محمد فاضل العبيدلي
تذكرني الرواية التي تداولتها الصحافة الخميس 9 مارس حول اختفاء أبوبكر البغدادي زعيم تنظيم داعش في الصحراء بتلك الروايات التي ترددت بعد قيام الولايات المتحدة بضرب افغانستان في أعقاب هجمات 11 سبتمبر حول اختفاء أسامة بن لادن في جبال تورا بورا.
لقد نقلت وكالة رويترز عن مصادر استخباراتية أميركية (كالعادة) وأخرى عراقية قولها إن البغدادي “هدف مراوغ”، نادراً ما يستخدم وسيلة اتصال يمكن مراقبتها، ويتنقل باستمرار، وفي كثير من الأحيان أكثر من مرة خلال اليوم الواحد.
وتضيف رويترز إن هذه المصادر الاستخباراتية “تعتقد، من خلال الجهود المبذولة لاقتفاء أثره، أنه يختبئ بين مدنيين متعاطفين معه في قرى صحراوية، وليس بين العناصر المسلحة في ثكناتهم أو في المناطق التي يدور فيها القتال”.
يذكرنا هذا بالمتعاطفين من القبائل الذين قاموا حسب الروايات الأميركية في 2001 باحتضان وحماية بن لادن في جبال افغانستان الوعرة قبل أن يكشف باراك اوباما في عام 2011 في روايته عن مقتل بن لادن على يد وحدة خاصة أميركية أن بن لادن كان يختبىء في منزل من طابقين في مدينة آبوت اباد في باكستان شمالي العاصمة إسلام أباد.
ومثلما تطلب الأمر بعضاً من الايحاءات البصرية، أفلام فيديو قصيرة مثل ذاك الفيلم الذي عرض لنا كلباً صغيراً يقف أمام ستارة وبعد قليل سقط أرضاً بفعل مخدر أو سم وقيل إن الفيلم قد عثرت عليه القوات الأميركية في قندهار في أحد مقرات القاعدة، علينا أن نتوقع الآن أفلاماً مماثلة سيتم العثور عليها في الموصل ونواحيها تظهر وحشية تنظيم داعش.
في ذلك الفيديو للجرو الصغير قيل انه جزءُ من تجارب تنظيم “القاعدة” لاختبار سموم وأسلحة بيولوجية. علينا الآن أن نتوقع شيئاً مماثلاً حول تنظيم داعش أو أفلاماً لعمليات إعدام أو تعذيب أو بيع فتيات مما اشتهر به هؤلاء المعتوهين.
أما جبال تورا بورا العصية التي حمت بن لادن وصحبه حسب الروايات الأميركية وقتذاك، فقد حل محلها الآن ما أسماه الخبراء الأميركيين والعراقيين “مدينة النمل”.
ففي يناير الماضي، نقل موقع الكتروني اسمه “بوابة الجيل الجديد” تقريراً بعنوان ذو وقع أخاذ: “الأساطير تحيط بمكان اختفاء أمير تنظيم داعش الإرهابي”. تدور الأساطير كلها حسب التقرير حول اختفاء البغدادي مدعومة بعبارات مثل هذه “عدم قدرة الاستخبارات الأميركية والبريطانية والفرنسية والعراقية وكذلك الروسية على التعرف على مكان اختبائه ومن أين يدير المعارك التي يخوضها التنظيم…”. وحسب التقرير فإن على رأس هذه الأساطير التي تلقى اهتمام أجهزة الاستخبارات (“مدينة النمل”)…”.
وبمزيد من التشويق يفصل التقرير بالقول إن “الاستخبارات الأميركية والعراقية تعتقد بأن تنظيم داعش حفر مدينة تحت الصحراء في منطقة الجزيرة الصحراوية الواقعة على الحدود العراقية السورية في منطقة تسمى البعاج “وأن” الاستخبارات أطلقت على هذه المدينة اسم “مدينة النمل” نظراً لوجودها تحت الأرض “وأن” هذه المدينة يعتقد أن أمير داعش أبو بكر البغدادي يختبئ فيها”.
يذكرنا هذا أيضا بأسطورة الزرقاوي أيضاً الذي لم يعرفه العالم إلا مع الغزو الأميركي للعراق، فالرجل ورد إسمه أول مرة على لسان كولن باول في خطابه الشهير في مجلس الأمم المتحدة الذي اتهم فيه العراق بإقامة صلات مع تنظيم القاعدة. وكان الزرقاوي نفسه قد اتصل بمسؤولين عراقيين وعرض عليهم تحالفاً بين تنظيم القاعدة والعراق لكن العراقيين لم يأخذوه على محمل الجد.
لكن تلك الزيارة وذلك الاتصال كان مطلوباً فقط لتوفير ذريعة للأميركيين ضمنها السيد باول في خطابه الشهير ذاك.
ومنذ إطاحة نظام صدام حسين، اصبح الزرقاوي اسماً يتردد بشكل يومي في العراق وكرس نفسه لمهمة محددة: “قتال الشيعة أعوان المحتل”. أي أن تنظيم القاعدة سيقاتل الشيعة عوضاً عن قتال المحتلين، وفيما بعد تحول الجيش الأميركي الى جهاز علاقات عامة للزرقاوي، فهو الذي سيؤكد لوكالات الأنباء صحة التسجيلات الصوتية المنسوبة له من عدمه وهو الذي سيخبرنا من فترة لأخرى أن الزرقاوي نجا من مداهمة للجيش الأميركي لأحد البيوت أو المقار الآمنة، وعندما اشتعلت الحرب الطائفية في العراق – وهي المهمة التي كرس الزرقاوي نفسه لتحقيقها عبر قتال الشيعة بدلا من قتال الاحتلال- أعلن عن وفاته.
لقد”توفي/قتل” بن لادن، لكن العالم لم يشاهد جثة له مثلما هو الحال مع الزرقاوي، فهؤلاء يظهرون فجأة ويخوضون معارك لم يفوضهم أحد بخوضها وينتهون فجأة دون أن يتركوا وراءهم أي أثر أو دليل اللهم إلا تلك الأدلة الفاقعة التي يتركها اتباعهم في مسارح جرائمهم: جوازات سفر وهويات كالعادة ودليل تعليم طيران بالعربية ونسخة من القرآن.. وبالطبع ثمة كاميرات جاهزة بفعل الصدف البحتة فحسب لتصوير الحدث كله.
الآن علينا أن ننشط خيالنا لتغيير جديد في تفاصيل القصص المليئة بالتشويق، فبدلا من جبال تورا بورا التي استعصت على الأقمار الصناعية العسكرية الأميركية التي توجه القذائف بدقة تدخلها في فتحات التهوية في المباني، علينا أن نتهيأ لفهم أسرار الاختباء في الصحاري، ولقد حظينا بتمهيد لا يخلو من إثارة:”مدن النمل”.