العولمة والسخط عليها Previous item ترسيخ الاعتدال.. ما الذي... Next item لماذا تتقبل ذهنيتنا...

العولمة والسخط عليها

د. محمد الصياد *

اختار جوزيف إي ستيجليتز الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 2001، من بين الموضوعات التي عايشها خلال فترة عمله رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون اعتبارا من عام 1993، ومن بعد ذلك، وتحديدا في عام 1997، في وظيفة كبير الاقتصاديين والنائب الأول للرئيس في البنك الدولي حتى يناير من عام 2000.فضلا عن عمله الأكاديمي الذي عاد ليمارسه استاذاً (بروفيسور) للمالية والاقتصاد بجامعة كولومبيا – اختار موضوع العولمة ليعيد من خلاله صياغة وجهة نظره في تحولات الاقتصاد العالمي وتداعياتها على البلدان والشعوب المتقدمة والنامية.

يقول ستيجليتز إن وجوده طوال تلك الفترة في الإدارة الاقتصادية للرئيس كلينتون وإدارة البنك الدولي – أي في القلب من أهم مواقع صناعة القرار في العالم – قد أتاح له فرصة تقييم التجربة العالمية في مجالي العولمة والتنمية اللذين أولاهما اهتماما خاصا. وانه قد كتب هذا المؤلّف عندما كان يعمل لدى البنك الدولي، حيث كان شاهدا مباشرا على الآثار المدمرة التي يمكن أن تلحقها العولمة بالدول النامية وخاصة الفقيرة منها.

وهو يقول انه يؤمن بأن العولمة بما هي إزالة كل الحواجز والقيود من أمام حرية التجارة وإحداث تكامل أعمق للاقتصادات الوطنية، يمكن أن تشكل قوة جيدة تتوفر على امكانيات لإغناء كل فرد في هذا العالم وخاصة الفقراء. ولكنه يؤمن بالمقابل بأن الطريقة التي تدار بها العولمة، والحال هذه، بما في ذلك الاتفاقيات الدولية التي أُبرمت (في إطار منظمة التجارة العالمية) والتي لعبت دورا كبيرا في إزالة تلك القيود، وكذلك السياسات التي جرى فرضها على الدول النامية خلال تطبيقات العولمة، يجب أن يعاد النظر والتفكير بشأنها بشكل جذري.

يقول هذا الاقتصادي الامريكي، انه قضَّى وقتاً طويلاً في البحث والتفكير في القضايا الاقتصادية والاجتماعية التي تعامل معها خلال سبع سنوات من عمله في واشنطن. وهو لذلك يرى أن من المهم جداً استبعاد العواطف والأيديولوجيات عند دراسة هذه القضايا، وذلك من خلال التركيز على الحقائق قبل اتخاذ أي قرار بشأن اختيار الطريقة المثلى للتعامل معها.

وهو يرى أن عمله في اليت الأبيض أولا عضواً ثم رئيساً لمجلس المستشارين الاقتصاديين للرئيس الأسبق بيل كلينتون(وهو مجلس يتكون من ثلاثة أشخاص يعينهم الرئيس لتقديم المشورة الاقتصادية للسلطة التنفيذية للحكومة الامريكية) وبعد ذلك عمله في البنك الدولي، قد كشف له بأن القرارات تُتخذ من منطلقات أيديولوجية وسياسية توافق مصالح ومعتقدات متخذي القرار، وليس على أساس الوقائع والحقائق التي يتم لي عنقها بما يناسب أهواء ومعتقدات أولئك المسؤولين.

ومن وحي عمله الأكاديمي ثم المهني، حيث كان قد وزع وقته بين البحث والكتابة في مجال الاقتصاد الرياضي المجرد والذي استخدمه لفتح فرع جديد في علم الاقتصاد وهو اقتصاديات المعلومات (Economics of Information)، وطرق موضوعات أخرى مثل اقتصاديات القطاع العام والتنمية والسياسة النقدية (Economics of public sector, development, and monitory policy).

كما استقى من تجربته الأكاديمية في إحدى الدول النامية المستقلة حديثاً (في كينياخلال الفترة من 1969-1971 واستقلالها في عام 1963)، دروسا دفعته للتأكيد على أن التحديات التي تواجه بلداً مثل كينيا وغيرها من الدول النامية هي تحديات جدية وحقيقية. إلا أنه بالإمكان، بواسطة سياسات اقتصادية رشيدة، عمل شيء لتحسين حياة مليارات البشر القاطنين في هذه البلدان. على أن تستهدف تلك السياسات وتضمن نمواً اقتصادياً تتساوى فرص الجميع في التنعم بحصاده. فأنا على سبيل المثال – يقول البروفيسور ستيلجيتز – مع الخصخصة، أي بيع الشركات الاحتكارية التابعة للدولة الى القطاع الخاص، ولكن بشرط أن تساعد تلك العملية على جعل أداء الشركات المباعة أكثر كفاءة، وأن تخفض أسعار منتجاتها بما هو في صالح جمهور المستهلكين. وهذا ممكن الحدوث في حال كانت المنافسة متوفرة في السوق، وهو أحد الأسباب التي تدعوني لدعم السياسات الواضحة للمنافسة.

