الإعتبار إليها، وتمكينها من أداء دورها. والتمسك بالدستور وتجنب المس به. وهو ما قاده إلى «حيلة» التناوب مع مدفيديف تحاشياً للجوء إلى تعديل الدستور. إذ أن تمكين الدستور، بالنسبة له، جزء من الإرث الذي يسعى لتركه. إذن، هل يترك الرئاسة ببساطة؟

لا، لن يتنحى جانباً طالما توافرت له القدرات الجسدية والعقلية والأخلاقية للقيام بأعباء الرئاسة، وطالما كان يتمتع بالشعبية الحقيقية اللازمة المؤكدة. وليس الشعبية الصورية، أو مجرد القدرة على حشد الأصوات في صناديق الاقتراع.

وهو لن يتنحى، كذلك، قبل أن يربط القسم الوازن من النخبة السياسية في روسيا بـ«الدولة العميقة»، بحيث لا يعود بمقدور أي رئيس لاحق، مهما كانت توجهاته، وقوته، أن يؤثر على المصالح العليا للدولة، أو  يؤثر على القيم الأساسية التي تمس وجود «الأمة الروسية» ومستقبلها. وهاجسه الأساسي، في ذلك، الحيلولة بأي ثمن دون تكرار تجربتي غورباتشوف ويلتسين.

 

مجموعة اللينينغراديين

هناك، أيضاً، في سياق أجواء الانتخابات الرئاسية الروسية ونتائجها، وما أثارته من قفز مباشر إلى مناقشة «مرحلة ما بعد بوتين»، يبرز السؤال حول «رجال بوتين»، الذين يحظون بثقته، ويمكن أن يأتمنهم على البلاد، وبوسعه أن يختار منهم واحداً، فيتنحى ويستخلف أحداً منهم في الرئاسة.

في الواقع، «رجال بوتين» كثيرون للغاية. وهذه الحقيقة لا تنسجم مع الدعاية الغربية، التي تقول أن بوتين يهيمن على السلطة في روسيا، ويستأثر بها، ويقبض عليها بأساليب غير ديمقراطية و«ديكتاتورية». إذ أن الواقع يقول أنه يحكم بقوة شعبيته وإنجازاته، وبتأييد شعبي واسع، يشمل حتى أحزاب المعارضة الرئيسية في البلاد، التي تؤيده بقوة في سياساته الخارجية، وتختلف معه في بعض الملفات الاجتماعية الداخلية.

ومن هنا، فإن «رجال بوتين»، في السلطة وخارجها، هم أكثر من أن يتم عدهم أو إحصاؤهم. وهم يتوزعون في مجالات عديدة، بدءاً من الرئاسة إلى الحكومة إلى مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، وصولاً إلى حكام الأقاليم، الذين لم يحكم روسيا، ومن قبلها الإتحاد السوفيتي، أحد لم يتمتع بتأييدهم، ولم يخسر رئيس سلطته إلا بسحبهم تأييدهم له..

هكذا، تم «خلع» خرتشوف،  و«طرد» غورباتشوف و«تنحي» يلتسين. ومع ذلك، فإن «رجال بوتين» مصطلح ظهر مع الحديث حول «مجموعة اللينينغراديين»، الذين قدموا إلى موسكو، وجاءوا إلى مراتب السلطة، بالتزامن مع تقدم ابن مدينتهم، وزميلهم السابق في دائرة الـ«كي. جي. بي» في لينينغراد (سانت بطرسبورغ، حالياً) في إدارات الكرملين. وهم، من درج الإعلام الغربي على تسميتهم بــــ«قبيلة بوتين».

لكن هذا الوصف غير دقيق، والسبب بسيط: لقد بدأ توافد اللينينغراديين على موسكو، وظهورهم في مناصب حيوية بمراكز السلطة قبل مجيء بوتين. بل أن بوتين تأخر عن كثيرين منهم في مغادرة لينينغراد. وأكثر من ذلك، كان بعض هؤلاء هم من جاء ببوتين إلى موسكو، ووضعوه على أول طريق السلطة. بمعنى، يفترض أن بوتين، إلى جانب هؤلاء، واحد من أعضاء هذه «القبيلة»، لا سيدها.

