جهة الشعر ومعادلتنا المعكوسة Previous item ترابط المياه والطاقة... Next item قاموس الأخلاق الجديد

جهة الشعر ومعادلتنا المعكوسة

محمد فاضل العبيدلي

 في صيف العام 1983، كان الصديق ابراهيم بشمي يتحدث في ندوة عن الصحافة ضمن الموسم الثقافي الصيفي لجمعية أوال النسائية. وقبل ان يأتي دوره للكلام، قام بعمل استبيان سريع للجمهور عبر قصاصات صغيرة تم توزيعها على الحاضرين تضم سؤالاً وحيداً لكل مشارك عن المجلة الثقافية المفضلة لديه. عندما تم جمع القصاصات من الجمهور، قرأ بشمي الاجابات قبل ان يعلن: “لقد قرأت كل القصاصات فلم أجد فيها أي ذكر لمطبوعتين أدبيتين تصدران من البحرين وتعدان من المطبوعات الأدبية المتميزة في الوطن العربي وهما مجلة [كتابات] ومجلة [كلمات]”.

في اليوم التالي، كنت اتحدث مع ابراهيم في مكتبه عندما قال لي أن كل الاجابات التي جاءت في ذلك الاستبيان السريع ذكرت أسماء مجلات أدبية تصدر في مصر او لبنان او في المهجر. لكن الأمر انطوى على مفارقة عندما ذكر البعض اسماء دوريات ومجلات توقفت عن الصدور،  بل ان بعضهم اشار الى مجلة كان قد تم الاعلان عن التحضير لصدورها قريبا لكنها لم تصدر حتى ذلك الحين. اخذنا نتساءل: “كيف يعرف الجمهور او المثقفين عن مجلات ودوريات أدبية تصدر خارج البحرين ويجهل مجلات مماثلة تصدر في بلده؟”. ان ارجعنا الأمر لتأثير الاعلام، فهذا مؤكد، لكن ماذا عن تقييم المحتوى؟ هل يلعب هذا دورا في المفاضلة بين هذه وتلك او يمثل دافعاً لمثقف او قارئ في بلد لأن يشير الى مجلات تصدر خارج بلده ويتناسى اخرى تصدر في بلده؟

لقد اصدر الشاعر علي عبدالله خليفة مجلة “كتابات” اعتباراً من العام 1976 واستمرت في الصدور حتى العام 1983 وهو العام نفسه الذي بدأت فيه مجلة “كلمات” في الصدور عن أسرة الادباء والكتاب. وبمبادرات شخصية منه، قام خليفة بنشر المجلة وارسالها الى بلدان عربية اخرى عبر التواصل مع ادباء ومثقفين في تلك البلدان. وفي العام 1979، كان احد المثقفين السودانيين الذين التقيتهم في القاهرة، يسألني عن “كتابات” وابلغني انه قرأ للعديد من الشعراء والأدباء وكتاب القصة البحرينيين والفضل يعود حسبما قال للمجلة. كانت تلك المجلة تصدر بجهد إثنين، علي عبدالله خليفة وعبدالقادر عقيل الذي كان بمثابة مدير تحرير للمجلة.

أما مجلة “كلمات” فقد بدأت الصدور اعتبارا من العام 1983 بشكل دوري لا بصفتها مطبوعة عامة تباع في الاسواق بل باعتبارها نشرة داخلية، اي يمنع بيعها للأفراد او في الاسواق. كان وراء اصدار “كلمات” اثنان هما قاسم حداد ومن جديد عبدالقادر عقيل. كنت غالباً ما أزور قاسم في مقر الأسرة الذي كان وقتذاك في منطقة “أم الحصم” لأجده غارقاً وسط الأوراق وهو منهمك في إخراج المجلة على الحاسوب.

وحتى ذلك الحين، كانت مجلة “الكرمل” التي تصدر عن اتحاد ادباء فلسطين ويرأس تحريرها الشاعر الراحل محمود درويش في أوج تألقها اضافة الى تلك المجلات والدوريات التي كانت تصدر في غالب الدول العربية. لقد عدت مجلة “كلمات” اضافة نوعية لما كان موجودا في الساحة الأدبية على المستوى العربي، فاذا كان مفهوماً أن مجلات من هذا النوع تلعب دوراً تعريفياً بالأدب والثقافة في بلدانها،  فإن “كلمات” تجاوزت هذا الدور بتحولها الى منبر أدبي عربي. لهذا كنا نقرأ بعض افتتاحياتها موقعة بأسماء مثل الراحل حسين مروة والشاعر أدونيس والمغربي محمد بنيس وغيرهم ناهيك عن مساهمات ادباء وشعراء عرب في أبواب المجلة الأخرى.

لقد كان لعلاقات قاسم حداد مع الشعراء والمثقفين العرب دور في هذا بلا شك. لكن وعودة الى ذلك التساؤل الآنف حول ما تقدمه المجلات الأدبية ومحتواها، فإن قيمة المحتوى الذي كانت تقدمه “كلمات” هو ما سيبدو غالباً عصياً على الفهم أو التقدير، ذلك أن لدينا مشكلة قديمة متجددة [تعبير مخفف عن عبارة “تبدو مشكلة متصلة بالجينات”] في فهم قيمة “ما لدينا” و”ما بأيدينا” و”النتاج المحلي” بشكل عام وتقديره بالشكل الصحيح  اللهم إلا اذا نال شهادة أو اعترافاً على نحو ما من خارج ما.

تتمة القصة ان “كلمات” توقفت اخيراً عام 1991 أو 1992 تقريباً ولم يشفع لها شيء لكي تستمر. فالمثقفون لم يروا فيها ما يدفع لبذل قليل من العناء [مقابل آخر لعبارة “تستحوذ عليهم سلبية من النوع القاتل”] لإبقائها موجودة ولم ترى فيها أي جهة أو مؤسسة رسمية أو مستثمر ما يستحق الدعم لكي تستمر.

تكررت القصة مع موقع “جهة الشعر”، قاسم حداد من جديد وبالكثير من المثابرة والصبر ، تحول الموقع خلال سنوات قليلة من انطلاقه الى أهم موقع للشعر في العالم. لم يكن منبراً بحرينياً او عربياً للشعر والأدب، بل بالأصح أهم منبر عالمي للشعر والرواية يديره ويشرف عليه شاعر بحريني وشركة تقنيات بحرينية. لكن وعلى عكس معادلة التقدير المحلية المعكوسة تلك، لم تنفع عالمية الموقع ولا محتواه  الذي لا يضاهى في قيمته، في امكانية استمراره بعد عشرين عاماً.

ليست هناك أسرار، فالمثقفين الحقيقيين لا يعرفون كيف يحصلون على المال بل كيف يبدعون أدبا وفناً. ومشكلة تقدير الأدب والثقافة والفكر ستبقى قائمة بأشكال متغيرة من وقت لآخر يبدو وقتنا الراهن اسوأها لأنه “عصر التفاهة بامتياز”.  الكثيرون لا يعرفون ان تجارب مثل هذه تقف خلفها تضحيات كبيرة من الأفراد الذين يعملون فيها وسط سلبية قاتلة من الآخرين [على نحو مؤكد، هي مقابل الآية الكريمة: “اذهب انت وربك فقاتلا”]. وما هو غير معروف ايضا ان مشروعات كهذه، مجلات ادبية او فكرية او مؤسسات ثقافية أو فنية، نشأت واستمرت في مجتمعات الرأسمالية المتوحشة [والرأسمالية اللطيفة أيضا]، بفضل “الوقفيات” الثقافية التي تبدو مثل اختراع لم يصلنا بعد.