وفيما خص العولمة، وهي محور دراسة ومناقشات الكتاب، فإن جوزيف ستيجليتز يؤكد بأن العولمة لا تعمل بصورة مرضية، لا بالنسبة للدول الفقيرة، ولا بالنسبة للبيئة التي تتهدد عناصرها الكثير من الأخطار، ولا بالنسبة لاستقرار الاقتصاد العالمي. وانه باستثناء قلة من الدول المتحولة اقتصاديا (Economies in Transition) مثل الصين وفيتنام وبعض بلدان أوروبا الشرقية، فإن الفقر آخذ في الاتساع عبر المعمورة مع تراجع المداخيل الفردية لمجاميع السكان.

وبالنسبة للبعض، فإن الجواب السهل والجاهز لهذه النتيجة هو التخلي عن العولمة. وهذا غير مجدي وغير مرغوب فيه أصلا. فبجانب مثالبها فإن للعولمة منافعها الكثيرة أيضا التي لا يمكن نكرانها سواء بالنسبة لتجربة جنوب شرق آسيا الناجحة في ضوء إدماج اقتصادياتها في الاقتصاد العالمي، أو بالنسبة لفرص النفاذ الى الأسواق (Market Access)، ونقل التكنولوجيا اللذين تتيحهما، أوالنسبة لتحسين مستويات الصحة العامة وتنشيط وتفعيل المجتمع المدني.

فالمشكلة لا تكمن في العولمة بقدر ما تكمن في كيفية إدارتها. وجزء من هذه المشكلة يتصل بالمؤسسات الاقتصادية العالمية، وتحديدا صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية التي تضع قواعد اللعبة الاقتصادية العالمية، بما هو في صالح الدول الصناعية المتقدمة على حساب الدول النامية. ولذا فإن المطلوب لمعالجة الخلل الحاصل في العولمة ما يلي:

  • أن تعود دعامات العولمة الأساسية، لاسيما صندوق النقد والبنك الدوليان، الى ممارسة مهمتهما الأصلية المتمثلة في مساعدة الدول على تجاوز أزماتها وتحقيق مزيد من الاستقرار للاقتصاد العالمي.
  • أن يكون هناك اهتمام موازٍ بالبيئة.
  • تمكين الدول النامية من عملية صناعة القرارات التي تمسها وتؤثر عليها.
  • تشجيع الديمقراطية والتجارة المنصفة (Fair Trade).

اليوم ويا للمفارقة، فإن الولايات المتحدة التي قادت بأسواقها العميقة التي كانت أول الأسواق التي انتقلت من المحلية الى العالمية وتحولت الى المرجع الأول للمستثمرين من جميع أنحاء العالم ولقراراتهم الاستثمارية الجارية والمستقبلية، والتي تصدرت الجهود الدولية لتحويل الإطار القديم المُنظِّم للتجارة الدولية وهو “الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة”جات”
(General Agreement on Tariffs and Trade – GATT)، التي تأسست عام 1947، الى إطار أشمل وأعمق يليق بمستوى التدويل الذي بلغته التجارة الدولية، وهو هنا “منظمة التجارة العالمية” (World Trade Organization – WTO)، وهو ما تم في ديسمبر عام 1994 – أي أن الولايات المتحدة التي كانت أول من بذر بذور العولمة ورعاها ودافع عنها وعن مزاياها ومكاسبها، هي اليوم من يقود الحملة ضد العولمة ويتخذ الاجراءات الأحادية لإقامة جدار عال من الحمائية، وذلك في استدعاء حي للأوتاركيا (Autarky)، وهي نزعة قديمة تعود لأيام الاغريق الذين اخترعوا فكرتها ومسماها، وذلك للدلالة على تفضيلهم سياسة الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن الاتجار والتعامل مع الخارج.

أما المفارقة الثانية التي لا تقل عن سابقتها إثارةً للحيرة والتعجب، فهي أن الصين التي يُفترض أنها شيوعية والتي بنت صروحها وحققت معجزتها الاقتصادية بفضل سياساتها التي تمزج بين التمكين من النفاذ الى أسواقها (Market Access) وبين الحمائية(Protectionism) الجامعة بين النعومة والغلظة، هي اليوم من يتقدم الصفوف للدفاع عن العولمة وعن مزاياها للاقتصاد العالمي ولشعوب العالم أجمع.