 

إبن الدولة العميقة

وهنا، يصبح السؤال: بوتين رجل من؟ في واقع الأمر، أغلب أعضاء هذه «القبيلة» هم من منتسبي دائرة جهاز الـ«كي. جي. بي» في لينينغراد. بعضهم زملاء مباشرين لبوتين، وبعضهم بعيدي الصلة به. والسر في توافدهم على موسكو، بهذه الكثافة، وكما تؤكد الشواهد، أن مركز جهاز الـ«كي. جي. بي» الرئيسي في موسكو ومنتسبيه تعرضوا، لدى انهيار الاتحاد السوفيتي، لإجراءات انتقامية من قبل السلطة الجديدة، فبادرت قيادة الجهاز، على نحو سري، بتحويل العمليات الرئيسية إلى دائرة الجهاز في لينينغراد، التي كانت الثانية من حيث الأهمية، حولتها إلى مركز بديل، بعيداً عن عين ويد السلطة الجديدة. ومع انتهاء «الموجة الانتقامية»، بدأ مركز الجهاز باستدعاء الكوادر من لينينغراد، في سياق برنامج لإستعادة النفوذ في مراتب السلطة، وعلى الأخص في الحكومة والرئاسة. ومن هذه الكوادر، التي راهن عليها الجهاز، كان بوتين.

لقد كان جهاز الـ«كي. جي. بي» المركزي ووزارة الخارجية والجيش، عملياً، ثلاثة أجهزة تمثل «الدولة العميقة» في روسيا. ومنذ النصف الثاني من التسعينات، كانت هذه الجهات تتنافس بمساعيها في القبض على السلطة، التي بدأت تترنح مع تزايد انحسار التأييد ليلتسين. ومن الواضح أن توافقاً قسرياً بين هذه الأجهزة، جاء بفلاديمير بوتين إلى قمة السلطة في البلاد. وبهذا، فبوتين رجل تلك «الدولة العميقة».

وبالطبع، بما أن بوتين على رأس السلطة الآن، فإن الواقع يقول أن «القبيلة» قبيلته، و«الرجال» رجاله، مع ملاحظة أن «القبيلة» توسعت، و«الرجال» تكاثروا، وهم في أغلبهم موضع ثقة الرئيس، كل في مكانه، ومنصبه. ولكن هل بينهم من يحظى بثقته، ويمكن أن يأتمنه على البلاد، وبوسعه أن يختاره، فيتنحى ويستخلفه في الرئاسة..؟

من المستبعد أن يكون بوتين مهجوساً بإعداد وريث له؛ فهو على قناعة أن الضمانة الأساسية تتمثل في إرساء قواعد مكينة للنظام، وتدعيم أركانه المادية والمعنوية. وأنه متى ما تمكن من فعل ذلك، سيكون هذا النظام قادراً على تقديم بديل له، في رئاسة البلاد، حال غيابه. سواء تم ذلك في ظروف طارئة أم طبيعية. إذن، من المبكر وضع علامات استفهام بعد «ما بعد بوتين».

 

 

ياسر قبيلات  كاتب وصحافي أردني خبير بالشؤون الروسية يعمل في صحيفة «البيان» الاماراتية. صدر له عدد من الأعمال الأدبية، وله العديد من الكتابات والترجمات حول الشأن الروسي. ويصدر له قريبا في عمّان كتاب سيرة سياسية حول الرئيس الروسي بعنوان: «ألغاز بوتين: قصة حياة وسيرة مهنة”.

رابط مؤلفات ياسر قبيلات: www.neelwafurat.com/locate.aspx?mode=1&search=author1&entry=%ED%C7%D3%D1%20%DE%C8%ED%E1%C7%CA