فالمثير، أن منظمي منتدى دافوس الاقتصادي السنوي لقادة المستويين السياسي والاقتصادي في العالم، في نسخة هذا العام (من 17-20 يناير 2017)، لم يجدو بُداً من الاستعانة بالزعيم الشيوعي رئيس جمهورية الصين الشعبية شي جين بينغ، ليحاضر أمامهم وأمام العالم عن حسنات العولمة وذلك رداً على موجة العداء لها التي أطلقها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وفريقه الجديد الحاكم. فيا لها من مفارقة؟ فقد أصبح الشيوعي هو الذي يدافع عن حرية التجارة ومزايا العولمة في حين يحاربها رأسمالي وملياردير مثل دونالد ترامب!

بدأ الرئيس الصيني خطابه أمام كبار قادة قطاعات الأعمال في العالم، باستدعاء بالغ الدلالة للتاريخ، مستعيناً بتعليقات الكاتب البريطاني الشهير شارلز ديكنز على الثورة الصناعية القائلة: “إنها أفضل الأوقات، إنها أسوأ الأوقات”، لتوصيف الحالة العالمية التجاذبية الراهنة بين “العولمة”و”الحمائية”، ففي حين تتعاظم الثروات العالمية ويتقدم العلم والتكنولوجيا بشكل مهول ومعهما الحضارة العالمية، نجد على الجانب الآخر تفجر الصراعات الاقليمية وتصاعد تحديات الارهاب والهجرة والفقر والبطالة واتساع فجوة المداخيل، ما أدخل العالم في اللايقين، ودفع الكثيرين حول العالم للقول بأن خطأً ما جسيما قد ارتكبته البشرية.

وقد اعتبر الرئيس الصيني بأن ما يحصل اليوم في العالم ليس بسبب العولمة الاقتصادية، وان مشكلة ملايين اللاجئين الذين تقطعت بهم السبل خلقتها الحروب، وتجاوزها يكمن في احلال السلام والمصالحة الوطنية.

أيضا فإن الأزمة المالية العالمية، مثال آخر على أن العولمة ليس لها يد في خلقها بقدر ما أن الذي أنشأها هو الجري المفرط لرأس المال المالي وراء الربح واخفاق أجهزة الاشراف والتنظيم الحكومية في ضبط حركة رأس المال في طوره الجامح. ومن الوجهة التاريخية، فإن العولمة الاقتصادية لم يصنعها الأفراد أو تصنعها الدول وإنما صنعها نمو الانتاجية المجتمعية، وهي ثمرة طبيعية للتقدم العلمي والتكنولوجي، وانها بدورها حقنت النمو الاقتصادي العالمي وسهلت انتقال السلع ورؤوس الأموال وأسهمت في التقدم العلمي والتكنولوجي والتلاقح والتلاقي الحضاري بين الشعوب.

لكن العولمة، والكلام للرئيس الصيني، سيف ذو حدين، فحين يكون الاقتصاد العالمي تحت الضغط، يصبح من الصعب تكبير كعكته إن لم يكن تصغيرها، ما يؤدي الى اختلال التوازن بين النمو وتوزيع حصيلة النمو، بين رأس المال والعمل، بين الكفاءة والمساواة. وهو ما تعرضت له الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء. في وقت من الأوقات، والكلام للرئيس الصيني، كان الشك يساور الصين حول العولمة وحول جدوى الالتحاق بمنظمة التجارة العالمية. لكن الصين أدركت أن التدويل والعولمة هما اتجاهان تاريخيان لا يمكن وقفهما، فكان أن اتخذت قرارها الشجاع بإلقاء نفسها في بحر السوق العالمية المتلاطم، فأخذت نصيبها من بعض حالات الاختناق لكنها تعلمت السباحة في أوقات “المد والجزر”، وتكيفت مع إنتقالتهاالمعولمة، بحلوها ومرها.

 

 

*الدكتور محمد الصياد اقتصادي بحريني يعمل مستشاراً في هيئة النفط والغاز بمملكة البحرين. عمل سابقاً مستشاراً لفرق التفاوض البحرينية في مفاوضات التجارة الحرة مع الولايات المتحدة. يكتب حاليا لصحيفة “الخليج” بدولة الامارات العربية المتحدة.

الكتاب ………………… GLOBALIZATION AND ITS DOSCONTENTS

تأليف:……………………….. جوزيف إي ستيغليتز – GOSIPH E STIGLITZ

الناشر: WW. NORTON & COMPANY  – نيويورك.

متوفر في مقع أمازون:

www.amazon.com/Globalization-Its-Discontents-Norton-Paperback/dp/0393324397/ref=asap_bc?ie=UTF8